29 مارس,2024

أولاد الإمام الرضا(ع)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

أولاد الإمام الرضا(ع)

 

وقع الخلاف بين المؤرخين في تأريخ ولادة الإمام الجواد(ع)، على قولين، فقيل أن ولادته(ع)، كانت في شهر رمضان المبارك، وهذا هو قول الأكثر، بل الأشهر، لو لم يكن المشهور. وقيل أنها كانت في شهر رجب الأصب، ولم يعرف قائل به إلا ابن عياش، كما حكى ذلك عنه ابن شهراشوب(قده) في المناقب. وذكره الإربلي(ره) في كشف الغمة، ونسبه إلى القيل، والظاهر أن مقصوده به هو ابن عياش أيضاً.

 

وربما كان مستند القائلين بأنها في شهر رجب، الدعاء المروي في مصباح المتهجد، عن الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وهو: اللهم إني أسألك بالمولودين في رجب، محمد بن علي الثاني، وابنه علي بن محمد المنتجب.

على أساس أن المقصود بمحمد بن علي(ع) الوارد فيه هو الإمام الجواد(ع)، بقرينة الوصف بالثاني، لأن علي بن محمد الأول، هو الإمام الباقر(ع)، ولأنه الأب المباشر للإمام الهادي(ع)، وقد عبر الدعاء الشريف، بكلمة(ابنه).

 

وقد اعتمد التقريب المذكور على كون الصفة الواردة في الدعاء، وهي كلمة الثاني، راجعة لمحمد، وليس لعلي، ولذا بني التقريب المذكور، مع أن هناك احتمالاً آخر، وهو أن تكون الصفة راجعاً لعلي، وليس لمحمد، وبالتالي سوف يكون المقصود منه الإمام الباقر(ع)، وليس الإمام الجواد(ع)، توضيح ذلك:

هناك احتمالان موجودان في الصفة الوارد ذكرها في الدعاء، أعني كلمة(الثاني):

 

الأول: أن تكون الصفة راجعة للاسم الأول، وهو محمد، وبناءاً عليه سوف يكون المقصود به الإمام الجواد(ع)، لأنه هو محمد بن علي الثاني في الأئمة الأطهار(ع) بعد الإمام الباقر(ع).

الثاني: أن تكون الصفة راجعة للاسم الثاني، وهو علي، وبناء عليه سوف يكون المقصود به الإمام الباقر(ع)، لأن علياً الثاني في الأئمة(ع)، هو الإمام زين العابدين(ع)، بعد علي الأول، وهو أمير المؤمنين(ع)، وعليه سوف يكون المقصود من محمد في الدعاء، هو الإمام الباقر(ع)، وليس الإمام الجواد(ع).

وعند دوران الأمر بين الاحتمالين، سوف يرجع لقواعد اللغة العربية، وهي تساعد على القبول بالاحتمال الثاني دن الأول، لأن الصفة ترجع إلى أقرب الأسماء التي يحتمل وصفه بها، وهو هنا علي.

 

وأما القرينة الثانية، والتي ربما جعلت معيناً لكون الصفة راجعة لمحمد، وليس لعلي، ليكون المقصود بمحمد في الدعاء، هو الإمام الجواد(ع)، وليس الإمام الباقر(ع)، فيمنعها صدق عنوان الولد للأب المباشر، وللجد من دون فرق حقيقة، فكما يقال بأن فلاناً أب فلان، لأنه الأب المباشر، فإنه يقال ذلك لجده، ولجد أبيه، وهكذا، ولذا يقال لولد الولد ولد بالنسبة للجد، وقد أطلق ذلك على الإمامين الهمامين الحسنين(ع)، بأنهما أبنا رسول الله(ص)، مع أنهما ولدا ابنته، وليسا أبناء مباشرين، وعليه يصح أن يقال للإمام الهادي(ع)، بأنه ابن للإمام الباقر(ع)، كما يصح أن يقال له بأنه ابن للإمام الجواد(ع).

والحاصل، إن جعل المستند لكون مولده الشريف(ع) في شهر رجب الأصب خصوص الدعاء المذكور، لا يصلح للإثبات، ولا أقل من وجود احتمالين مرددين، قد يصعب الترجيح بينهما، ما يوجب الإجمال.

