29 مارس,2024

نزول الملائكة و الروح

اطبع المقالة اطبع المقالة

نزول الملائكة والروح

 

تضمنت الآيات القرآنية والنصوص الشريفة ذكر ليلة القدر بكل تعظيم وإجلال، كما أنها تضمنت ذكر جملة من الأوصاف الخاصة لها، مثل ما تمتاز به على بقية الليالي طيلة العام، وأنها أول ليلة من ليال السنة.

وقد وصفها القرآن الكريم بأنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، وأنها الليلة المباركة، وأنها سلام إلى مطلع الفجر، وهكذا.

ومن النصوص التي تعرضت للحديث عن شيء مما لها من ميز، ما جاء عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: ليلة القدر هي أول السنة وهي آخرها[1]. وقد فسر كونها أول ليلة في السنة مثلاً، بالإشارة إلى الجانب المعنوي، لأنها الليلة التي تكتب فيها الآجال والأرزاق، وبحلولها يطوى سجل الإنسان السابق، ويفتح سجله اللاحق.

ومما ورد في فضلها أيضاً أنها الليلة التي لا يترك فيها لمذنب ذنب، ولا لعاصٍ معصية ما دام يدعو الله سبحانه وتعالى، إلا من استثني، فقد جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: إذا كانت ليلة القدر تنـزل الملائكة الذين هم سدرة المنتهى وفيهم جبرائيل ومعهم ألوية فينصب لواء منها على قبري، ولواء في المسجد الحرام ولواء على طور سيناء، ولا يدعو مؤمن ولا مؤمنة إلا ويسلم عليه، إلا مدمن خمر، أو آكل لحم الخنـزير، والمتمضغ بالزعفران[2].

ومن الميز التي تضمنتها الأدلة الشرعية لليلة القدر، أنها تنـزل فيها الملائكة والروح إلى عالم الدنيا.

ويواجه القارئ لآيات سورة القدر التي تضمنت الحديث عن نزول الملائكة والروح فيها، مجموعة من الأسئلة، وأولها تحديد من تنـزل عليه الملائكة والروح في هذه الليلة المباركة، ذلك أنها كانت تنـزل خلال حياة النبي الأكرم محمد(ص) في عالم الدنيا عليه، لأنها تقوم بأحد أمرين، إما بإيصال الوحي إليه، أو لأنها تمثل واحدة من القنوات العلمية التي يعلم من خلالها(ص) ما سيجري خلال العام حتى العام الآخر.

وأما بعد خروجه(ص) من عالم الدنيا، وارتحاله إلى عالم الملكوت، فلا يخلو عن أحد أمرين:

الأول: البناء على استمرار نزولها بعده(ص)، وهذا يستدعي تحديد من الذي سف تنـزل عليه الملائكة في تلك الليلة.

الثاني: الالتـزام بانتهاء نزولها بعد رحيل النبي(ص) عن هذا العالم، وهذا يوجب البناء على رفع ليلة القدر من الدنيا.

وهل أن الروح المذكور في الآية المتحدثة عن نزولا لملائكة والروح في ليلة القدر من الملائكة، أو أنه مخلوق آخر غيرها.

وتقوم الإجابة على التساؤل الأول من الأسئلة المذكورة على الالتـزام ببقاء ليلة القدر بعد النبي(ص)، وعدم ارتفاعها، أو عدمه، إذ أنه لو بني على أنها مرفوعة بمجرد وفاته(ص)، لزم من ذلك القول بأنه لم يعد هناك نزول للملائكة والروح إلى عالم الدنيا، وهذا بخلافه لو بني على بقاءها، لأنه يستلزم استمرار نزولهم فيها.

ليلة القدر باقية غير مرفوعة:

وقع البحث بين الأعلام في أن ليلة القدر باقية غير مرفوعة بعد وفاة البي(ص)، أو أنها قد رفعت بمجرد وفاته؟ ويقصد من كونها ليست مرفوعة، وباقية، عدم كونها مختصة بزمان النبي(ص)، وبالتالي تبقى حتى بعد خرجه(ص) من هذا العالم. ولازم ذلك بقاء جميع الخصوصيات الثابتة لهذه الليلة، فكما أنها تنـزل فيها الملائكة والروح، سوف تكون أيضاً سلام حتى مطلع الفجر.

