16 أبريل,2024

التراث و المعاصرة

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

التراث والمعاصرة

 

من الصراعات الفكرية التي يعيشها الوسط الاسلامي بين أفراده، أزمة التراث ومواكبة الحضارة والتطور الزمني المعبر عنها بالمعاصرة، فتوجد رؤيتان متقابلتان يعيش المسلم بينهما:

الأولى: الحفاظ على التراث ومراعاته.

الثانية: مواكبة الحضارة والتطور ومسايرته، وقد عرفت تسميتها بالمعاصرة.

 

وتقوم الرؤية الثانية على تخلي الإنسان عن التراث، وقد كان منشأها دعوى أصحابها بأن المطلوب من الإنسان أن يعيش ليومه وحاضره الحياتي ويكون مواكباً لما يكون فيه من تقدم وتطور، بحيث تكون جميع الأعمال والتصرفات الصادرة عنه منسجمة مع ما يعيش.

 

واستند أصحاب الرؤية الأولى، إلى التكوين التاريخي للأمم، فإنه يعيش من خلال تراكم التراث، وهذا يؤثر في حصول الذات وصياغتها ويوجب تميز كل أمة عن أخرى بحضارتها.

من هنا قرر أصحاب هذه الرؤية أن التخلي عن التراث يساوق التخلي عن الذات، لأنها المكون الحقيقي لحضارة الأمة كما عرفت.

 

حقيقة الرؤيتين:

 

ومن خلال ما تقدم يمكننا تعريف الرؤيتين التي يعيش المسلم أزمة بينهما كما يقال:

الأولى: المعاصرة ومواكبة التقدم والحضارة، وهي تعني التخلي عن التراث، وهذا يوجب التخلي عن الذات.

الثانية: المحافظة على التراث والتخلي عن المعاصرة، وهذا يستلزم إيقاف عجلة الزمن وتعطيل الحركة في حياة الأمة.

ومن الضروري في حال تقرير المصير من اختيار المجتمع إحدى هاتين الرؤيتين، فإما أن يكون الإنسان تراثياً أو يكون معاصراً.

 

وقد وجد الفريقان في الوسط الإسلامي، حيث أصرّ جماعة على المحافظة على التراث من خلال الجمود، فحافظت على تراثها وتاريخها، ورفضت التطور ومعطياته التي لابد منها للإنسان المعاصر، واختارت جماعة أخرى المعاصرة والتطور على الماضي والتراث والذات.

 

رؤية ثالثة:

 

ولما كان العمل وفق الرؤية الثانية صعباً، لأنه يلزم منه التخلي عن الذات كما سمعت، كما أن الجمود والتوقف وفقاً للرؤية الأولى لا ينسجم والحياة العصرية اليوم، ظهرت رؤية ثالثة حاولت التوفيق بين الرؤيتين السابقتين، والتلفيق منهما، ولعلها تظهر من خلال الكلمة المشهور على الألسنة غالباً، وقيل بنسبتها لأحد الدعاة عندما زار باريس، ورأى السلوك الغربي في النظام والنظافة والالتزام بالمواعيد، واحترام القانون وغيرها من السلوكيات الحضارية في تلك المجتمعات، مما يفتقد في المجتمعات الشرقية، قال: هاهنا الاسلام، وهناك المسلمون.

 

وهو بهذا يقرر إمكانية التلفيق بين الأمرين، فتؤخذ السلوكيات الحضارية الغربية دون حرج، وتضم إليها الشهادتان، فيؤلف بين الرؤية المعاصرة ورؤية المحافظة على التراث.

ولا يخفى أن وجود السلوكيات المخالفة للتعاليم الاسلامية في مجتمع ما، يعني عدم وجود الاسلام فيه، كما أن وجود بعض المظاهر الموافقة للإسلام في مجتمع آخر، تعني وجوده فيه، فمن الخطأ توهم وجود الاسلام في الغرب نتيجة وجود بعض السلوكيات ونفيه عن الشرق نتيجة وجود سلوكيات أخرى، فلا الغرب يملك اسلاماً ولا الشرق يعيش بدون اسلام.

 

الرؤية التلفيقية:

 

وعلى أي حال، تقوم هذه الرؤية كما سمعت على أخذ الشكل والصيغة من التراث، أما المحتوى والمضمون فيؤخذ من الحضارة الغربية المعاصرة. لأن الثابت في الحضارات هو الأشكال والقوالب، وأما المحتويات فإنها تتعرض لتحولات كثيرة وهزات مختلفة، وتتبدل من وقت لآخر.