 

أولاد الإمام الرضا(ع):

وقع الخلاف بين المؤرخين في عدد أولاد الإمام الرضا(ع)، فذكرت بينهم أقوال:

 

الأول: أنه(ع) لم يترك إلا ولداً واحداً، وهو وصيه الإمام الجواد(ع)، وقد أختاره جماعة من الأعلام، كالشيخ المفيد في الإرشاد، والشيخ الطبرسي في إعلام الورى، والشيخ ابن شهراشوب في المناقب، وغيرهم.

الثاني: وجود ولدين له(ع)، وهما: الإمام الجواد(ع)، وموسى بن علي، ولم يترك غيرهما، وقد أختاره ابن أبي الثلج والحلي في العدد القوية.

الثالث: أن له(ع) ثلاثة أبناء، وقد اختلف أصحاب هذا القول على أراء:

منها: أن له(ع) ولدين ذكرين، وهما الإمام الجواد(ع)، وموسى، وبنتاً واحدة، واسمها فاطمة، وقد أختاره القندوزي، والشريف العلوي.

ومنها: أنهم ثلاثة ذكور فقط، وهم: علي بن علي، ولم يعقب، والإمام الجواد(ع)، ومنه العقب، والحسين. وهذا هو مختار ابن حزم.

 

الرابع: ما أنفرد به سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص، من أن أبنائه خمسة، أربعة ذكور وبنتاً واحدة، وهم: الإمام الجواد(ع)، وجعفر، والحسن، وإبراهيم، وابنة واحدة، ولم يذكر اسمها.

الخامس: ما نقله الإربلي(ره) في كشف الغمة، من أنهم ستة أبناء، خمسة ذكور، وبنت واحدة، وهم: محمد القانع، والحسن، وجعفر، والحسين، وعائشة.

وهو مختار الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في معالم العترة الطاهرة، والحافظ أبي نعيم في حلية الأولياء، ومحمد بن طلحة الشافعي في مطالب السؤول.

السادس: ما انفرد به أمين الدين أبو المكارم الحسيني الهروي في كتابه رشحات الفنون، من أن له ستة أبناء من الذكور، وبنتاً واحدة، والذكور هم: الإمام الجواد(ع)، وأبو جعفر الأكبر، وأبو جعفر الأصغر، وأبو محمد الحسن، وإبراهيم، وحسين، وبنت واحدة.

 

ولم تتفق المصادر التي تضمنت ذكر بنت للإمام الرضا(ع) حول اسمها، فسمتها بعضها بفاطمة، وسمتها مصادر أخرى بعائشة.

 

مع الأقوال الستة:

وعند محاكمة الأقوال الستة، يسقط عن الاعتبار منها القول الرابع والسادس، لانفراد القائلين بهما عن بقية المؤرخين وهذا يجعلهما شاذين لا اعتبار بهما. كما أنهما يفتقران للمستند الذي يجعلهما مقبولين، إذ هما لا يخرجان عن مجرد كونهما قولاً للمؤرخين.

وهذا حال القولين الثالث والخامس أيضاً، فإنهما مفتقران لما يدل عليهما، ليخرجا عن كونهما مجرد قول مؤرخين ذكرا ضمن الأقوال. خصوصاً وأن الأربلي(ره) يقتصر في كتابه على نقل الكلمات والأقوال، وليس بصدد الانتخاب والاختيار، وهذا يمنع أن يكون ما يذكره في كتابه يمثل رأياً له(ره).

وعلى أي حال، لو وجدت شهرة تاريخية على واحد من الأقوال الأربعة المذكورة، كانت محكمة وموجبة للبناء عليه والقبول به، ذلك أن الموضوعات التاريخية يكفي في ثبوتها شهرتها، وإلا لم يكن لها أية قيمة.

وعليه، سوف يكون الأمر دائراً بين خصوص القولين الأول والثاني، وهما اللذان ورد فيهما ما يدل عليهما.