أما لو بني على رفعها، فكما سينقطع نزول الملائكة والروح عن عالم الدنيا، لن تكون تلك الليلة المحددة سلاماً حتى مطلع الفجر، ولن تكون تلك الليلة أيضاً خيراً من ألف شهر، بل سوف تكون كبقية الليال الأخرى، ولن يكون الدعاء فيها مستجاباً، ولن يغفر فيها للمذنبين والعاصين، وهكذا.

والمشهور بين علماء المسلمين، بل لعله لم يعرف مخالف بينهم، على أنها باقية لم ترفع، كما كانت أيام رسول الله(ص). نعم اختلفوا في بقاء جميع الخصوصيات الثابتة لها في زمان النبي(ص)، فقال بعضهم ببقاء جميع الخصوصيات دونما تغيـير، وقال آخرون بحصر البقاء لبعضها دون البعض الآخر.

نزول الملائكة والروح:

ومع البناء على أن ليلة القدر باقية لم ترفع، وأن الخصوصيات التي كانت ثابتة لها، لا زالت باقية بأكملها، ولا أقل من بقاء بعضها، يأتي الحديث حول نزول الملائكة والروح، وأنه على من يكون ذلك، وقد خرج رسول الله(ص) عن هذا العالم.

لا خلاف بين المسلمين في أن نزول الملائكة يكون على من يشاء الله سبحانه وتعالى من عباده، بل هو من المسلمات عندهم التي لا مناقشة فيها، وفقاً لما هو المستفاد من القرآن الكريم فيكون ذلك على من ينتخبه الله سبحانه وتعالى ويصطفيه من عباده المكرمين.

وقد دلت النصوص الشريفة على أنها تنـزل في ليلة القدر على الإمام المعصوم(ع) في كل زمان، فقد كان نزولها في زمان أمير المؤمنين(ع) عليه، وكان نزولها في أيام الإمام الحسن الزكي(ع)، عليه، وهكذا وهي اليوم تنـزل على ولي النعمة مولانا الإمام صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء).

ويعتقد الكثير من علمائنا، أن الغاية من نزولها على الإمام المعصوم(ع) لتـزويده بكل ما يحتاج إليه طيلة العام، من ليلة القدر إلى ليلة القدر في السنة التي تليها، فهي تخبره بجميع ما سوف يقع في تلك السنة من الأحداث والوقائع، وتزوده بكل ما يحتاج إليه من علوم ومعارف، وأشياء، وهذا يعني أنها لا زالت قناة علمية للمعصوم(ع)، كما كانت في زمان النبي الأكرم محمد(ص).

الفرضيات في نزول الروح والملائكة:

ومع غض الطرف عما ذكره المشهور، يمكن ذكر فرضيات متصورة في دافع نزول الملائكة والروح إلى عالم الدنيا في ليلة القدر، ولابد من النظر في هذه الفرضيات وملاحظة الدليل عليها لو وجد كي ما يقرر تمامية ما عليه المشهور، أو أن هناك شيئاً آخر ينبغي البناء عليه:

الفرضية الأولى: إن الغاية من نزول الملائكة في ليلة القدر، هو نزولها على الإمام المعصوم(ع) لإعطائه الأوامر التي يكون مطالباً بتنفيذها طيلة أيام السنة، وما يلزمه إبلاغه للمكلفين من الأحكام الشرعية، أو الأعمال المحددة، والمناهج والأساليب التي يلزم اتباعها خلال تلك الفترة.

والحاصل، إن دافع نزولها، بيان الوظيفة التي يلزمه القيام بها خلال السنة التي تبدأ بليلة القدر، وتنتهي بها من السنة القادمة.