ولهذه الرؤية التلفيقية تصويران مختلفان:

 

الأول: أن تؤخذ العقلانية الموروثة من الفكر الإسلامي، وتحلل بها القضايا الحضارية المعاصرة، مثل: حقوق الإنسان، والتسامح، والعنف، والمساواة.

الثاني: عكس التصوير الأول: وذلك بأن يؤخذ المضمون والمحتوى من التراث مثل: الإعراض عن الدنيا، والزهد، والذكر، والتقوى، والآخرة، وتحلل بالعقلية الحضارية الغربية من خلال المنطق النفعي مثلاً.

 

قراءة في الرؤية التلفيقية:

وقبل عرض قراءة في هذه الرؤية قبولاً وعدما، لابد من الإشارة لحقيقتين لا مجال لإنكارهما، أو التشكيك فيهما:

الأولى: إن الحالة التي عليها المسلمون اليوم من عدم مواكبة للواقع العالمي من التطور والرقي في المجالات المختلفة، كالمجال العلمي، والاقتصادي، والسياسي، تعود لأسباب عديدة:

منها: الواقع الذي كانت عليه الخلافة الإسلامية، سواء أيام الدولة الأموية، أم الدولة العباسية، وكذا أيام الدولة العثمانية، من حالات البذخ، والترف، والظلم، وسوء التوزيع والتميـيز الذي مارسه الحكام في تلك الفترات، فقد كان لها أبرز الأُر في ما يعيشه المسلمون اليوم، حيث لم يعتن خلال تلك الفترات بالأبعاد التنموية، وإنما كان جلُّ الاهتمام على مثل هذه المظاهر، والصور.

 

ومنها: العقيدة الخاطئة التي أوجدتها السلطة الاموية في الوسط الاسلامي، وهي عقيدة الجبر، بحيث جعلت الناس يعتقدون أن كل ما يقع عليهم وما يصدر منهم، فهم مجبورون عليه، وليس للإنسان أية إرادة في اختيار ما يشاء، بل هو مجبور حتى في الأفعال التي تصدر عنه. فيقتنع الانسان أنه لن يتمكن من تغيـير أي شيء يوجد خارجاً، لأنه ليس لديه خيار في تغيـير، بل هو مجبور عليه، فلماذا يعمد للتغيـير إذاً، والحال هذه.

 

الثانية: لقد عجزت الحضارة الغربية عن تحقيق ما يحتاجه الإنسان، من السعادة والرخاء والأمن، وهذا ينجلي بملاحظة ما تذكره التقارير العلمية، سواء في المجالات الصحية، بلحاظ كثرة المراجعين للمصحات النفسية، أم بملاحظة مقدار ما يوجد فيها من فقر، وعمليات قتل وسطو ونهب، وغير  ذلك.

 

وهذا العجز كما  كان في السابق، فهو موجود اليوم أيضاً، من دون فرق بينهما، كما لا يخفى.

 

خيارات ثلاثة:

 

بعد عرض هاتين الحقيقتين التي لا مجال للتشكيك فيهما، نعمد إلى قراءة هذه الرؤية المذكورة بصورة موضوعية، وعليه نذكر محتملات ثلاثة في كيفية مواجهة الإنسان المسلم للأزمة المذكورة، من الدعوة للحفاظ على التراث، أو العمد للتجديد، أو القيام بعملية التلفيق بين الرؤيتين:

 

الأول: الالتـزام بالتبعية المطلقة والتقليد للحضارة الغربية دونما قيد أو شرط، من خلال الإرتماء في أحضان الحضارة الغربية بكل أبعادها، فيختار الإنسان حل التغريب في جميع المجالات:

وسهولة هذا الحل قد تكون موجبة لانتخابه واختياره، لأنه لا يستدعي أي جهد أو عمل، بل أن أقصى ما يتطلبه أن تتغير المعتقدات والرؤى الفكرية التي يتنباها الإنسان من صورة إلى صورة  أخرى، ويقوم بالالتـزام بالمتبنى الثاني، بعد تخليه عن المتبنى الأول.

