19 أبريل,2024

تجديد القراءة القرآنية

اطبع المقالة اطبع المقالة
تجديد القراءة القرآنية

 

اهتم الحداثيون كثيراً بمسألة إعادة قراءة القرآن الكريم، وطالبوا بقراءته قراءة تجديدية، مبررين ذلك بتطور العلوم اللغوية المعاصرة، والعلوم الإنسانية العامة، وقد حاولوا إعطاء هذه المطالبة بعداً شرعياً من خلال الاستناد لبعض الآيات القرآنية.

وقد اختلفت نيات هؤلاء في دعواهم، فبعضهم يطرح ذلك بنية حسنة، رغبة منه في حفظ عظمة الوحي، وإثبات صلاحية الشريعة المقدسة لكل زمان ومكان، ولعامة الأفراد، بينما همّ آخرين منهم ضرب الدين، والقضاء عليه.

ويعدّ السكوت عن هؤلاء في ما يدّعوه أمراً غير صالح، كما أن مجرد الاكتفاء بالحكم بضلالهم، وكفرهم وإلحادهم، يوجب لوم العقلاء، بل يلزم ملاحظة تلك الدعاوى والنظر فيها، رغبة في تميـيز صائبها من خاطئها، وبيان رأي الشرع الشريف واللغة وتحديد ما هو الواقع. خصوصاً وأن هذه الأطروحات قد استهوت الكثير من النخب المثقفة في أوساطنا الاجتماعية، وهي جاهلة بأمور الوحي وأمور الدين.

نظرية تجديد القراءة القرآنية:

ونحتاج في البداية أن نتعرف على مقصود هؤلاء في أطروحتهم إعادة قراءة القرآن الكريم، أو تجديد القراءة القرآنية.

إن مقصود هؤلاء بالقراءة الجديدة للقرآن، وضع منهجية جديدة ذات قوانين وأسس جديدة تختلف عن القراءة السابقة التي سار عليها المفسرون طيلة مما مضى من الزمن، وهو مدة أربعة عشر قرن تقريباً.

ويستندون في دعواهم إلى أن أعادة أي نص من النصوص أمر ممكن، وليس مستحيلاً، بل هو أمر واقع، من دون فرق بين النصوص، حتى لو كان النص الذي يراد إعادة قراءته نصاً دينياً مقدساً،  وقد تحقق ذلك فعلاً في الكتابين السماويـين التوراة والإنجيل، حيث أعيدت قراءتهما مرة أخرى، من خلال طرح ذلك بروح البحث والتساؤل، والتجرد عن روح العصمة والقداسة[1].

ولما كانت هذه القراءة الجديدة هي طريقنا للوصول إلى البحث العلمي، فيلزم أن يرفع عنها الحاجز المانع من حصولها والمتمثل في عنصر القداسة الإلهية العظمى التي تمنعنا من قراءة القرآن الكريم كنص لغوي مؤلف من تركيبات لغوية، ونحوية، وبلاغية[2].

ويزداد حاجز القداسة المانع من القراءة الجديدة عند الأفراد في بعض الموارد من الآيات القرآنية خصوصاً تلك التي تكون كثيرة الدوران في حياته اليومية، مثل سورة الفاتحة التي اعتاد على قراءتها كل يوم في صلواته الخمس. فإن هذا التكرار لهذه السورة، وكونها عنصراً أساسياً في صلاته يمثل حاجزاً يحول بينه وبين إعادة قراءتها قراءة جديدة[3].

هدف النظرية:

لكل نظرية من النظريات أهداف تسعى لتحقيقها من خلال تلك النظرية، فالنظريات العلمية المرتبط بالبعد الطبي، أو الاقتصادي مثلاً يكون لها هدف محدد تسعى لتحقيقه من خلالها.