وقد استند القائلون بهذه الفرضية إلى روايتين أدعي دلالتها على أن الملائكة تنـزل إلى عالم الدنيا كي ما تبلغ المعصوم بالتكليف المتوجه إليه خلال السنة، سواء كان المعصوم نبياً، أم كان وصياً ذلك:

الأولى: ما رواه الكليني(ره) في أصول الكافي، عن أبي جعفر(ع) قال: قال الله عز وجل في ليلة القدر:- (فيها يفرق كل أمر حكيم)، يقول ينـزل فيها كل أمر حكيم والمحكم ليس بشيئين، إنما هو شيء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله عز وجل، ومن حكم أمر فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، إنه ليـنزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا، وإنه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كل يوم علم الله عز وجل الخاص والمكنون العجيب المخزون، مثل ما ينـزل في تلك الليلة من الأمر، ثم قرأ:- (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)[3]. ودلالته على المطلوب من خلال قوله(ع): إنه لينـزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور -إلى قوله-وفي أمر الناس بكذا وكذا. لأن المستفاد منه أن الملائكة تنـزل عليه(ع) من أجل أن تعطيه الأمور التي يلزمه ممارستها خلال السنة، سواء ما كان منها مرتبطاً به(ع)، أم ما كان منها مرتبطاً بالناس.

الثانية: ما رواه أيضاً عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع)-في حديث- قال: لقد خلق الله جل ذكره ليلة القدر أول ما خلق الدنيا ولقد خلق فيها أول نبي يكون، وأول وصي يكون، ولقد قضى أن يكون في كل سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأمور إلى مثلها ن السنة المقبلة، من جحد ذلك فق رد على الله عز وجل علمه، لأنه لا يقوم الأنبياء والرسل والمحدثون إلا أن تكون عليهم حجة بما يأتيهم في تلك الليلة، مع الحجة التي يأتيهم بها جبرائيل(ع). قلت: والمحدثون أيضاً يأتيهم جبرائيل أو غيره من الملائكة(ع)؟ قال: أما الأنباء الرسل(ص) فلا شك، ولابد لمن سواهم من أول يوم خلقت فيه الأرض إلى آخر فناء الدنيا أن تكون على أهل الأرض حجة ينـزل ذلك في تلك الليلة إلى من أحب من عباده[4].

والمستفاد منه أن نزول الملائكة على المعصوم(ع) يكون بإلقاء الحجة عليه في ليلة القدر، ويتمثل ذلك في الأوامر والنواهي الملاقاة إليه، والتي يكون(ع) مطالباً بامتثالها، والالتزام بها.

ويمكن المناقشة في دلالة النصين المذكورين على المدعى بإجابات أشير إليها، إلا أن ذلك لا يعني تماميتها بأكملها، فيقال:

أولاً: إنه لا ريب في دلالة الخبرين المذكورين على نزول الملائكة في ليلة القدر على المعصوم(ع) لغرض ما، إلا أنهما لم يتعرضا لبيان ذلك الغرض الذي ينزلون عليه من أجله. خصوصاً وأنه لا ملازمة بين نزولهم عليه، وأن يكون الغرض من ذلك هو إعطاءه الأوامر والنواهي التي يلزمه تطبيقها خلال العام. لأن من المحتمل وجود غرض آخر يكون سبباً لنـزولهم عليه.

ثانياً: إن النصين المذكورين مخالفان لظاهر القرآن الكريم، وهذا يمنع من حجيتهما، لما دل من أن كل ما خالف كتاب ربنا لم نقله، وزخرف، واضرب به عرض الجدار، توضيح ذلك: إن مقتضى قوله تعالى:- (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)[5] والنصوص الشريفة أن أعمال العباد تعرض على الإمام المعصوم(ع)، فأي حاجة بعد ذلك إلى أن يعرف الإمام(ع) ما ينبغي وما لا ينبغي، وما سيفعل وما لا يفعل، وغير ذلك.

ثالثاً: إن مقتضى البناء على ثبوت هذه الفرضية الالتزام بأعلمية الملائكة على المعصوم(ع)، وسلطته التكوينية والتشريعية عليه، لأنهم الذين يقومون بعملية الإيصال والتعليم، وهذا خلاف ما دل عليه الدليل العقلي والنقلي من أعلمية المعصوم(ع) عليهم[6].