 

دليل القول الأول:

ويدل على الأول: ما رواه حنان بن سدير، قال: قلت لأبي الحسن الرضا(ع): أيكون إمام ليس له عقب؟ فقال(ع): أما إنه لا يولد لي إلا ولد واحد، ولكن الله منشئ منه ذرية كثيرة[1].

والحديث المذكور يشير إلى شرط معتبر في النبي والإمام، وهو خلوه من كل عيب، ومن الواضح أن العقم عيب عرفي.

وعلى أي حال، فإن ودلالة الحديث على حصر الأولاد في خصوص الأمام الجواد(ع) مستفادة من الحصر الوارد في النص، فلاحظ قوله(ع): إلا ولد واحد، فإنه صريح في ذلك.

 

كما يدل عليه أيضا، ما جاء في عيون المعجزات، عن عبد الرحمن بن محمد عن كليم بن عمران، قال: قلت للرضا(ع): ادع الله أن يرزقك ولداً، فقال: إنما ارزق ولداً واحداً وهو يرثني، فلما ولد أبو جعفر(ع) قال الرضا(ع) لأصحابه: قد ولد لي شبيه موسى بن عمران، فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم، قدست أم ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة، ثم قال الرضا(ع): يقتل غصباً فيبكي له وعليه أهل السماء، ويغضب الله تعالى على عدوه وظالمه، فلا يلبث إلا يسيراً حتى يعجل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد، وكان طول ليلته يناغيه في مهده[2].

ويؤيد ذلك، بل يصلح أن يكون مستنداً أيضاً، ما ذكره هرثمة، من أنه كان للإمام الرضا(ع) من الولد محمد الإمام(ع)، وهو ظاهر في الحصر، وأنه ليس له ولد سواه.

 

نعم ربما قيل، بأن أقصى ما يستفاد من النصين المذكورين، انحصار الولد في خصوص الإمام الجواد(ع) من الذكور، ولا دلالة لهما في نفي وجود بنت له أو أكثر.

وهو ممنوع، لأن الوارد في رواية حنان، قوله(ع): لا يولد لي، وهو صريح في عدم تحقق الإنجاب إلا بخصوص الإمام الجواد(ع)، ليس إلا.

 

دليل القول الثاني:

وأما القول الثاني، فيدل عليه، ما جاء في قرب الإسناد للحميري(ره)، عن البزنطي، قال: دخلت على الإمام الرضا(ع) بالقادسية، فقلت له: جعلت فداك، إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أجلك والخطب فيه جليل، وإنما أريد فكاك رقبتي من النار، فرآني وقد دمعت، فقال: لا تدع شيئاً تريد أن تسألني عنه إلا سألتني عنه. قلت له: جعلت فداك، إني سألت أباك، وهو نازل في هذا الموضع عن خليفته من بعده، فدلني عليك. وقد سألتك منذ سنين وليس لك ولد عن الإمامة فيمن تكون من بعدك؟ فقلت في ولدي، وقد وهب الله لك ابنين، فأيهما عندك بمنـزلتك التي كانت عند أبيك؟ فقال لي: هذا الذي سألت عنه، ليس هذا وقته. ودلالة الخبر على وجود ولدين للإمام(ع) صريحة وواضحة، فإنه(ع) لم يكذب الراوي في ما أخبر به، ولم ينفه وينهره عما قاله، وسكوته نحو إقرار منه له على ما أخبر به. نعم قد أحال تحديد أمر الإمامة إلى وقت آخر.

والإجمال الموجود في منشأ تأخير الإجابة بتحديد الإمام من بعده(ع)، لا يضر بالمطلوب، لأن الغاية التي يراد إثباتها هي تعدد الولد له(ع)، وهذا جلي واضح.

 

نعم لا يذهب عليك أن دلالة الخبر على ذلك من خلال الإقرار والسكوت، وهذا ليس نصاً في المطلوب، وإنما هو ظهور، لأنه قد يكون الموجود خلاف ذلك، مع أنه(ع) لم يعمد إلى رده وردعه لغاية اقتضت ذلك، فتأمل.

والحاصل، إن الخبر المذكور دال على وجود ولدين للإمام الرضا(ع).