ومن المفترض أن يكون لنظرية تجديد القراءة القرآنية أهداف تسعى للوصول إليها من خلالها أيضاً شأنها شأن بقية النظريات الأخرى، ويمكن تلخيص أهداف النظرية المذكورة في هدفين، وفقاً لما هو المستفاد من كلمات أصحابها، وهما:

الأول: فهم القرآن الكريم بصورة صحيحة:

لا ريب أن هناك هدفاً سامياً يرغب جميع المسلمين الوصول إليه، وهو فهم القرآن الكريم بصورة صحيحة، وحتى يمكنهم أن يفهموه بهذه الكيفية، فإنهم يحتاجون إلى الإحاطة بالوضع التاريخي الذي كان سائداً في زمن نزول القرآن الكريم على النبي الأكرم محمد(ص)،  وذلك بدراسة المؤثرات الدخيلة في سوره وأحاديثه، بحيث نقرأه قراءة تزامنية لتعتبر بمثابة الموثوقة تاريخياً. ولما كان القرآن الكريم لا يخرج عن بقية النصوص الأخرى، فيلزم أن يحيط قارئه بجميع المؤثرات الداخلية والخارجية المحيطة به، لذا يلزم قراءة التاريخ الإسلامي بشكل آخر، ولا يقتصر في ذلك على خصوص ما تضمنته المصادر التاريخية المكتوبة، بل لابد من ضم دراسة النقوش والآثار المتبقية التي تكشف بدورها عن علوم لم تكن ملفوظة، فلم يكن التاريخ المكتوب قادراً على قراءتها، فضلاً عن حكايتها.

كما أنه يحتاج القارئ للقرآن الكريم، إلى دراسة صائغات الخطاب أو مشكلاته، التي تصوغه على هيئة معينة، فندرس بشكل متتابع المعرفات من أدوات التعريف، والتنكير، والضمائر، والصفات، ثم يدرس النظام الفعلي، كما يدرس النظام الاسمي، ثم تدرس البنى النحوية، ويدرس أيضاً النظم والإيقاع، وما يرتبط بها من نظم وعروض، وهكذا. فإننا كلما دققنا في ذلك اقتربنا من إدراك مراد المتكلم[4].

وبناءً على ما تقدم، سوف نحتاج إلى كتابة معجم لفظي يشمل اللغة العربية القديمة، ودراسة اللهجات العربية المعروفة، لكي نفهم الألفاظ القرآنية فهماً تاماً، وليس فهماً كلاسيكياً تقليدياً كما فهمه المفسرون وغيرهم[5].

والحاصل، إننا اليوم  بحاجة إلى منهجية لفهم القرآن الكريم، على حقيقته، فيتوافق فهمه مع فهم من عاصره[6].

الثاني: إيجاد دراسات قرآنية:

ليس خفياً على أحد من المهتمين بالشأن القرآني، ما تعانيه الدراسات القرآنية، من تأخر كبير بالقياس إلى الدراسات الموجودة بالنسبة للكتابين السماويـين الآخرين، أعني التوراة والإنجيل التي يجب أن نقارنهما بها بصورة مستمرة بتطبيق منهجية النقد التاريخي عليها[7].

وعند محاولة دراسة أسباب المشكلة التي أدت إلى ذلك نجدها تكاد تنحصر في الهالة القدسية المحاط بها القرآن الكريم والتي حالت دون ذلك.

كما أن الدراسات القرآنية الموجودة على قلتها، تفتقد إلى الأسلوب الأكاديمي الممنهج والموثوق، كالدراسات التبسيطية الموجودة عن التوراة والإنجيل، والتي توضح للجمهور أعقد النظريات وآخر مستجدات البحث العلمي[8].

ولأن المستشرقين لا يعيشون حالة القداسة للقرآن الكريم، نجدهم عمدوا إلى إجراء دراسات متعددة عن القرآن الكريم، فظهرت دراسات عن النصوص دقيقة تشكل فكراً دينياً جديرا باللحظة الراهنة، ما أوجب تقدمهم بينما بقي المسلمون الأصل يعانون شللاً فكرياً.