الفرضية الثانية: إن غاية نزول الملائكة في ليلة القدر على المعصوم(ع) من أجل التفريق وبيان المجمل، فيتولون عملية التفريق وبيان ما يكون مجملاً من آيات القرآن الكريم وإيضاحه.

وقد استند أصحاب هذه الفرضية إلى رواية عن الإمام الباقر(ع)، أنه قال: قال الله عز وجل في ليلة القدر:- (فيها يفرق كل أمر حكيم)، يقول: ينـزل فيها كل أمر حكيم، والمحكم ليس بشيئين، إنما هو شيء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله عز وجل، ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، إنه لينـزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر الناس بكذا وكذا، وإنه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كل يوم علم الله الخاص والمكنون العجب المخزون، مثل ما ينـزل في تلك الليلة من الأمر ثم قرأ:- (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله إن الله عزيز حكيم)[7]، فيستفاد من هذا النص أن هناك عملية تفسير وبيان للمعصوم(ع) تتصدى لها الملائكة في تلك الليلة بتفريقها وتبيينها للمجمل حتى يكون واضحاً جلياً عنده(ع) كيما يلقيه بعد ذلك للناس وفق ما تم بيانه إليه، ومن هنا قالوا بأن المعصوم(ع) كان يعلم القضايا على نحو الوجه الكلي إلا أنه لا يمكنه الاستفادة التامة من ذلك، فتأتيه الملائكة في ليلة القدر لتعمد إلى تفصيل الكليات ليتضح الأمر، ويسهل عليه حتى يمكنه استنباط الجزئيات من تلك الكليات والكبريات.

ولا يخفى أن اللازم من الفرضية المذكورة أن المعصوم(ع) جاهل بالأمور التفصيلية، والأمور الجزئية، وهذا ما لا يمكن الالتـزام به، مضافاً لكونه يتنافى وما نعتقده كمسلمين من أن الأعمال تعرض على النبي(ص) وعلى المؤمنين المفسر في الآية الشريفة بالأئمة الأطهار(ع).

ودفع المناقشة المذكورة، بالقول بأن المقصود من نزولها في تلك الليلة ورفع الإجمال والإبهام، بعمدهم(ع) إلى بيان ما يكون من المعلوم عند المعصوم(ع) مجرى للبداء، وما لا يكون كذلك، ليكون محيطاً، في غير محله.

الفرضية الثالثة: أن يكون نزولها في ليلة القدر عليه(ع) لخصوصيات لا نعلمها، لأنه لم يعمد الأئمة الأطهار(ع) للكشف عنها، وبيان السبب الذي ينـزلون من أجله. ويشير إلى هذا ما روي عن الإمام الباقر(ع) فقد سأله رجل: يا ابن رسول الله لا تغضب علي، قال: لماذا؟ قال: لما اريد أن أسألك عنه، قال: قل، قال: ولا تغضب؟ قال: لا أغضب. قال: أرأيت قولك في ليلة القدر تنـزل الملائكة والروح فيها إلى الأوصياء يأتونهم بأمر لم يكن رسول الله(ص) قد علمه أو يأتونهم بأمر كان رسول الله(ص) يعلمه وقد علمت أن رسول الله(ص) مات وليس من علمه شيء إلا وعلي(ع) واعٍ له. قال أبو جعفر(ع) ما لي ولك أيها الرجل، ومن أدخلك عليّ، قال: أدخلني عليك القضاء لطلب الدين، قال: فأفهم ما أقول لك: إن رسول الله(ص) لما أسري به لم يهبط حتى أعلمه الله جل ذكره علم ما قد كان وما سيكون وكان كثير من علمه ذلك جمل يأتي به تفسيرها في ليلة القدر، وكذلك كان علي بن أبي طالب(ع) قد علم جمل العلم ويأتي تفسيره في ليالي القدر كما كان مع رسول الله(ص) قال السائل: أو ما  كان في الجمل تفسير؟ قال: بلى، لكنه إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي وإلى الأوصياء: افعل كذا وكذا لأمر قد كانوا علموه امروا كيف يعملون فيه؟ قلت: فسر لي هذا، قال: لم يمت رسول الله(ص) إلا حافظاً لجملة العلم وتفسيره، قلت: فالذي كان يأتيه في ليال القدر علم ما هو؟ قال: الأمر واليسر فيما كان قد علم. قال السائل: فما يحدث لهم في ليالي القدر علم سوى ما علموا؟ قال: هذا مما أمروا بكتمانه، ولا يعلم تفسير ما سألت عنه إلا الله عز وجل[8]. والاستدلال بالخبر المذكور من خلال ما جاء في ذيله، هو قوله(ع): هذا مما أمروا بكتمانه، ولا يعلم تفسير ما سألت إلا الله عز وجل، فإن المستفاد منه أن نزول الملائكة في ليلة القدر يكون لغرض لم يصرح الأئمة الأطهار(ع) به، ولم يتعرضوا لبيانه والإفصاح عنه.

