18 أبريل,2024

بشرية الإمامة (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

  • بشرية الإمامة(3)

الجواب عما تقدم:

 

وإن أول ما يلحظه القارئ لكلمات الكاتب المذكور خلوها من الأدلة والبراهين المثبتة لما تبناه، فإنه قد جعل نظرية العلماء الأبرار النظرية المعروفة في الوسط الشيعي منذ القرن الأول، وأنها كانت متبناة من قبل جملة من أصحاب الأئمة الأطهار(ع)، ورواة أحاديثهم. إلا أنه لم يذكر اسماً من تلك الأسماء الذين يتبنون هذه النظرية، ولم يشر إلى شاهد يساعد على ذلك، وإنما اكتفى بإطلاق الدعوى موهماً القارئ أن المسألة من المسلمات، والأمر على خلاف ذلك تماماً، فإن التأمل في سيرة المسلمين منذ عصر النبي(ص) على خلاف ذلك، كما سيتضح، وأنهم كانوا على الإيمان بالنصب الإلهي، والنص الشرعي، لما صدر عن رسول الله(ص) من نصوص عديدة تشير إلى خلافة أمير المؤمنين(ع)، وهو ما فهمه الصحابة منهم، كما سوف نشير لشيء منها.

 

مضافاً إلى الاعتقاد فيهم بالعلم اللدني، وهذا يجده القارئ في كيفية تعامل الرواة والمحدثين معهم دون غيرهم، إذ لو كانوا مجرد أصحاب رأي يجتهدون ويستنبطون، وأن اجتهادهم يقبل الخطأ، فلم تحول إليهم العديد من الانتماءات المذهبية الأخرى، كابن أبي عمير، وآل أعين، وغيرهم.

وبالجملة، إن عدم إشارته إلى أحد من الرواة يتبنى ما ذكره يجعل ما صدر منه مجرد دعوى لا قيمة لها، لفقدانها ما ساعد على قبولها.

نعم لعله فهم هذا المعنى من المجادلة التي وقعت بين ابن أبي يعفور والمعلى بن خنيس، في شأن علم الأئمة الأطهار(ع)، وسوف تأتي الإشارة إليها.

 

دليل النصب الإلهي والنص الشرعي:

 

ويكفي في الإجابة عن الأمرين الأولين اللذين وردا في كلامه، أعني نفي النصب الإلهي، والنص الشرعي، أن يقوم الدليل على النص الشرعي، ليفي بتحقق النصب الإلهي، لأن ما نعتقده أن النبي الأكرم محمد(ص)، لا يخبر من نفسه، وإنما يخبر عن الله سبحانه وتعالى، لأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

 

وعلى أي حال، يمكن عرض وجود النص الشرعي الدال على الإمامة لأمير المؤمنين(ع) بعد رسول الله(ص) كما نعتقده، بلحاظين:

الأول: ملاحظة الأحداث التاريخية التي حصلت بعد رحلة رسول الله(ص) عن عالم الدنيا، ونشير هنا لأمرين:

أحدهما: امتناع مجموعة من الصحابة من البيعة للرجل الأول، ومن الواضح أن ذلك لم يكن لأغراض شخصية، وإنما كان ذلك بسبب بيعتهم لأمير المؤمنين(ع) يوم غدير خم، بأنه الخليفة المنصوب من قبل الله تعالى على لسان رسوله(ص).

ثانيهما: حادثة مالك بن نويرة(رض)، عندما امتنع من إعطاء الزكاة إلا لخصوص من بايعه بأمر من الله تعالى والنبي محمد(ص) خليفة لرسول الله(ص)، وهو أمير المؤمنين(ع).

 

والحاصل، إن هذين الأمرين، يدلان على أن النصب والنص الشرعي كان معروفاً في عصر النبي الأكرم محمد(ص)، وأنه ليس أمراً حادثاً قد خضع لعملية التغيـير من قبل متكلمي الشيعة في العصور الأخيرة.

