28 مارس,2024

بشرية الإمامة(4)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

  • بشرية الإمامة(4)

علم المعصومين بالغيب:

وأما مسألة علم الأئمة الأطهار(ع) بالغيب، وأن علمهم(ع) لدني، فيمكن الاستدلال له بالأدلة الثلاثة، القرآن الكريم، والسنة المباركة، والعقل.

 

أما القرآن الكريم، فقد يستند لجملة من الآيات الشريفة:

 

منها: قوله تعالى:- (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)[1] ، وقد تضمنت الآية الشريفة احتجاج النبي الأكرم محمد(ص) بشاهدين، وهما:

1-الباري سبحانه وتعالى.

2-من عنده علم الكتاب.

 

ولما كانت السورة مكية، فإن هذا يدفع الاحتمالات المتصورة في المقصود بمن عنده علم الكتاب، وأنه ليس شخصاً من اليهود أو النصارى، لعدم إيمان أحد منهم في تلك الفترة، فيكون المقصود به شخصاً آخر، وقد دلت النصوص على أنه أمير المؤمنين(ع). فيكون المستفاد من الآية عندها وجود علم الكتاب عنده(ع)، بحيث لا يوجد شيء في الكتاب إلا هو يعلم به، والمقصود من الكتاب هو القرآن الكريم، بوجوده التكويني، في مقابل الوجود الكتبي له، وبناءً على ما تقدم، يقرر وجود العلم والإحاطة التامة بكل الأمور والأشياء لأمير المؤمنين(ع)، لأنه يملك علم الكتاب التكويني وفقاً للآية الشريفة، وهذا يثبت وجود علمه بالغيب وهو المطلوب.

 

ومنها: قوله تعالى:- (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)[2]، وتتضح دلالتها على المدعى عند الإحاطة بمنشأ فضل آدم(ع) على الملائكة، من خلال ما حصل عليه من التعليم، وأنه ليس مجرد العلم بالأسماء التي علّمها الله سبحانه وتعالى إياه. وإنما بالنظر إلى نوعية العلم الذي أمتلكه آدم(ع) فإنها تختلف عن نوعية العلم التي حصل عليها الملائكة، فإن المستفاد من الآيات الشريفة أن نوعية علمه(ع) من العلم اللدني الحضوري الذي يكون بنحو الإلهام والإشراق من خلال إلقاء المعلم للمتعلم ذلك. ووجود هذا العلم عنده كان سبباً لاستحقاقه منصب الولاية والرتبة التكوينية، فإذا كان آدم(ع) قد حظي بمثل هذا التشريف من الله تعالى، فالنبي محمد(ص) أولى من آدم(ع) بأن يكون ممتلكاً لهذا العلم الحضوري اللدني، وكذا أهل بيته(ع) الذين هم نفسه الشريفة.

 

ومن السنة، فإن هناك نصوصاً يستند إليها في إثبات علمه(ع) بالغيب:

 

منها: حديث الثقلين الذي رواه الفريقان، وهو وإن اختلفت صيغ روايته، إلا أن موضع الاستدلال به محط وفاق عند كل من رواه، قال (ص): إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير قد أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. ومقتضى أنهم(ع) عدل للقرآن الكريم، يستدعي أن يكونوا محيطين بكل شيء، وعالمين بكل ما فيه، حتى لا يحصل الافتراق بينهما، لأنه لو لم يكونوا كذلك لزم من ذلك حصول الافتراق، وقد عرفت إخباره سبحانه وتعالى عن الله عز وجل أنهما لن يفترقا، فيثبت المطلوب.

ومنها: ما تضمن علمهم(ع) في اللوح المحفوظ، ففي حديث أمير المؤمنين(ع) مع سلمان وأبي ذر(رض)، قال: وأنا صاحب اللوح المحفوظ، وألهمني الله عز وجل علم ما فيه[3].

 

ومنها: ما ورد من أن عندهم الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى، وعلم الكتاب، فقد روى عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله(ع) قال: كنت عنده فذكروا سليمان(ع) وما أعطي من العلم، وما أوتي من الملك، فقال لي: ما أعطي سليمان بن داود؟ إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله:- (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) وكان والله عند علي(ع) علم الكتاب، فقلت: صدقت والله جعلت فداك[4].

 

ومنها: النصوص التي نصت على أنهم(ع) ورثة علم الأنبياء(ع)، فعن أمير المؤمنين(ع) قال: ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلى الأرض وجميع ما فضلت به النبيون إلى خاتم النبيـين في عترة خاتم النبيـن[5].