 

خبر القافة:

وقد يرجح القول الأول، استناداً إلى رواية زكريا بن يحيى بن النعمان، قال: سمعت علي بن جعفر يحدث الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين، فقال: والله لقد نصر الله أبا الحسن الرضا(ع)، فقال له الحسن: إي والله، جعلت فداك، لقد بغى عليه إخوته، فقال علي بن جعفر: إي والله، نحن عمومته بغينا عليه، فقال له الحسن: جعلت فداك، كيف صنعتم، فإني لم أحضركم؟ قال: قال له إخوته ونحن أيضاً: ما كان فينا إمام قط حائل اللون، فقال لهم الرضا(ع): هو ابني. قالوا: فإن رسول الله(ص) قد قضى بالقافة، فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا أنتم إليهم، فأما أنا فلا، ولا تعلموهم لما دعوتموهم، ولتكونوا في بيوتكم.

فلما جاؤوا أقعدونا في البستان، واصطف عمومته وإخوته وأخواته، وأخذوا الرضا(ع) وألبسوه جبة صوف وقلنسوة منها، ووضعوا على عنقه مسحاة، وقالوا له: ادخل البستان كأنك تعمل فيه، ثم جاؤوا بأبي جعفر(ع)، فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس له هاهنا أب، ولكن هذا عم أبيه، وهذا عم أبيه، وهذا عمه، وهذه عمته، وإن يكن له هاهنا أب، فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع أبو الحسن(ع) قالوا: هذا أبوه[3]. فإن المستفاد منه تأخر الإنجاب من الإمام الرضا(ع)، بحيث أنه لما رزق الولد كان ذلك موجباً للتشكيك في ثبوت انتسابه إليه، ورفض أن يكون ابنه.

وهو ممنوع، فإن الموجب للتوقف في ثبوت الانتساب، هو المغايرة في لون البشرة، فإن المنقول أن أبا جعفر الجواد(ع)، كان شديد السمرة، مائلاً إلى السواد، لأن أمه(ع) كانت نوبية من بلاد الحبشة، وقد كان الإمام ارضا(ع) أبيضاً مشرباً بحمرة. ولم يكن منشأ التوقف في ثبوت الانتساب، تأخر الإنجاب، وعدمه، بل ليس في الخبر ما يشير إلى ذلك من قريب أ بعيد.

 

على أنه لا يمكن القبول بالخبر المذكور، فإنه ضعيف السند، بضعف راويه، مضافاً إلى اشتماله على ما لا يمكن الالتـزام به، مثل انكشاف بنات الإمام الكاظم(ع) على القافة، وقبول علي بن جعفر، بذلك، ودخوله في ضمن المشككين في نسبة الإمام الجواد(ع) إلى الإمام الرضا(ع)، فضلاً عن قبول الإمام الرضا(ع)، بذلك.

وما جاء من تبرير في بعض الكلمات، من أن الموجب لقبول الإمام الرضا(ع) بذلك، يعود لخطورة منصب الإمامة، وأهميته. ليس على ما ينبغي.

وعند المعارضة بين النصين، فإن التقديم يكون لروايتي حنان بن سدير، وكليم بن عمرن لدلالتهما على المطلوب بالنص. أما خبر البزنطي، فإن دلالته على المطلوب بالإطلاق السكوتي، ولا ريب في أن الإطلاق السكوتي ظهور، ولا يقاوم النص الواضح في روايتي حنان، وكليم، فيكون المتعين حصر ولده(ع) في خصوص الإمام الجواد(ع).

 

ثم إنه لو لم يقبل بما ذكر، فالظاهر ترجح القول الأول أيضاً، وذلك لأن الشهرة التاريخية معه، وليست مع القول الثاني، وقد تقرر في محله أن الموضوعات التاريخية يكفي في ثبوتها شهرتها، بمعنى أنه متى ثبتت شهرة الموضوع التاريخي كان ذلك موجباً لثبوته. وأما القول الثاني، فلم يعرف القول به إلا من ابن أبي الثلج البغدادي في تاريخ الأئمة، والحلي صاحب العدد القوية.

