19 أبريل,2024

الإعجاز القرآني(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

 

الإعجاز القرآني(1)

يمثل القرآن الكريم معجزة النبي الأكرم محمد(ص) الخالدة، والتي تميزت على بقية معاجزه، ومعاجز غيره من الأنبياء، فإن جميع المعاجز الأخرى تنتهي برحلة النبي عن عالم الدنيا، إلا أن مقتضى خاتمية رسالة النبي(ص)، استدعى وجود معجزة دائمة وخالدة إلى يوم القيامة، فكان القرآن الكريم.

وقد عورض القرآن الكريم بالأمس في عصر النبي(ص)، ولا زالت المعارضات مستمرة بعد وفاته(ص)، وإلى اليوم، حيث أثيرت حوله العديد من الشبهات، فهؤلاء هم النصارى وغيرهم، اليوم يتحدثون كثيراً عن وجود تناقضات علمية فيه، كما أن هناك من يصر على بشريته، وأنه ليس كلاماً إلهياً سماوياً نازلاً من السماء، وإنما هو من تكوين وبناء البشر، فليس هو كلام الله سبحانه وتعالى، وإنما هو كلام النبي محمد(ص)[1].

وتندفع هذه الشبه وغيرها حال الوقوف على البعد الإعجازي في القرآن الكريم، خصوصاً مع البناء على عدم حصر دائرة إعجازه في جنبة معينة كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

 

حقيقة الإعجاز لا نسبيته:

ولا بأس قبل البدء في الحديث عن إعجاز القرآن الكريم، وتحديد دائرته، أن يحدد أن الإعجاز الثابت لأي معجزة من المعاجز، هل هو إعجاز حقيقي، لا يختص بمكان ولا زمان، فيكون الإعجاز لها ثابتاً وإن اختلفت الأزمنة والأماكن، واختلفت الثقافات، فمعجزة نبي الله موسى(ع)، بأن يخرج يده بيضاء، لن تكون منحصرة حال وجوده في مصر، بل  لو ذهب إلى بلاد الشام كان ذلك سيحصل منه أيضاً، ولو كان ذلك في زماننا، وكذا إعجاز نبي الله عيسى(ع) بأنه يحيي الموتى ويبرأ الأكمه والأبرص، ليست مختصة بتلك الفترة، بل متى نزل مع ولي النعمة(عج)، فإنه يمكنه أن يقوم بذلك أيضاً. أم أن الإعجاز نسبي، وهو الذي يحدد صدق عنوان الإعجاز على المعجزة فترة زمنية، فلا تكون في غير ذلك الزمان معجزة، أو بمكان محدد فلا تكون خارج إطار ذلك الزمان معجزة.

وبكلمة موجزة، هل أن المعجزة تفقد صفة الإعجاز عنها جراء عوامل دخيلة في ذلك كالزمان والمكان، أو أن صفة الإعجاز الثابتة لها لا تفقد وإن تغير الزمان والمكان؟ هناك احتمالان، بل قولان:

 

الأول: البناء على نسبية المعجزة:

لأن إعجاز المعجزة يكمن في خرقها للعادة، وحصولها بنحو لا يكون مقدوراً عند أهل ذلك الزمان، أما لو أصبح حصولها أمراً ممكناً لهم، فقد افتقرت لعنصر أساس في وجودها، وهذا مانع من عدها معجزة حينئذٍ، ومثال ذلك حادثة الإسراء والمعراج، فإن جريان هذه الحادثة في ليلة واحدة خلال مدة زمنية قصيرة في ذلك الوقت كان امراً خارقاً للعادة، ومعجزاً لمعاصريه، إلا أن ذلك أصبح اليوم أمراً ممكناً، وليس خارقاً للعادة، فلن تكون معجزة.

وبعبارة فنية، إن المعجزة أمر مادي، ولابد أن تكون ناشئة من سبب مادي بمقتضى السنخية بين السب والمسبب، ومتى اطلع على الأمر المادي الذي نشأت المعجزة منه، فقد فقدت إعجازها.

 

الثاني: حقيقية المعجزة:

وقد بنى القائلون به مختارهم على أن مجرد وجود منشأ مادي للمعجزة لا يوجب انتفاء إعجازها، لأنه ليس لازماً أن يكون وجودها منحصراً في الجانب، لأن لكل شيء من الموجودات عنصرين، عنصراً ملكوتياً، وعنصراً ملكياً، والمعجزة لا تختلف عن ذلك، فإن لها عنصرين أيضاً ملكوتياً وملكياً، وهذا يعني أنه كما يمكن أن يكون سبب وجودها هو العنصر المادي الملكي، يمكن أيضاً أن يكون سببه هو العنصر الملكوتي الغيبي، خصوصاً مع الالتفات إلى أن سبب حصول المعجزة هو الإرادة القدسية للمعصوم، وليس سبب وجودها مقدمات مادية.

 

مقامات القرآن الكريم:

إن المستفاد من الآيات الشريفة أن للقرآن الكريم ثلاثة مقامات، وتترتب عليها مجموعة من الوظائف:

 

الأول: مقام المعرفة: فإن القرآن الكريم حقيقة نورية نازلة من عند الباري سبحانه وتعالى، وهو جامع لكافة العلوم والمعارف، ويتضمن كل ما يحتاجه البشر في شؤونهم المادية والمعنوية، وأنها حق لا ريب فيها، ويترتب عليه وجوب الاقرار والإيمان به.

الثاني: مقام الإعجاز: والإقرار بكون القرآن الكريم كتاباً أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، قد أنزله الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم(ص)، ليكون آية إلهية وشاهداً على صدق نبوة النبي الخاتم(ص)، وحقانية ما يدعو له.