وأما العقل، فإنه يمكن تقريب حكمه بلزوم كونهم عالمين بالغيب، بملاحظة أن المنصب والمسؤولية المناطة بالمعصوم(ع) يستدعي أن يمتلك شروطاً وخصائص تؤهله لتحمل تلك الوظيفة والقيام بتلك المسؤوليات المطلوبة منه. ولابد أن تعطيه تلك الشروط والخصائص امتيازاً على جميع الموجودين في عصره بحيث يكون أكملهم علماً ومعرفة، وهكذا.

 

وهذا يعني أن العقل يحكم بلزوم كون المعصوم في زمانه أعلم الرعية، وأكمل معرفة، وإلا عدّ ناقصاً، ووجود النقص يمنع من أن يكون في موضع المسؤولية التي أعد لها[6].

 

عصمة الأئمة الأطهار:

وأما عصمتهم(ع) مطلقاً عن كل معصية وذنب، صغيراً كان م كبيراً، عمداً كان أو سهواً، فيستدل عليه بالأدلة الثلاثة أيضاً:

 

فمن القرآن، يمكن التمسك بآيات:

 

 منها: آية التطهير، وهي قوله تعالى:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)[7]، وتقريب دلالتها على المطلوب بلحاظ مفردتين وقعتا فيها، وهما مفردة الإرادة، ومفردة الرجس، فإن الأولى منهما فيها احتمالان:

 

الأول: الإرادة التكوينية، وهي التي تكون متعلقة بخلق الأشياء وإيجادها، ويشير إليها قوله تعالى:- (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)[8]، ومن خصوصياتها أنه يستحيل تخلف المراد عنها، لأنها من شؤون قدرة الباري سبحانه وتعالى وإرادته المباشرة.

الثاني: الإرادة التشريعية: وهي التي تكون متعلقة بالأحكام والأفعال، وما شابه ذلك، وإليها يشير قوله تعالى:- (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن ليطهركم)[9]. وفيها يمكن انفكاك المراد وتخلفه عن الإرادة، بحيث تكون الإرادة موجودة، لكن لا يقع المراد في الخارج، ولا يوجد في ذلك محذور عقلي أو شرعي، لمغايرة الإرادة التشريعية للتكوينية من حيث المعنى والموضوع. فإن معنى الإرادة التكوينية إيجاد الشيء في الخارج، وأما التشريعية فهي تعني محبة وجوده، ومحبة وجود الشيء لا تلازم وجوده بالفعل، وإنما عبر عنها بالإرادة باعتبار أنه سبحانه قد أحب وقوع المراد في الخارج دون أن يوقعه بالفعل، بخلاف الإرادة التكوينية فإنها تتعلق بإيجاده بالفعل، لذا يقول له كن فيكون.

 

وبالجملة، إن الإرادة التشريعية لا تتعلق بصدور الفعل عن الخالق سبحانه مباشرة، وإنما من خلال إرادة المكلفين، لأنه تعالى يريد من العبد امتثال أوامره واجتناب نواهيه، من خلال إيجاد الإنسان إياها فتكون إرادة الإنسان جزء العلة لوقوع المراد، وهذا يعني أن إيجاد المراد في الخارج ليس متوقفاً على إرادة الله سبحانه فقط كما في الإرادة التكوينية، وإنما يتوقف على إرادة الإنسان واختياره، ولذا قالوا بأن إرادة الله التشريعية تعني محبته تعالى لوجود تلك الأوامر من الإنسان.

 

ولا ريب أنه لا ينسجم مدلول الآية الشريفة مع إرادة الإرادة التشريعية، بل إن المقصود منها هي الإرادة التكوينية. ويساعد على ذلك القرائن الداخلية الخارجية، لأن الآية الشريفة بصدد الامتنان وبيان الفضل الإلهي في أهل البيت(ع)، وتخصيصهم وتميـيزهم على سائر الناس بالطهارة من الرجس بأصنافه كما سيأتي، وهذا لا يكن إلا بالتطهير التكويني. أما الطهارة التشريعية فلا خصوصية لهم(ع) فيها، لأنه سبحانه قد أمر جميع العباد بالطهارة لدى الصلاة.

 

والحاصل، إن مقتضى صون كلام الحكيم عن اللغوية يستدعي أن يكون المقصود من الإرادة في الآية هي التكوينية دون التشريعية[10].

وأما الرجس، فإنه لا يخلو من محتملين، إما أن يكون جنساً، أو يكون عاماً استغراقياً، وعلى كلا المحتملين، فهو يفيد عموماً يستوعب الرجس بمعنيـيه، المادي، والمعنوي، ولا يحتمل فيه الاختصاص، حملاً للرجس على فرد لأن لازمه أن يكون أمراً معهوداً، وليس في البين ما يجعل التعريف الوارد في الكلمة في الآية محمولة على العهد.