بل إن القراءة المتأنية في سيرة أصحاب الأئمة الأطهار(ع)، تكشف عن هذا المعنى أيضاً، ولم نقف على ما يشير إلى نظرية العلماء الأبرار بصورة جلية واضحة كما تضمنتها كلمات الكاتب المذكور، ومن حذى حذوه.

 

اللحاظ الثاني: النص الشرعي على الاستخلاف الكاشف عن النصب الإلهي، وهو يتمثل في القرآن الكريم، وفي السنة الشريفة، فمن القرآن، آية الولاية، وهي وقوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[1]، فإنها نازلة في أمير المؤمنين(ع)، عندما تصدق بخاتمه على الفقير، ودلالتها على المطلوب واضحة، لأن المقصود من الولي هنا بمعنى الأولى، فتكون الأولوية الثابتة لله سبحانه وتعالى ثابتة لأمير المؤمنين(ع)، لأنه المقصود بالذين آمنوا كما عرفت.

ومثل ذلك آية البلاغ، وهي قوله تعالى:- (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)، فإنها تتحدث عن موضوع خطير ومهم، لا يكون تمام إبلاغ الرسالة إلا بإبلاغه للأمة، والمعروف بين المفسرين والمؤرخين أن ذلك الأمر هو إمامة أمير المؤمنين(ع)، وخلافته للنبي(ص)[2].

 

وأما من السنة، فيمكن الاستدلال لذلك بحديث الغدير، الذي رواه الفريقان بصورة متواترة، وهو قول النبي(ص): من كنت مولاه، فهذا علي مولاه، بملاحظة ما تقدم من قوله(ص): ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ما يدل على أن المقصود من كلمة(مولى) هنا بمعنى الأولى، فيكون معنى الحديث: من كنت أولى به، فعلي أولى به، ولا ريب في أن الحديث عن ثبوت أولوية النبي(ص) في التصرف، ولزوم الطاعة والانقياد، وعدم جواز المخالفة.

وبالجملة، إن المستفاد من الحديث، أن الأولوية الثابتة لرسول الله(ص)، وفقاً لما أعطيه من منصب سماوي تمثل في النبوة، فإنها حاصلة لأمير المؤمنين(ع) متمثلة في منصب الإمامة، ما عدا النبوة، لأنه لا نبي بعده(ص).

 

إجمال لفظ المولى:

 

والاعتراض على التقريب المذكور، بإجمال لفظ المولى، لتعدد المعاني المذكورة لها، لأنها تستعمل بمعنى المتصرف، والمتولي في الأمر، والناصر، والوارث، والصاحب، والمالك، حتى أن ابن الجوزي، قد نقل لها عشرة معاني، ونقل العلامة الأميني(ره) لها سبعة وعشرين استعمالاً، فيكون اختيار أحدها بحاجة إلى قرينة توجب تعينه في المعنى المقصود، وليس في البين ما يحدد ذلك في المعنى المذكور للدلالة على المطلوب، فيكون هذا مانعاً من الاستناد للحديث في الدلالة على المدعى.

 

يدفع عند الالتفات إلى وجود محتملين في المقام لا ثالث لهما:

الأول: الالتـزام بوجود استعمال للفظ المولى في معناه الحقيقي، واستعمال له في معاني مجازية، وأن معناه الحقيقي هو خصوص الأولى.

الثاني: انتفاء الاستعمال المجازي، بل الموجود هو استعمال حقيقي في كافة المعاني، وإنما يكون المورد من صغريات المشترك، إما اللفظي، أو المعنوي.

 

والظاهر عدم إمكانية البناء على كون لفظ(المولى) مشتركاً لفظياً، بل هو مشترك معنوي، لأن لفظ المولى موضوع في اللغة لمعنى الأولى، إلا أن الأولوية تختلف في كل مورد عن الآخر، فمثلاً مقتضى كون النبي الأكرم محمد(ص)، مولى المؤمنين، يستوجب أنه أولى بهم من أنفسهم في أمورهم، وأن له الأمر والنهي عليهم، وأن له عليهم حق الطاعة، بامتثال كل ما يصدر عنه من أوامر إليهم. كما أنه لو فسرت لفظة المولى بالوارث، فإنها لا تخرج عن الأولوية، لأن الابن أولى الناس بميراث أبيه، ومثل ذلك لو كان تفسيرها بلفظة الناصر، فإن العباس بن أمير المؤمنين(ع) مثلاً أولى الناس بنصرة المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، وهكذا.