 

ويؤيد القول الأول أيضاً الحديث المروي عن الإمام الرضا(ع)، في شأن الإمام الجواد(ع)، حيث قال: هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام مثله مولود أعظم بركة على شيعتنا منه. فإن المقصود من أعظمية بركته، استمرار منصب الإمامة، توضيح ذلك:

 

إن النص المذكور بصدد علاج شبهة عقائدية وجدت في عصر الإمام الرضا(ع)، وقويت وكانت ولادة الإمام الجواد(ع) رداً عليها ودفعاً لها، فقد ظهر تيار الوقف بعد شهادة الإمام الكاظم(ع) ومنع أصحابه من شهادته، بل قالوا أنه قد غاب وسيعود وهو المهدي(عج) الذي بشرت به الروايات والذي يظهر في آخر الزمان، فلم تقبل امامة الإمام الرضا(ع)، وقد ازداد التشكيك في إمامته(ع)، حتى وصل الأمر إلى بعض محبيه وشيعته لما لاحظوا عدم تحقق الانجاب للإمام(ع) فصاروا يشككون في إمامته، إذ لو كان إماماً لكان له خلف.

 

ولما لم يثبت الخلف فهذا يعني عدم صحة إمامته، ويدل على ذلك ما تضمنه خبر حنان بن سدير المتقدم. وأيضاً قد كتب له ابن قياما كتاباً يقول فيه: كيف تكون إماماً وليس لك ولد؟ فأجابه(ع): شبه المغضب: وما علمك أنه لا يكون لي ولد، والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولداً ذكراً يفرق بين الحق والباطل[4].

وأيضاً ما رواه ابن قياما الواسطي، قال: دخلت على علي بن موسى(ع) فقلت له: أيكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت. فقلت له: هو ذا أنت، ليس لك صامت-ولم يكن ولد له أبو جعفر(ع) بعد-فقال لي: والله، ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله ويمحق به الباطل وأهله، فولد له بعد سنة أبو جعفر(ع)، وكان ابن قياما واقفياً[5].

والحاصل، لقد كانت ولادة الإمام الجواد(ع) رداً قاطعاً لحجج هؤلاء، ودفعاً لشبههم التي كانوا يزرعونها.

 

مبعدات لبقية الأقوال:

واستكمالاً لبيان عدم صلاحية الأقوال السابقة للقبول، نشير لبعض المبعدات حولها، ويمكن للمتأمل الوقوف على أكثر مما سنذكر:

منها: ملاحظة المدة الزمنية من ولادة الإمام الجواد(ع)، فقد كان عمره(ع) يوم شهادة أبيه(ع) سبع سنين، والمستفاد من النصوص التي نقلناها كرواية حنان، ورواية كليم بن عمران، أن الإمام الرضا(ع) لم يرزق الولد إلا متأخراً، فمن المستبعد أن ينجب هذا العدد من الأولاد خلال هذه المدة الزمنية القصيرة. نعم إن الاستبعاد المذكور ليس استحالة عقلية، وإنما هو استحالة عرفية بحسب الوضع الطبيعي العام[6].

 

ومنها: عدم تعرض المصادر التاريخية إلى أمهات هؤلاء الأولاد، والإخبار عنهن، فإن المستفاد من المصادر التاريخية حصر زوجات الإمام الرضا(ع) في خصوص زوجتين فقط، إحداهما أم الأمام الجواد(ع)، والثانية أم حبيبة بنت المأمون العباسي، والتي تزوجها(ع) قبل شهادته بسنة، ولم يعقب منها بعدما بويع بولاية العهد.

وأما البنت، فعمدة ما يتمسك به لإثبات وجودها رواية نقلها الصدوق(ره) في كتابه عيون أخبار الرضا(ع)، قال: حدثني أبو الحسن بكر بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن زياد بن موسى بن مالك الأشج العصري، قال: حدثتنا فاطمة بنت علي بن موسى، قالت: سمعت أبي علياً يحدث عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وعمه زيد عن أبيهما علي بن الحسين، عن أبيه وعمه، عن علي بن أبي طالب(ع)، قال: لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً[7].