منطق فهم القرآن الكريم:

وقبل أن نعمد للوقوف مع النظرية المذكورة، يلزم أن نحيط بالطريق الذي يمكن فهم القرآن من خلاله، فما هو الطريق لذلك؟

إن المستفاد من كلمات الأعلام، وجود طريقين يمكن فهم القرآن الكريم من خلالهما، وهما:

الأول: الاعتماد على قواعد الظهور العرفي:

ومن الواضح، أن لهذا علاقة وارتباطاً بمباحث اللغة، من نحو وصرف وبلاغة، ولذا يركز دائماً على أنه يلزم لكل من يتصدى لتفسير القرآن الكريم، وبيان معاني آياته أن يكون محيطاً بعلوم اللغة العربية، ويعدّ ذلك شرطاً لازماً فيه.

ومع أخذ شرطية الإحاطة بالعلوم العربية في بيان القرآن الكريم وشرح مفاهيمه ومفرداته، يطرح السؤال التالي:

لقد تطورت علوم اللغة العربية، وأخذت بعداً جديداً مغايراً لما كانت عليه في زمن النبي الأكرم محمد(ص)، وهذا يدعو إلى تغير في الحقائق والمعاني المستفادة منها، فيستوجب ذلك تغيراً في المعاني المستفادة من الألفاظ. لهذا نحن بحاجة إلى قراءة جديدة مغايرة للقراءة التي كانت موجودة سابقاً.

ويجاب عنه، بأنه لم يحصل أي تطور في علم اللغة العربية عما كان عليه الأمر سابقاً، عمدة ما كان أن تلك القواعد التي كان يعمل بها لم تكن مجموعة بصورة واضحة، فتم جمعها، وتبويبها بنحو أعطى سهولة تناولها والإحاطة بها فضلاً عن الاطلاع عليها، وتطبيقها في الموارد المرتبطة بها.  ومنه يتضح أن ما يتصور اليوم أنه نحو من زيادة التدقيق والتأمل ليس كما ينبغي، بل هو تفصيل لما سبق إيجازه، وإيضاح لما تقدم إجماله في العصور السابقة، وهذا يعني أن التفاسير المتأخرة لا تخرج بزيادة عما هو موجود في تفاسير المتقدمين، وإنما أقصى ما يظهر زيادة بيان وإيضاح، لما كان موجزاً ومجملاً، فلا يعدّ ربط الآيات القرآنية بعضها ببعض المعروف بتفسير القرآن بالقرآن، شيئاً جديداً مغايراً لما عليه المفسرون الأوائل، ومثل ذلك يجري في التفسير الموضوعي الذي يقوم على التركيز على مفهوم من المفاهيم المذكورة في القرآن الكريم، كمفهوم التقوى، وجمع الآيات المرتبطة به والحديث عن كل ما تضمنه القرآن من أمور ترتبط به، وهكذا ما يكون مرتبطاً بالمباحث العقدية، والاجتماعية، وغير ذلك.

ويعتبر في حجية الظهور العرفي أن لا يكون هناك قرينة دالة على خلافه، وإلا كان ذلك مانعاً من حجيته، فلا يحكم بحجية الظهور إلا بعد البحث عن فقدان القرينة الموجبة لصرفه عن ظاهره، سواء كانت القرينة قرينة داخلية لتشكل قرينة متصلة بالكلام، أم كانت القرينة خارجية لتكون قرينة منفصلة عنه، وسواء كانت القرينة لفظية، أم كانت قرينة مقامية حالية حافة بالكلام.

وما ذكر من اعتبار الفحص عن القرائن قبل ترتيب أثر على الظهور العرفي للفظ يتوافق والمنهج العقلائي في مقام المحاورات العرفية، فإن سيرة العقلاء منعقدة على ذلك، حيث أنهم لا يرتبون أثراً على أي ظهور للفظ ما، إلا بعد أن يبحثوا عن القرائن المرتبطة به، فإن لم يجدوا قرينة تحوطه تمنع من حجية الظهور المنعقد له رتبوا على ذلك أثراً، وإلا فلا.

ومن المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل على وفق المنهج العقلائي في طريقة المحاورة، وليس القرآن مغايراً لمنهج العقلاء في ذلك. وعليه سوف يشتمل القرآن الكريم على الكناية والاستعارة، بل قيل يشتمل على المجاز أيضاً، لأن هذه الأمور تتوافق والمنهج العقلائي في مقام التحاور، ما دام هناك غرض أصلي لها في درك الحقائق، مستفيدين من علم البلاغة في ذلك.