إلا أن المشكلة تكمن في افتقار هذا الخيار إلى عنصر الحكمة والمعرفة، فإنه ينقصهما، لأن الحضارة الغربية ليست النموذج الصالح اليوم للتبعية والتقليد والمحاكاة، فإنها وإن كانت ذات بريق أخاذ لأبصار ناظريه، إلا أن هذه الحضارة قد فقدت كثيراً من بريقها وتألقها نتيجة الاحباطات الكثيرة التي أصابتها. على أن ملاحظة هذه النتائج، والقيام بدراسة موضوعية للقيم الموجودة في التراث الإسلامي مانعة من اختيار هذا الحل.

 

الثاني: القبول بالحل التلفيقي، كما ألتـزم بذلك غير واحد من الكتاب المعاصرين، وهو يقوم على التفصيل بين الشكل والمضمون، فهنا عنصران:

1-الصيغة والشكل، وهذا يؤخذ من التراث.

2-المضمون والمحتوى، ويأخذ من الحضارة الغربية.

 

وعليه، سوف يكون المنهج المتبع في عملية التفكير هو المنهج العقلي الإسلامي، إلا أن القيم وأضدادها سوف تؤخذ من الحضارة الغربية.

ويتضح ذلك بعرض بعض الأمثلة والنماذج:

 

منها: أن يؤخذ من الشريعة الإسلامية، وهي التراث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتشدد أو التسامح في ذلك، ويؤخذ من الحضارة الغربية: المفاهيم التي تدخل في هذه القوالب والأشكال، والتي عبر عنها بالمضامين، فيؤخذ منها المعروف والمنكر، فربما تحول المعروف الذي كان في عصر التشريع إلى منكر اليوم، أو تحول المنكر في عصر التشريع إلى معروف اليوم، فحجاب المرأة كان في عصر التشريع يمثل معروفاً، إلا أنه أصبح اليوم يمثل عنصر إعاقة لها عن قيامها بدورها العملي، وهذا موجب لرفع اليد عنه، وهكذا.

ومنها: أن يؤخذ من التراث أعني الشريعة الإسلامية، الولاء والبراء، ويؤخذ من الحضارة مفهوميهما، فيترك للمسلم حرية تشخيص الصديق الذي يتولاه والعدو الذي يتبرأ منه حسب ظروف عصره وزمانه لا فق المقاييس التي حددتها الشريعة.

ومنها: أن يؤخذ من الشريعة عنوان التقوى والانضباط، والحظر، ويرجع للعصر الراهن في تحديد ما هو المحظور الذي يلزم تركه واجتنابه والامتناع عنه.

ومنها: أن يلتـزم بأخذ العقوبة على الجريمة من الشريعة، إلا أن تحديد الجريمة التي يقع العقاب عليها، وتحديد العقوبة التي تنفذ على المجرم يتركان للعصر.

 

مناقشة الخيار الثاني:

 

ولا يخفى أن التمسك بالصيغ والأشكال الشرعية التي تضمنها هذا الخيار لا يخلو عن أحد محتملين:

الأول: أن تكون الغاية منه تخفيف وطأة الفترة الانتقالية من الشريعة إلى العلمانية ليتم ذلك بصورة تدريجية. وعليه لن يكون هذا العمل علاجاً للأزمة والمشكلة، بل هو إيمان بالرؤية الأولى، عمدة ما كان حذراً من عدم قبول المجتمع الاسلامي التخلي عن ذاته بتخليه عن تراثه، يعمد إلى التدريج في العمل، وهذا يعني أن هذا نوع من العلاج للأزمات النفسية والاجتماعية للمرحلة.

الثاني: أن يكون ناشئاً من الإيمان بالحدود والأحكام الإلهية وضرورة الالتـزام بالشريعة.

 

ومن الواضح، أنه لو كان المقصود به هو الاحتمال الأول، فهو ليس إلا عودة من جديد للخيار الأول، وهو التخلي عن التراث، والعمل وفق المعاصرة، وقد عرفت عدم تمامية هذا الخيار.

أما لو كان المقصود منه هو الاحتمال الثاني، فالمفروض أن الإسلام كلٌ لا يتجزأ، وقد أكملت الشريعة بتشخيص الصيغ والمضامين والأشكال، قال تعالى:- (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً)، ولم يترك الله سبحانه وتعالى لعباده خيار التبعيض والتجزئة، قال عز من قائل:- (قل إن الأمر كله لله)، وعليه لابد من التسليم المطلق لله تعالى، دون حاجة للتلفيق بين أمرين كما لا يخفى. لقوله تعالى:- (إن الدين عند الله الاسلام)، و(ومن يبتغي غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه).