 

ولا يخفى أن التسليم بوجود البنت المذكورة متوقف على الالتـزام بصدور هذه الرواية، وهذا يعني لزوم وصولها إلينا بطريق معتبر من خلال جملة من الرواة الثقات الذين يستند إلى مروياتهم ويركن إليها، ومتى كانت الرواية ضعيفة السند، لاشتمالها على مجهول فضلاً عن ضعيف، كان ذلك مانعاً من الاستناد إليها، وبالتالي لن يثبت الموضوع المراد الوصول إليه من خلالها، وهو وجود بنت للإمام الرضا(ع).

ولما كانت الرواية محل البحث ضعيفة السند، كان البناء على ثبوت الموضوع ممتنعاً، لما عرفت من توقفه على ذلك.

 

والدة الإمام الجواد(ع):

قد سمعت قبل قليل أن الإمام الرضا(ع)، لم يتزوج إلا بامرأتين، كانت الأولى منهما هي أم الإمام الجواد(ع)، وقد وقع الخلاف بين المؤرخين في اسمها، فقيل: اسمها الخيزران، وقيل: اسمها ريحانة، وقيل: سكينة، وقيل: سبيكة، وقيل: درة، وغير ذلك.

ومن المحتمل جداً أن المسميات المذكورة ليست أسماء لها، وإنما صفات كانت تطلق عليها بين فينة وأخرى بحسب ما كان يرى من حالات لها، سواء في علاقتها مع ربها، أم في تعاملها الاجتماعي مع من حولها. وقد كانت من أهل النوبة، أو من أهل مريسة من قبيلة مارية القبطية.

 

مكانتها الرفيعة:

ويمكن معرفة علو شأنها ومقامها، بملاحظة ما تضمنته النصوص حولها، فقد وصفت في النصوص بصفات تكشف عن علو شأن ومقام شامخ لا يعطى لكل أحد.

فقد جاء عن رسول الله(ص) فيها: بأبي ابن خير الإماء، النوبية الطيبة الفم، المنتجبة الرحم[8]. وهذا الكلام الصادر منه(ص) يشير إلى تصافها بصفتين أساسيتين:

 

الأولى: منتجبة الرحم، وهذا فيه احتمالان:

الأول: الإشارة إلى طهارة مولدها، عندما تقرأ كملة(منتجبة)، بصيغة المفعول، فيكون ذلك مشيراً إلى أنها قد ولدت من أرحام طاهرة منتجبة.

الثاني: الإشارة إلى طهارتها في نفسها، حال قراءة كلمة(منتجة)بصيغة الفاعل، وهذا قد يشير إلى أنها لم تدنس، وإن كانت من الإماء، إلا أنه لم يمسسها أحد.

هذا كله، بناء على ملاحظة البعد المادي في العبارة المذكورة، وقد تكون ناظرة إلى بعد معنوي، يقصده المصطفى(ص)، وهو غير بعيد.

 

الثانية: الطيبة الفم، وهنا احتمالان، أحدهما الإشارة إلى المعنى المادي، وهو الذي يكون فهما طيباً لا يشم منه رائحة كريهة، مع أن المتصور في العبيد، أن لا يكونوا عادة كذلك.

وثانيهما، المعنى المعنوي، وهو الأقرب، وعندها تأتي فيه محتملات، فربما كان نظره(ص) إلى كثرة عبادتها، فعبر عن ذلك بطيب الفم، لأن لسانها لا يفتر عن عبادة الله سبحانه بكثرة الصلوات، أو كان نظره(ص) إلى كثرة ذكرها واستغفارها، وتهليلها وتسبيحها، فلا ينفك لسانها من ذلك أبداً، وكنى عن ذلك بطيب الفم، لأن الذكر رائحة زكية طيبة للفم. وربما كان النظر إلى حسن التعبير وحلاوة الكلام، فإنه لا يسمع منها كلمة منفرة، فضلاً عن أن تتكلم بسباب أو شتم، أو إهانة وإساءة.