وهذا الالتزام بالمنهج الذي نزل به القرآن الكريم، يجعلنا في غنى عن المنهج المتبع دفاعاً عن اليهودية والمسيحية، عندما انتقدتا كثيراً بسبب ما أشتمل عليه الكتابان المقدسان من موضوعات تخالف العقل وتنافي العلم، ما أدى إلى فقدان الكتابين قدسيتهما، فبرر ذلك بأنهما قد نزلا بلغة خاصة تمتاز عن لغة العقلاء وخطاباتهم الحاكية عن الواقع، فهما لديهما لغة خاصة بهما لا يمكن لكل أحد أن يعيها، لأنها تعابير رمزية لا تكشف عن واقع خارجي[9].

الثاني: الرجوع للسنة الشريفة:

وهي النصوص الصادرة عن المعصومين(ع) كالنبي الأكرم محمد(ص)، أو الأئمة الأطهار من بعده(ع) بياناً وشرحاً وتفسيراً للآيات القرآنية، ورفعاً لغوامضها.

ولقد ألفت تفاسير عديدة تنطوي على تلك النصوص، تمثل الفهم المعصومي للمفاهيم والمعارف التي تضمنها القرآن الكريم.

وقد تخرج على يدي النبي(ص) العديد من الصحابة في هذا المجال، وبرع منهم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، وقد كانا مرجعين للمسلمين في كثير من المواقف لبيان المعارف القرآنية، وأعظم من هذين كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع).

وكذا وجد تلامذة مفسرين لكل واحد من الأئمة الأطهار(ع)، بل قد نسب للإمام الحسن العسكري(ع) تفسير أملاه على بعض من حضر لديه.

ولعل الاقتصار على خصوص النصوص الروائية لبيان المفاهيم القرآنية والإحاطة بمعارفه ليس كافياً، بل ينبغي أن يضاف إلى ذلك ضم القواعد المعرفية ذات اليقين، مع الكشف عن قوة مبانيها.

وقد عمل بكل واحد من الطريقين جمع من الأعلام، فأتخذه منهجاً يفهم القرآن الكريم بواسطته، بل ربما قرر بعضهم أنه الطريق الأكمل للوصول للمعارف القرآنية دون الطريق الآخر.

والحق، أن يلتـزم بكلا الطريق ويزاوج بينهما، فلا غنى للمفسر عن الاستعانة بهما معاً ليحصل له فهم القرآن الكريم، خصوصاً وأن بعض الموارد لا يكفي فيها هذا دون ذاك، وهذا يطلب من محله في البحوث التفسيرية.

مناقشة النظرية:

وقبل أن يعمد للنظر في النظرية المطروحة قبولاً أو رفضا، نحتاج أن نمهد بذكر مقدمات لازمة لكل من يود البحث والحديث حول القرآن الكريم:

الأولى: إن من المتفق عليه عند العقلاء ان التعامل مع أي نص من النصوص وفي كل لغة من اللغات يخضع لقواعد عقلائية ثابتة لا يطرأ عليها التغير ولا يصيبها التبدل، سواء تغير الزمان، أم تغير المكان، أم تغيرت الأفراد. ويشهد لذلك سيرة العقلاء المنعقدة على العمل بقاعدة الظهور العرفي، وحكم بحجية هذه القاعدة، والتي ترجع إليها جميع القواعد اللفظية المرتبطة بالنصوص اللفظية، ولما كان القرآن الكريم نصاً من النصوص، وهو قد نزل وفق الأسلوب العقلائي في مقام المحاورة، فيجري فيه ما يجري في كافة النصوص.