الفرضية الرابعة: إن نزول الملائكة في ليلة القدر من أجل زيارة المعصوم(ع)، ويزفون له البشارة. وتختلف البشارة التي تزف إليه(ع)، فتارة تكون البشارة بفوز شيعته(ع)، وأخرى تكون برضى الله سبحانه وتعالى عن أمته، وثالثة تكون بأن الله سينـزل الغيث على الأمة، ورفع العذاب عنها، وغير ذلك من أمور.

وليس في النصوص ما يشير إلى هذا المعنى، نعم إن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، خصوصاً وأن الاستقراء ناقص، وليس تاماً.

الفرضية الخامسة: إن الملائكة تنـزل في ليلة القدر على المعصوم(ع) من أجل أن تتلقى الأوامر منه، فهي تنـزل في زماننا هذا على ولي نعمتنا الإمام صاحب الزمان(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، من أجل أن تتلقى الأوامر والنواهي منه كي ما تعمل بوظيفتها طيلة أيام السنة، لأن كل طائفة من الملائكة مكلفة أن تقوم بأعمال معينة، فهناك من يقوم بكتابة الآجال، وهناك من يقوم بتوزيع الأرزاق، بل هناك من تكون وظيفته تحديد من يستجاب دعائه، ومن لا يستجاب.

والفرضية المذكورة عكس الفرضية الأولى التي تضمنت أنها تنـزل من أجل أن تلقي إليه الأوامر والنواهي.

وليست الفرضية المذكورة من صغريات التفويض للفرق بينهما الظاهر لكل من تأمل في ذلك.

ويشير إلى أن الغاية من نزول الملائكة على المعصوم(ع) في ليلة القدر من أجل تلقيها الأوامر والنواهي منه، هو أن نزولها عليه في تلك الليلة لن يخلو عن محتملات ثلاثة:

الأول: أن تكون غايتهم من النـزول عليه، هو التماس البركة منه، لأن الإمام صاحب الزمان(عج) إمام الكون وعلة وجوده، وهو قطب الرحى، وهو نظام الوجود، فينـزلون عليه من أجل التماس البركة منه، ونيل الخير من فضله، وفيوضه.

الثاني: أن يكون نزولها عليه من أجل إلقاءها الأوامر له، وتقديمها النواهي التي يقوم بعملها طيلة العام.

الثالث: أن يكون نزولها عليه من أجل تلقيها الأوامر الصادرة منه والنواهي التي يلزمها القيام بها.

ولا يخفى دخول الاحتمال الأول ضمن الاحتمال الثالث، لأنه يمكن أن يجتمعان معاً، فتـنزل من أجل أخذ الأوامر والنواهي التي يطلب منها القيام بها، وفي نفس الوقت يتضمن هذا النـزول حلول الخير والبركة عليها، ونيلها الفيوضات المباركة. وعندها يدور الأمر بين المحتملين الثاني والثالث. وقد عرفت في ما تقدم عدم تمامية الاحتمال الثاني، فيتعين الاحتمال الثالث.