الثالث: مقام الحجية: على سائر الناس والهيمنة على سائر الكتب والعقول والإنكار، فلا يجوز مخالفته، أو الإعراض عنه.

ومن الواضح تداخل المقامات الثلاثة مع بعضها البعض، والعمدة هو المقام الثاني، لأن الآخرين يتوقفان عليه، فإنه متى ثبت أنه كتاب الله سبحانه وتعالى، فإنه تثبت له الحجية حينئذٍ ووجوب معرفته والرجوع إليه في مختلف العلوم والمعارف، دون العكس، لأنه لا ملازمة بين معرفة الشيء، أو حجيته، وبين إعجازه، فإن الإعجاز يقتضي وجوب المعرفة والعمل، وإلا لم يكن وجوه للإعجاز.

 

معنى الإعجاز القرآني:

عُرفت المعجزة بأنها الأمر الخارق للعادة المطابق للدعوى المقرون بالتحدي، فهي تتضمن إفحاماً للخصم، يظهره الله تعالى على يد نبيه، تأييداً لنبوته، وإثباتاً لدعوته. ووجه اتصافها بالإعجاز يعود لعجز الناس عن مجاراتها والإتيان بمثلها، كما أنهم يعجزون عن منع وقوعها. ومقتضى ما ذكر لزوم كون المعجزة أمراً ظاهراً للجميع وليس منحصراً في جماعة محددة، حتى يمكنها أن تكون حجة على الجميع.

وقد تضمنت المصادر التاريخية أن للرسول الأكرم محمد(ص) ألف معجزة، أحدها القرآن الكريم. وهذا هو مما سوف نسلط الضوء عليه، لتحديد المقصود من إعجازه، فيقال:

من المعلوم أن القرآن الكريم قد جاء بلسان عربي مبين، فتتعدد المحتملات في تحديد المقصود من إعجازه، فهنا احتمالات أربعة:

 

أحدها: الإعجاز البياني:

هناك معنيان متصوران في تحديد المقصود من الإعجاز البياني:

الأول: أن يكون المقصود منه ما تضمنه القرآن الكريم من بلاغة وفصاحة، والمقصود من البلاغة، عبارة عن حسن البيان، وقوة التأثير، وتحقق ما يريده المتكلم. وأما الفصاحة فيراد منها: خلو الكلام عن الإبهام والاستهجان، وتنافر الحروف، الثقل على اللسان.

الثاني: أن يكون المقصود بإعجازه البياني، هو أسلوبه ونهجه ونظمه الذي جاء به، وخالف فيه الطريقة التي كانت مألوفة ومتعارفة عند العرب في أشعارهم وخطبهم، ورسائلهم، حيث جاء بطريقة مغايرة لما كان معروفاً بينهم.

والمشهور بين المسلمين عامة وخاصة، هو المعنى الأول، وهذا يعني أن المقصود من إعجازه ما يتضمنه من بلاغة وفصاحة، لتفوقه على كلام البشر.

ومن النماذج القرآنية المشيرة إلى ذلك قوله تعالى:- (وقيل يا أرض ابلعي مماءك ويا سماء  أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين)[2]، فقد ورد أنه بعد نزولها أنزلت قريش معلقاتها السبع عن جدران الكعبة، وقد شغلت هذه الآية أساتذة البديع، لأنها اشتملت على عشرات الأنواع من المحسنات البديعية، مع أنها لا تتجاوز سبعة عشر لفظاً، ومن تلك المحسنات:

 

1-المناسبة التامة بين لفظتي: ابلعي، وأقلعي.

2-الاستعارة فيهما.

3-الطباق بين الأرض والسماء.

4-المجاز في قوله تعالى:- (يا سماء) فإن الحقيقة يا مطر السماء.

5-الإشارة في قوله تعالى:- (غيض الماء)، فإنه عبر به عن معان كثيرة، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء، وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء.

6-الإراداف في قوله تعالى:- (واستوت على الجودي)، فإنه عبر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي. وغير ذلك[3].

 

ثانيها: الإعجاز المضموني:

ويقصد بذلك ما تضمنه القرآن الكريم من علوم ومعارف لم تكون معهودة في تلك الفترة الزمنية، ولم تكن متناسبة ومستوى عقول البشر الذين نزل القرآن فيهم، ولا تناسب مستوى حضارتهم البيئة التي كانوا يعيشون فيها.

ويؤكد ما ذكر، ما يظهر بين فينة وأخرى من الدراسات العلمية التي تشير لمدى لتفوق العلمي للقرآن الكريم، على سائر العلوم. مضافاً لما توصل إليه العلم الحديث وفي مجالات عدة من الحقائق العلمية الكثيرة، التي تحدث عنها القرآن الكريم قبل وقوعها بمئات السنين، حال لم يكن الناس مدركين لحقائقها معناها.

 

 

[1] تعرضنا بصورة مفصلة في بحوث متقدمة للحديث حول مسألة بشرية القرن، وإثبات أنه كلام الله تعالى النازل على نبيه الكريم(ص) جاءه به الأمين جبرائيل(ع).

[2] سورة هود الآية رقم 144.

[3] يمكن الرجوع لتفصيل ذلك إلى كتاب الإلهيات ج 2 ص 310، كما أن القارئ يجد فيه بحثاً مفصلاً عن البعد البياني، بملاحظة البلاغة والفصاحة في القرآن الكريم مع عرض مفصل للنماذج من الآيات القرآنية.