الثانية: من المعروف أن الخطابات القرآنية جاءت بصيغة القضايا الحقيقة، وليس القضايا الخارجية، وهذا يمنع اختصاصها بالمعاصرين للقرآن الكريم حال نزوله، بل لا يوجد أي ميزة لهم على الآخرين، فالقرآن يخاطب الجميع على حدّ سواء بمختلف الطبقات الاجتماعية والفكرية والثقافية، وقد كان ذلك موجباً لمراعاة الخطاب القرآني للجميع، حتى يستفيدون منه، فتجد أن العوام يفهمونه، كما أن المختصين يأنسون به.

الثالثة: إننا نعتقد أن القرآن الكريم قد صدر من متكلم عالم مطلقاً، لا أحد أعلم منه، بل لا أحد يدانيه في علمه سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته. وهو عالم بعلمه الأزلي بجميع الأفراد الذين سوف يوجدهم إلى يوم القيامة، كما أنه عالم بما أودعه فيهم من طاقات وقدرات، مدرك لكافة احتياجاتهم، ومطلع على الخطاب المناسب لهم. وهذا يعني أن ما صدر عنه سبحانه وتعالى من نص لابد وأن يكون مناسباً لهم، في كل عصر وزمان، من دون فرق بين فرد وفرد.

الرابعة: إننا لا نرفض العلوم الحديثة التي يمكن استكشافها من القرآن الكريم، والبناء على دلالة الآيات الشريفة عليها، وإنما لا ينبغي الجزم بكون المعنى المتصور تفسيراً للآية في البحوث العلمية هو المقصود الجزمي للباري سبحانه وتعالى، ذلك أن من الممكن ظهور بطلان النظرية العلمية بعد حقبة من الزمن، وهذا لا يتصور في القرآن الكريم، لأنه لا يأتيه الباطل أبداً.

وبعد الإحاطة بهذه المقدمات، نشير إلى محتوى النظرية المذكورة لملاحظتها من حيث التمامية وعدمه، فنقول، تقوم النظرية المذكورة على مقتض ووجود مانع، فأما المقتضي الذي تدعو لتوفره النظرية المذكورة، فيتمثل في دعوتها لإعادة القراءة القرآنية قراءة تجديدية، والمانع من تحقق ذلك، هو ما يحاط به القرآن الكريم من هالة وعظمة وقداسة.

وبالجملة، هنا مطلبان أساسيان تقوم عليه النظرية المذكورة:

الأول: الدعوة إلى تجديد القراءة القرآنية.

الثاني: مانعية القداسة الموجودة حول القرآن الكريم.

وحتى يمكن النظر في النظرية المذكورة لمعرفة صحتها من سقمها، لابد من أن يحاط بالمقصود بكلا المفردتين، وتحديد المراد منهما، وعليه نقول:

التجديد وإعادة القراءة:

أما المفردة الأول، فيوجد فيها احتمالان:

الأول: أن يكون المقصود من إعادة القراءة وتجديدها، يعني التعمق والتأمل في الآيات القرآنية بشكل أكبر وأوسع وذلك من خلال أمرين:

1-الاستفادة من العلوم الحديثة التي لها صلة وارتباط بالعلوم القرآنية، مثل علم اللغة، من نحو وصرف وبلاغة.

2-ربط المباحث القرآنية بعضها مع بعض.

الثاني: أن يكون المقصود من تجديد القراءة وإعادتها، هو تطبيق ما تم تطبيقه على الكتابين السماويـين الآخرين، التوراة والإنجيل اللذين تعرضا للتحريف، والغاية من ذلك رفع مستوى القرآن ليكون مواكباً للعصر الحاضر.

ومن الواضح، أن القبول بالاحتمال الثاني يتوقف على الالتـزام بحصول التحريف في القرآن الكريم كما حصل ذلك في الكتابين السماويـين، وهذا يعني أنه لو نفي حصول التحريف فيه، كما هو الحق الذي لا مرية فيه، فإنه لن يكون للهدف المنشود الوصول إليه معنى، فإن موجب إعادة القراءة للكتابيـين السماويـين الآخرين، كانت غايتها تنقيتهما مما قد جرى فيهما ووقع عليهما من التحريف، كما أشير إليه قبل قليل، وهذا غير متوهم في القرآن الكريم، كونه لم يعرضه تحريف أصلاً.