وهذا الإمام الكاظم(ع)، يأمر يزيد بن سليط أن يبلغها سلامه إذا قدر على ذلك، فقد جاء عنه(ع)-في حديث-يا يزيد، وإذا مررت بهذا الموضع، ولقيته، وستلقاه فبشره أنه سيولد له غلام أمين مأمون مبارك، وسيعلمك أنك قد لقيتني، فأخبره عند ذلك أن الجارية التي يكون منها هذا الغلام جارية من أهل بيت مارية جارية رسول الله(ص) أم إبراهيم، فإن قدرت أن تبلغها مني السلام، فافعل[9].

 

ومن المعلوم أن الإمام المعصوم(ع) امتداد لشخصية النبي(ص)، وكما أن رسول الله(ص) لا يصدر عنه فعل من الأفعال بعيداً عن التأيـيد والتسديد الإلهي، بل كل ما يصدر عنه، هو وفق الوحي الذي يلقى إليه(ص)، فكذلك ما يصدر عن كل واحد من الأئمة الأطهار(ع)، يكون وفق تخطيط سماوي معد مسبقاً، وليس وليد صدفة، أو حالة عادية، وهذا يعني أن هذا السلام الصادر من الإمام الكاظم(ع) للسيدة الخيزران(ع)، من ضمن الإعداد السماوي، والتخطيط الرباني، وهو يكشف عن ما لها(ع) من مكانة خاصة، ومنـزلة جليلة، وأنها ليست امرأة عادية.

وقال عنها الإمام الرضا(ع): قد ولد لي شبيه موسى ابن عمران(ع)-إلى أن قال-قدست أم ولدته، قد خلقت طاهرة مطهرة[10].

 

وهذا التعبير الصادر منه(ع) قد تضمن صفات ثلاث لها(ع):

 

الأولى: صفة القداسة، وهي من الصفات التي تشير إلى مرتبة عالية جداً في الكمال والارتقاء.

الثانية: صفة الطهارة، والظاهر أنه(ع) يشير إلى امتلاكها هذه الصفة منذ ولادتها، ولم تكن صفة عارضة عليها، نعم يبقى تحديد المقصود من الطهارة هاهنا، وأنها خصوص الطهارة المادية، أو المعنوية، أو كلاهما، محتملات متصورة في المقام.

الثالثة: صفة المطهرة، وهذه تشير إلى شيء خارجي لا ربط لها به قد تدخل ليضفي عليها التطهير، نظير الإرادة الإلهية الواردة في آية التطهير، وهذا التعبير قد يوحي إلى وجود مرتبة من مراتب العصمة موجودة عندها.

وبالجملة، إن ملاحظة الصفات التي أفرغت عليها من خلال النصوص الشريفة التي عرضنا بعضاً منها، يشير إلى عظمة هذه السيدة الجليلة(ع)، وكفى أنها أم واحد من الحجج الإلهية، وقد قيل أن السيدة مريم بنت عمران(ع)، قد نالت ما نالت لأنها كانت وعاءاً للمسيح عيسى(ع)، فكيف لا تكون السيدة خيزران(ع) كذلك، وهي التي كانت وعاءاً لمن هو أفضل من المسيح عيسى(ع).

 

 

 

[1] مشف الغمة في معرفة الأئمة ج 3 ص 409.

[2] عيون المعجزات ص 171.

[3] الكافي ج 2 ب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني ح 14 ص 104.

[4] الكافي ج 2 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني ح 4.

[5] المصدر السابق ح 7.

[6] لا يذهب عليك أن هذا المبعد يجري بالنسبة لبعض الأقوال وليس جميعها، وكذا المبعد الثاني.

[7] عيون أخبار الرضا(ع) ج

[8] هذه رواية زكريا التي تقدمت الإشارة إليها عند الحديث عن مسألة القافة، وقد عرفت منا هناك ضعفها السندي، وسقوطها عن الاعتبار لاشتمالها على ما لا يمكن الالتـزام به، إلا أن ذلك لا يمنع من الاستناد لبعضها مما لا يكون مخالفاً لموجبات الحجية، من باب التفكيك في الحجية.

[9] الكافي ج 2 كتاب الحجة باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضا ح 14 ص 84.

[10] عيون المعجزات ص 171.