وبالجملة، إن لفظ الأولوية موجود في جميع المعاني المذكورة للفظ المولى، إلا أن الاختلاف بينهما في مصداق الأولوية، كما يقال ذلك في إطلاق لفظ الانسان على زيد وعمر وخالد، وبكر، وإن كان كل مصداق يختلف عن الآخر.

 

ويشهد لما ذكرنا أمران:

الأول: التبادر، فإنه بمجرد أن تذكر لفظة المولى، يكون المتبادر منها هو الأولوية، حتى مع تعدد الاستعمالات.

الثاني: صحة استعمال لفظ الأولى مكان المولى، فيصح أن يقال: النبي(ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، عوضاً عن قولنا: النبي(ص) مولى المؤمنين، كما يصح القول: الوالد أولى بولده، عوضاً عن القول: الوالد مولى ولده، وهكذا.

 

عدم تناسب المعاني للفظ الحديث:

 

ولو لم يقبل بما ذكرنا، وألتـزم ببقاء لفظ المولى على تعدد المعاني، الموجب لكونه مجملاً فلا يصلح الاستناد إليه في مقام الاستدلال على مدعى الشيعة الإمامية، أمكن اتخاذ طريق آخر في تعيـين لفظ المولى في خصوص الأولى، ورفع اليد عن بقية المعاني الأخرى، بعدم تصور إرادة المعاني الأخرى في المقام، لوجود مانع يمنع عنها، وهذا يختلف بحسب حال المعنى المذكور، فقد يكون المانع عبارة عن الظروف التي جرت فيها واقعة الغدير، وصدرت فيها الكلمة محل البحث، فإنه لا يتصور أن يقوم النبي الأكرم محمد(ص) بإيقاف الركب، وأمره المتقدم أن يتأخر، وأمره المتأخر أن يتقدم من أجل أن يخبرهم أنه ابن عمه، خصوصاً وأن النبي(ص) لم يكن يتحدث إلى مجتمع بعيد عنه وعن أمير المؤمنين(ع)، وأنه لا يعرفهما، بل كان حديثه في وسط اجتماعي يملك معرفة كاملة بهما، وأنهما من أبوين شقيقين.

 

وقد يكون المانع عدم توفر موجبات المعنى المقصود تفسيراً للفظ، فإن حمل لفظة المولى على المعتق، تستوجب أن يكون أمير المؤمنين(ع)، مالكاً لكل ما كان يملكه النبي(ص)، ليكون معتقاً كما أن رسول الله(ص) له حق العتق فيه، وهذا ما لم يقم عليه شاهد تاريخي.

ومثل ذلك أيضاً لو فسرت كلمة المولى بالوارث، فإنه ليس كل من يرثه النبي(ص)، يرثه أمير المؤمنين(ع)، فإن النبي(ص) يرث زوجاته، وليس أمير المؤمنين(ع) وارثاً لهن، كما لا يخفى.

وقد يكون المانع عدم وجود خصوصية في أمير المؤمنين(ع) على غيره من المسلمين توجب تخصيصه بهذا الوصف، وإعطائه هذه الخصوصية، كما لو فسر لفظ المولى بالناصر، فإنه لا معنى له، لأن المسلمين جميعاً أنصار لمن نصره النبي(ص) فلا معنى لتخصيص أمير المؤمنين(ع) بذلك دون غيره من المسلمين، ومثل ذلك أيضاً لو فسر بالحليف، فإن أبا الحسن(ع) حليف لجميع حلفاء النبي(ص).

 

وأوضح من ذلك في عدم كونها مقصودة له(ص) المعاني الأخرى المذكورة في البين، كلفظة الصاحب، أو الجار، والشريك، والرب، وغيرها.