وكيف ما كان، فإنه لو قصد من التجديد والإعادة للقراءة هو الاحتمال الثاني، فإنه مرفوض، ولا مجال للقبول به أصلاً، لما عرفت قبل قليل من أن المفاهيم التي تضمنها القرآن الكريم، شاملة لكل زمان ومكان، ومواكبة لكل وضع حياتي متقدم ومتطور، وليست مختصة بحقبة زمنية محددة، أو ببقعة في الأرض.

مضافاً إلى أن هذا المحتمل يقوم على التسليم بوقوع التحريف، وقد عرفت منعه، ما يعني أن الأساس الذي قامت عليه النظرية وعدّ ركناً قويماً فيها، باطل، فلا مجال للبناء عليها.

أما لو كان المقصود من النظرية محل البحث، هو الاحتمال الأول، فلا إشكال في حسنه ومطلوبيته لكل أحد، ولا مجال للمنع عنه، أو رفضه، لو لم نقل أنه واقع ومتحقق خارجاً، من خلال الدراسات القرآنية المتكثرة التي تقوم على دراسة القرآن الكريم من جوانب متعدة، فنجد من يعمد إلى دراسة الأساليب البلاغية والبيانية في القرآن الكريم، كما أن هناك من يركز على البعد التركيبي للمفردات والجمل، وآخر، يجعل همه في معرفة دواعي استعمال الألفاظ ودلالتها ومعانيها، وهكذا.

بل إن هناك العديد من الدراسات التي حاولت إبراز الأبعاد العلمية والنظرية الفكرية التي تضمنها القرآن الكريم، وفي مجالات مختلفة، سواء في علم الاقتصاد، أم علم الأحياء، أم علم الأسرة والتربية والاجتماع، وغير ذلك.

والحاصل، إن التعمق وزيادة التأمل، وإطالة النظر وإعمال الفكر في الآيات القرآنية، والتدبر في مضامينها من الأمور المطلوبة والمحثوث عليها، وهي ممارسة فعلاً، وإن كنا نطالب بأكثر من ذلك، لعظمة هذا الكتاب، وقدسيته، ومكانته التي بعدُ لم يصل العنصر البشري للإحاطة بكل ما فيه من علوم ومعاني، ومفاهيم.

وقد تحصل مما تقدم، أن النظرية المذكورة فيها احتمالان، يمكن القبول بها وفقاً لأحدهما، ولا مجال لتصورها وفقاً للآخر، فلاحظ.

القداسة والتقديس:

وأما المفردة الثانية، فإن أول ما نواجهه مع أصحاب هكذا أطروحات عدم وضوح مقصودهم من هكذا تعبير، وأظن أن المفهوم المذكور ليس واضحاً جلياً بالنسبة إليهم، ويحتمل أنهم يستخدمونه بصورة مطاطية يسعون من خلالها للمراوغة، وحتى لا يكون الكلام جزافياً، أقرب مدعاي بمثال يثبت ذلك، لقد أتهم بعض الحداثيـين الحوزة بالقداسة، حيث يقول: المحاججة العلمية تبتدئ من المراتب الدانية، كل أنواع المناقشة والانتقاد تكون متاحة في هذا المجال الأدنى، ولكن بمجرد أن نصل إلى تلك المنطقة المقدسة، فإن وظيفتنا هي التسليم والفهم[10].

وقد طرحت محتملات ثلاثة في تحديد المقصود من التقديس في المقام:

أحدها: أنه الذي لا يقبل الانتقاد.

ثانيها: ما يكون مطابقاً للواقع، ولا يحتمل فيه الخطأ.

ثالثها: ما يكون حجة على المكلف.

ولا يوجد في أي واحد من هذه المحتملات ما يثبت دعوى هؤلاء، ذلك أنه لو بني على المحتمل الأول، فإن من المسلم به وجود المناقشة بين العلماء بعضهم مع بعض في الآراء، إذ أن قراءة سريعة للحركة العلمية في الحوزة تكشف عن ذلك.