وقد يعمد للتوفيق بين الاحتمالين جمعاً بين الفرضيتين الأولى والخامسة، فيقرر، بأن هناك صنفين من الملائكة ينـزلون على المعصوم(ع) في ليلة القدر، يتولى الصنف الأول منهم تقديم ما حملوه عن الله سبحانه وتعالى إليه(ع)، فلا يخرج دورهم عن مجرد واسطة في الإيصال والنقل، ولا يلزم أن يكون الناقل واعياً لما ينقله، أو يكون الحامل عارفاً بما يحمل، فيكون ذلك نظير الشجرة التي ألقى الله عز وجل فيها الكلام، وسمعه موسى(ع)، ولا يتوهم أحد أن الشجرة كانت واعية بما ألقي فيها من الكلام كي ما يقال بأن لازمه أن تكون أعلم من موسى(ع).

ويقوم الصنف الثاني، بتلقي الأوامر والنواهي التي يمليها المعصوم(ع)، مما يلزمها القيام به، ومن الممكن أن يتداخل القسمان، بأن يكون جملة من الملائكة في الصنفين[9].

الروح في ليلة القدر:

ثم إنه بعد الفراغ عن أن معنى نزول الملائكة في ليلة القدر، غايته تلقيها ما يلقى إليها من ولي الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، يبقى تحديد المقصود من الروح الذي ورد ذكره في الآية الشريفة، فقد تعددت الأقوال المذكورة في كلمات المفسرين:

أحدها: أنه ملك عظيم لو ألتقم السماوات والأرض كان له ذلك في لقمة واحدة.

ثانيها: يقصد من الروح في الآية الشريفة طائفة من الملائكة لا يراهم الملائكة إلا في ليلة القدر.

ثالثها: أنه خلق من خلق الله سبحانه تعالى يأكلون ويلبسون، وهذا الخلق ليس من الملائكة ولا من الإنس، ولعلهم من خدم الجنة.

رابعها: الروح في الآية الشريفة هو نبي الله عيسى بن مريم(ع).

خامسها: أن المقصود من الروح فيها هو القرآن الكريم.

سادسها: يقصد بالروح في الآية الشريفة الرحمة.

سابعها: الروح في هذه الآية هو أشرف الملائكة.

وقد ربط العلامة الطباطبائي صاحب الميزان(ره) بين الروح المذكورة في الآية والروح التي ورد ذكرها في قوله تعالى:- (يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)[10]، على أساس أن المقصود من الروح هنا هو عين المقصود بها هناك، فيكون اللفظ في كلا الآيتين مشيراً إلى معنى واحد. إلا أنه(ره) لم يذكر المقصود من هذا المفهوم في كلتا الآيتين، وكأنه بهذا يوحي للقارئ أنه من المفاهيم المبهمة.

واحتمل بعضهم أن المقصود من الروح في الآية الشريفة في سورة القدرة عبارة عن النفس الإنسانية. وعلى أي حال، لا تنحصر الأقوال الموجودة في كلمات المفسرين في عدد معين، فقد يجد القارئ أقوالاً أخرى لم نذكرها.

وحتى يمكن الوقوف على المقصود من الروح، يلزم ملاحظة موارد الاستعمال لهذا المفهوم في القرآن الكريم، والموجود فيه أربع طوائف:

الأولى: الآيات التي ورد فيها ذكر الروح من دون إضافة شيء آخر إليه، مثل قوله تعالى:- (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)[11]، وكذا قوله تعالى:- (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه)[12]، وقال عز من قائل:- (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي)[13].

الثانية: ما تضمنت إضافة الروح إلى القدس، قال سبحانه:- (وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس)[14]، وقال عز من قائل:- (إذ أيدتك بروح القدس)[15]، وقال أيضاً:- (قل نزله روح القدس من ربك بالحق)[16].

الثالثة: ما تضمنت ذكر الروح مضافاً إلى جبرائيل، يقول سبحانه:- (نزل به الروح الأمن على قلبك لتكون من المنذرين)[17].

الرابعة: ما تضمنت ذكر الروح مضافاً إلى أمر الله تعالى، فلاحظ قوله سبحانه:- (ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)[18]، وقال سبحانه:- (قل الروح من أمر ربي)[19]، وقال عز من قائل:- (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده)[20].