وهذا بخلافه لو فسرت لفظة المولى بمعنى المتولي للأمر، والمتصرف فيه، فإنها تكون منسجمة تماماً مع المعنى المقصود، لأن من الواضح أن المتصرف في الأمر، والمتولي له، يكون الأولى، بمعنى أنه المتولي للأمور، والمتصرف فيها، وهو الذي يكون له حق الطاعة، كما أن له حق الأمر والنهي.

وبالجملة، إن المعنى المنسجم تماماً مع المقصود لرسول الله(ص)، وما هو بصدد بيانه في حادثة الغدير يتوافق وكون المراد هو معنى الأولوية، فيكون المستفاد من الحديث إثبات ما كان ثابتاً لرسول الله(ص) لأمير المؤمنين(ع)، وهو ينسجم تماماً مع ما تريد الشيعة الإمامية الاتكاء عليه في إثبات النصب من بعد رسول الله(ص)، وإقامة خليفة له(ص) من بعده بأمر من الله تعالى، يتمثل في شخص أمير المؤمنين(ع).

 

القرائن الحافة بالحديث:

 

ولا ينحصر الأمر في إثبات دلالة الحديث على المدعى بما ذكر، إذ أن هناك طريقاً آخر يمكن التمسك به في الإثبات، وهو عبارة عن القرائن الحافة بالحديث، فإنها تدل أيضاً على أن المقصود به هو خصوص المعنى الذي فهمه الشيعة الإمامية، من كونه(ص)، بصدد إقامة أمير المؤمنين(ع) خليفة من بعده بأمر من الله تعالى، نشير لبعضها:

منها: شعر حسان بن ثابت، فقد ذكر المؤرخون قوله قصيدة في حادثة غدير خم بعدما سمع من النبي(ص) ما سمع، وبعدما قام المسلمون ببيعة أمير المؤمنين(ع)، ويظهر المعنى المقصود منها جلياً واضحاً من قوله:

فقال له قم يا علي فإنني رضيتك           من بعدي إماماً وهادياً

 

وقد جسد حسان ما فهمه من قول النبي(ص) في قصيدته، فضمنها أن الإمام(ع) هو الخليفة من بعد رسول الله(ص).

ومنها: تهنئة عمر بن الخطاب لأمير المؤمنين(ع)، فقد ذُكر أن عمر دخل عليه الخيمة يبايعه، وقال له أثناء البيعة: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ولا ريب أنه لو كان المقصود بالمولى أي واحد من المعاني الأخرى المذكورة في الكلمات، لم يكن معنى لما صدر من الرجل الثاني، لأنه أي وجه لأن يحسد أمير المؤمنين(ع) على ما هو فيه، لمجرد كونه ابن عم رسول الله(ص)، أو لمجرد كونه ناصراً، أو حليفاً، أو معتقاً، إن هذا الحسد منشأه وجود صفة تميز أمير المؤمنين(ع) عليهم جميعاً، بل كانوا يرجون الحصول عليها، ونيلها.

 

ومنها: احتجاج الإمام(ع) بواقعة الغدير، فقد ذكر المؤرخون أنه لما هلك الرجل الثاني، وجعل الأمر شورى، وأخذ القوم يحيلون ناحية الرجل الثالث، ناشدهم الإمام(ع) بحديث الغدير، فقال(ع): نشدتكم بالله هل منكم أحد نصبه رسول الله(ص) يوم غدير خم بأمر الله تعالى، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه غيري؟ قالوا: لا. فإنه لو لم يكن المقصود من الحديث ما فهمه الشيعة الإمامية، لما قبل القوم باحتجاج الإمام(ع)، وتسليمهم له، بل لأجابوه بأنه لم يقصد من ذلك ما فهمته، بل كان يريد أنك ناصره، أو أنك ابن عمه، أو لك ما له من العتق، أو الوراثة، وهكذا.

 

 

 

[1] سورة المائدة الآية رقم

[2] لم نعمد لإطالة البحث في الاستدلال القرآني، حذراً من الإطالة، واقتصرنا على عرض الحديث الروائي، وهو حديث الغدير، لأأنه من أقوى الأدلة وأوضحها دلالة في المطلوب.