أما لو كان المقصود هو الاحتمال الثاني، فإن المعروف عندنا أن الأحكام الصادرة من الفقهاء، أحكام ظاهرية يطلب بها إحراز الواقع، ولا يقول أحد من الفقهاء بأن فتاواه أحكام واقعية مطابقة لما يوجد في لوح الواقع، بل هناك بحث يشار إليه في علم الأصول، وهو ما إذا لم يوافق الحكم الظاهري الحكم الواقعي، وبين العلماء كلام طويل، في إجزائه وعدم إجزائه حال العلم بالمخالفة، وتفصيل بعضهم بين ما إذا كان مستند الحكم الظاهري أمارة، أو أن مستندها أصل، وهكذا، فكيف يقال بعد ذلك أن المقصود من التقديس هو الأمر المطابق للواقع، والذي لا يتصور فيه الخطأ.

أما لو كان البناء على أن المقصود بالقداسة هو المعنى الثالث، فإن ملاحظة فتاوى الفقهاء الناجمة من إعمال كل منهم لملكة الاجتهاد الموجودة عنده مانعة من القبول به، إذ أن هناك اختلافاً اجتهادياً بينهم في الفتاوى، وهذا يعني أنه لا يمكن الجزم بذلك، نعم هي أحكام ظاهرية توجب إفراغ الذمة من التكليف، ما لم يعلم بمخالفتها للواقع، لأنه لا يمكن الجزم بمطابقتها له، لأن الحكم الواقعي موجود عند الله تعالى.

والحاصل، إننا نبقى نعيش مع هؤلاء بهذه الطريقة، لا نملك إلا أن نضع ما يتصور من محتملات، وما يحتمل في كلماتهم، دون أن نجد لذلك معنى جلياً واضحاً.

وليس الأمر منحصراً في هذه المفردة فقط، بل يمكننا تدعيم ما ذكرنا بمثال آخر، إذ نجد هؤلاء يطالبون كثيراً بتجديد الخطاب الديني، وعندما نحاول أن نتعرف على ما هو المقصود من تجديد الخطاب الديني، لا نجد في كلماتهم ما يشير إلى بيان حقيقة واضحة، بل نجد مجموعة من كلمات متناثرة دون أن نقف فيها على حقيقة جلية ومبينة، وهذا يستوجب أن تكون هناك عدة محتملات تذكر في البين:

منها: أن يكون المقصود منه تغيـير جميع الأحكام الشرعية التي صدرت من النبي الأكرم محمد(ص)، والأئمة الأطهار من بعده(ع)، لأنها غير ملائمة لما عليه العصر اليوم، فإنها قد شرعت بما يكون مناسباً وملائماً لتك الأزمنة التي تختلف اختلافاً كلياً لما عليه زماننا اليوم.

ومنها: ليس المقصود من التجديد في الخطاب الديني، التصرف في الأدلة الشرعية من الآيات الشريفة والنصوص، وإنما يقصد بذلك التغيـير في طريقة الاجتهاد وإعمال الملكة، فلا يراد منه التصرف في الثوابت والمسلمات، بل يقصد به أن تغير الطريقة المتبعة في عملية الاستنباط.

ومنها: إن المطلوب في عملية تجديد الخطاب الديني هو إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية الصادرة منذ القديم، فيعاد صياغتها بما يكون ملائماً وموافقاً لهذا العصر.

ويختلف هذا المحتمل عن الاحتمال الأول، في أنه لا يطالب بالتغيـير لجميع الأحكام كما في الاحتمال الأول، وإنما يطالب بتغييـر بعض الأحكام فقط، فهو أضيق دائرة من الاحتمال الأول كما لا يخفى.

ومنها: إن المقصود بذلك عدم حصر إصدار الأحكام في جهة واحدة معينة، بل نحتاج أن نفتح الباب لمشاركة آخرين من ذوي الاختصاص في إصدارها فيشاركون في ذلك.

وغير ذلك مما يمكن أن يطرح من محتملات متصورة في المقام، قد يطول البحث باستعراضها.