والحاصل، الروح شيء صادر أو منبثق من الذات الإلهية، سواء أكان أمراً روحياً محضاً أم شيئاً ملكوتياً مجرداً، وعلى كليهما يعتبر من مخلوقات الله، وحقيقته وماهيته مجهولة.

وهذا يقتضي كون المفهوم المذكور في الآية الشريفة مجملاً، لا يمكن تحديده من خلال ملاحظة الآيات الشريفة، لما عرفت من تعدد الاستعمال له في القرآن الكريم، ويكون اختيار واحد من المعاني المذكورة فيه بحاجة إلى قرينة تحدده، وليس في الآية الشريفة ما يساعد على ذلك.

نعم يمكن البناء على كون المقصود من الروح في السورة الشريفة هو القرآن الكريم بلحاظ النصوص التي تضمنت أن القرآن الكريم قد نزل في شهر رمضان المبارك، وأن ذلك كان في ليلة القدر، فقد ورد عن الإمام الباقر(ع)، أن رجلاً سأله، فقال له: أخبرني عن قول الله عز وجل:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[21]، قال هي ليلة القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر.

فإذا ضممنا أموراً ثلاثة بعضها مع بعض سوف تكون النتيجة أن المقصود من الروح في سورة القدر هو القرآن الكريم، وتلك الأمور هي:

الأول: لقد تحدث القرآن الكريم عن نزول الملائكة والروح في ليلة القدر دون غيرها من ليالي السنة.

الثاني: إن أحد الاستعمالات لكلمة الروح في القرآن الكريم كما سمعت بمعنى القرآن الكريم.

الثالث: لقد نص القرآن الكريم على أن القرآن قد نزل في خصوص ليلة القدر.

وعليه، سوف نصل للنتيجة التي ذكرناها من أن المقصود منه هو خصوص القرآن الكريم وليس شيئاً آخر. ولا أقل من كون هذا المعنى محتملاً، وهو أقوى المعاني المحتملة في المقام.

خاتمة:

ثم بناءً على الالتزام بالنتيجة التي وصلنا إليها من أن المقصود من الروح في السورة هو القرآن الكريم، يبقى ما هو السر في نزول القرآن الكريم على ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، خصوصاً وأن القرآن الكريم قد نزل من قبل على النبي الأكرم محمد(ص)، فلماذا ينـزل عليه مرة ثانية، وما هو ذلك القرآن الذي ينـزل عليه؟

إن هذا من الأسرار الإلهية غير المعلومة، والتي علمها عند الله سبحانه وتعالى ومن أراد الله عز وجل له أن يكون محيطاً بذلك.

 

 

[1]

[2]

[3] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة ح 3 ص 248.

[4] المصدر السابق ح 7 ص 250.

[5] سورة التوبة الآية رقم 105.

[6] وبطلان هذا اللازم من الوضوح بمكان، فهل يتوهم أحد أن جبرائيل(ع) أعلم من النبي(ص)، مع أنه لا يختلف أثنان في أنه كان يبلغه بالوحي، وهذا يعني أن مجرد نقل الملائكة لولي الأمر(عج) شيئاً لا يستوجب أعلميتها به منه، ومنه تعرف الخدشة في الجوابين الأولين أيضاً.

[7] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة ح 3 ص 248.

[8] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة ح 8 ص 251.

[9] شبهة إلقاء المعصوم نفسه في الهلكة ودحضها ج 1 ص 361- 388(بتصرف).

[10] سورة الإسراء الآية رقم

[11] سورة يوسف الآية رقم 87.

[12] سورة النساء الآية رقم 171.

[13] سورة الحجر الآية رقم 29.

[14] سورة البقرة الآية رقم 87.

[15] سورة المائدة الآية رقم 110.

[16] سورة النحل الآية رقم 102.

[17] سورة الشعراء الآية رقم 193.

[18] سورة النحل الآية رقم 2.

[19] سورة الإسراء الآية رقم 85.

[20] سورة غافر آية رقم 15.

[21] سورة الدخان الآية رقم 2.