 

ومع البناء على النتيجة المذكورة، يكون مفاد الآية الشريفة، هو: إذهاب الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الرجس عنهم(ع)، تكويناً، وهذا يثبت عصمتهم(ع)[11].

كما يمكن الاستدلال لذلك أيضاً بآية المودة، وهي وقوله تعالى:- (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى)[12]، لأن المقصود بالمودة شيء آخر غير المحبة.

 

ولا يخفى أن المودة تلازم الاتباع والاقتداء ممن يود، لمن يود، وهذا لا يستقيم إلا مع كون المتبع الذي أمر الله سبحانه وتعالى باتباعه معصوماً، لأنه لا يعقل أن يود الناس من يصدر منه القبيح ويرتكب المعاصي، فضلاً عن أن يأمر الله تعالى بذلك[13].  ودلالة الآية على عصمة من أمرت بمودتهم من خلال الملازمة، ليكون معنى الآية لزوم اتباع أهل البيت(ع)، وهذا يكشف عن عصمتهم(ع).

 

وأما السنة، فإن هناك نصوصاً عديدة أيضاً يمكن الاستناد إليها في إثبات العصمة لهم(ع)، كالنص المروي في كتب الفريقين، بسند متصل إلى النبي الأكرم(ص) أنه قال: أنا وعلي والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون[14].

وجاء عن الإمام زين العابدين(ع) أنه قال: الإمام منا لا يكون إلا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلا منصوصاً. فقيل له: يا ابن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن، والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله عز وجل:- (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[15].

 

وفي رواية الحسين بن الأشقر، قال: قلت لهشام بن الحكم، ما معنى قولكم إن الإمام لا يكون إلا معصوماً؟ قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن ذلك، فقال: المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالى:- (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم)[16].

وفي المروي عن إسماعيل بن جابر، عن الصادق(ع) عن أمير المؤمنين(ع) في بيان صفات الإمام، أنه قال: فمنها أن يعلم الإمام المتولي عليه أنه معصوم من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، ولا يزل في الفتيا ولا يخطئ في الجواب، ولا يسهو ولا ينسى، ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا[17].

وأما العقل، فإن التقريب المذكور لاعتبار العصمة في النبي، جار بنفسه في الإمام(ع)، من دون فرق بينهما.

 

على أنه يمكن الاستدلال لإثبات عصمتهم(ع) بسيرة أصحابهم، وكيف كانوا يتعاملون معهم، فهذا مالك الأشتر يوم صفين لم يكن راضياً بالتحكيم، إلا أنه يسلم لأمر الإمام(ع)، قال(رض)، عندما دعي لأن يثبت اسمه في صحيفة التحكيم: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال إن كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أولست على بينة من ربي ويقين من ضلالة عدوي؟ّ! أولستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور؟! ولكن قد رضيت بما صنع علي أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه، وخرجت مما خرج منه، فإنه لا يدخل إلا في هدى وصواب[18]. ومن الواضح أنه لو لم يكن مالك(رض) معتقداً عصمة الإمام(ع)، لم يكن ليسلم له هذا التسليم، وينقاد له بهذا النحو من الانقياد.

 

 

 

[1] سورة الرعد الآية رقم

[2] سورة البقرة الآيتان رقم

[3] بحار الأنوار ج 26 ح 1 ص 4.

[4] بصائر الدرجات ج 2 ص 212.

[5] بحار الأنوار ج 26 ص 160.

[6] الراسخون في العلم، علم الإمام.

[7] سورة الأحزاب الآية رقم 33.

[8] سورة يس الآية رقم 82.

[9] سورة المائدة الآية رقم 6.

[10] الحقائق والدقائق ج 6 ص 151-154(بتصرف)

[11] لم نعمد للتفصيل كثيراً في دلالة الآية الشريفة، كما لم نشر للإشكالات المثارة حول دلالتها على المطلوب، لأن الحديث ليس منصباً على الآية، وإنما غاية الأمر الإشارة إلى دلالتها على ثبوت العصمة، وأما التفصيل في البحوث المرتبطة بها، فله مجال آخر إن شاء الله تعالى.

[12] سورة الشورى الآية رقم 23.

[13] الحقائق والدقائق ج 6 ص 171(بتصرف).

[14] إحقاق الحق ج 2 ص 530.

[15] معاني الأخبار ص 132 ح 2.

[16] معاني الأخبار ح 2 ص 132.

[17] بحار الأنوار ج 17 باب 16 ص 108.

[18] وقعة صفين ص 512.