وأنت خبير بأن جميع هذه المحتملات، لا تتنافى والأطروحة الدينية، بحيث يستوجب ذلك الدعوة إلى ما يسمى في كلماتهم بتجديد الخطاب الديني.

وبالجملة، إن مطاطية المفردات المستخدمة في كلمات هؤلاء تعدّ مانعاً من الدخول معهم في نقاش علمي واضح، لأنه مهما أغلق عليهم طريق، فإنهم سوف يدعون أنهم لا يقصدون ذلك، بل يقصدون شيئاً آخر، بل ربما أدعي أنك لم تصل إلى فهم  ما يريدون، ولم تحط بمرادهم، لذا أنت عاجز عن مناقشتهم أو الرد عليهم، وهناك من الأمثلة الحية ما يؤكد ذلك[11].

وكيف ما كان، فسوف نشير إلى أمرين يجيبان عن عقدة القداسة الموجودة في كلمات هؤلاء:

الأول: لا أظن أحداً من العقلاء يقول بلسان قاطع وبصورة مطلقة برفض القداسة لأجل عنوان القداسة، بل إن من المسلم به أن يعمد العقلاء إلى التفريق بين التقديس الذي يكون بصورة حسنة ومقبولة وبين التقديس الذي يكون بصورة خاطئة مرفوضة، ونقصد بالتقديس الذي يكون بصورة حسنة، هو ما يكون لكل أمر قائم على وفق الدليل والبرهاني المنطقي المتكامل، فإنه لا يوجد عند العقلاء أي حزازة في تقديس ما ينتج عنه من معارف، ومفاهيم معرفية وعلمية وفكرية، بل يرون أن ذلك من الأمور اللازمة، وسوف يقومون بلوم كل من لم يول ذلك الأمر احتراماً، فلو وجدوا شخصاً قابل ذلك الأمر بتخطئة أو برفض، فإنهم سوف يلومونه.

ومن هنا يتضح أن العقلاء لا يقبلون بالقداسة التي تكون حائلاً بين التحقيق والبحث العلمي، والمانعة من التقدم.

ومن المعلوم أن المسلمين، ومنهم علماء الدين، ليسوا خارجين عن منهج العقلاء، ولا سائرين على خلافهم، وهذا يعني أنهم يلتـزمون أيضاً برفض التقديس الذي يوجب إغلاق باب المعرفة، والتحقيق والرقي والتطور المعرفي.

الثاني: قد عرفت تركيز هؤلاء في دعواهم عدم النظر في القرآن الكريم إلى مسألة الهيبة الإلهية للكتاب الكريم، بل لبعض سوره المتكررة في الأعمال العبادية كل يوم.

وهذا كلام غريب جداً، فإن وجود هذه الهيبة للذات المقدسة، لم يقف حاجزاً للمفسرين من بحث هذه المطالب وبصورة مفصلة جداً، ويشهد لما ذكرنا ما ألف من كتب وكتب من مقالات حول سورة الفاتحة على سبيل المثال، لدرجة أن القارئ قد يجدها أنها لقيت اهتماماً خاصاً من العديد من المفسرين، وحظيت بما لم يحظ به غيرها من السور القرآنية الأخرى[12].

[1] القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص 119.

[2] المصدر السابق ص 123، 121

[3] المصدر السابق ص 119، وليعلم أننا قد حاولنا المحافظة على كلمات الكاتب المذكور قدر المستطاع، ولم نتصرف إلا في جزء يسير بما يقتضيه مسار البحث.

[4] المصدر السابق ص 119، 125.

[5] المصدر السابق ص 107.

[6] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل ص 40.

[7] المصدر السابق ص 22.

[8] المصدر السابق ص 29.

[9] مجلة نصوص معاصرة العدد الرابع ص 146.

[10] القبض والبسط في الشريعة ص 24.

[11] منها قضية سروش في دعوى بشرية الوحي، فإنهم لما نوقش من قبل بعض الأعلام، أدعى أنه لم يكن يقصد ما فهم من كلامه، بل كان يقصد شيئاً آخر، وهكذا.

[12] موسوعة المعارف الإسلامية ج 2(بتصرف).