 

الخيار الثالث: الالتـزام بأخذ الشكل والمضمون من الشريعة، والعمل على وفق ما تضمنه التراث، ونقصد بذلك الاستناد إلى هدي الوحي لمن يؤمن به، ويعتمد عليه في معرفة المفاهيم الموجودة في الشريعة، والإحاطة بها، دون الاستناد في ذلك لما يطرحها أصحاب المعاصرة من مفاهيم غائمة غير واضحة.

 

ومن المعلوم أنه متى تجذر هدي الوحي في أعماق التاريخ وشكل وراثة ثقافية حضارية في تاريخ المسلم، تحول ذلك إلى مناعة وقوة وفاعلية وتأثير في حياة الناس.

ويجب أن يكون الالتزام بالشريعة التـزاماً كاملاً لا تبعيض فيه، فيؤخذ من الوحي المضامين، كالتوحيد والبراءة من الطاغوت والالتزام بالعبودية والتسليم المطلق لله تعالى، والتحرر من سلطان الدنيا والزهد وكرامة الإنسان والثقة والتوكل على الله والايمان بالقضاء والقدر، والقيم وأضدادها والمعروف والمنكر والحلال والحرام، وما يجب وما لا يجب، كما نأخذ منها الصيغ والأشكال، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما شابه ذلك.

 

مناشيء رفض التراث والدعوة للمعاصرة:

 

وعند محاولة تحليل الأسباب والدوافع التي أوجبت حصول هذه الشبهة الموجودة في الوسط الإسلامي بحيث صرنا نسمع مكرراً الدعوة لترك التراث، ومحاولة التجديد، وأخذ هذا الأمر أساليب مختلفة، نجد ذلك ينحصر في نقطتين أساسيتين:

الأولى: عرض المفاهيم الاسلامية بصورة خاطئة:

 

فإن المشكلة الأساسية تكمن في ما يمارسه بعض الباحثين والكتاب من سوء توجيه فكري لطائفة من المفاهيم الاسلامية في الشكل والمضمون، ولنقرب ذلك بمثال وهو الزهد الذي هو من صلب المفاهيم الاسلامية، ويقرر هؤلاء بأنه كان صالحاً في فترة زمنية من التاريخ، لكنه لم يعد كذلك اليوم وخلال هذه الفترة، والتمسك به يؤدي إلى تخلف المسلمين عن التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، فيلزم تبديل هذه القيمة الحضارية بقيمة حضارية أخرى مضادة لها كالإقبال على الدنيا، والتخطيط والإعمار لها، والكدح والعمل، وما شابه ذلك.

 

وقد نشأت هذه الإثارات من الخطأ في فهم المفهوم الثقافي الاسلامي، وتوجيهه، فالزهد لا يتعارض مع البناء وإعمار الدنيا، والكدح والعمل، لأنه ليس معناه أن يعتزل الإنسان الدنيا ويهجرها، بل معناه هو التحرر من سلطان الدنيا وعدم الإنشداد إليها، والفرق بين المعنيـين واضح، وعليه، يمكن أن يكون الإنسان زاهداً، وفي نفس الوقت يكون مشتغلاً بإعمار الدنيا وبنائها، ويكون كادحاً وعاملاً، وهكذا.

 

الثانية: عدم قدرة التشريعات الاسلامية على تلبية الحاجات البشرية:

بعد التطور العلمي والتكنولوجي، والتقدم الصناعي، فإنه كيف يتصور أن تكون النصوص والتشريعات الصادرة قبل مئات السنين قادرة على تلبية احتياجات الإنسان المتجددة والدائمة؟ وهذا ما يعبر عنه بأنه كيف يكافئ المحدود وهو هذه النصوص والتشريعات اللامحدود وهو حالة التجدد والتطور الحياتي للعنصر البشري.

 

ولا يخفى أن منشأ الإشكال المذكور يعود إلى ضيق أفق المستشكل وعدم سعة اطلاعه بالشريعة السمحاء وإحاطته بأمورها وشؤونها، بحيث تخيل أنها عنصر جامد لا يمكنه أن يعالج مستجدات الأمور، وليس له من طريق لبيان ذلك. وقد غفل هؤلاء عن تضمن التشريع الإسلامي على مجموعة من الأدلة تمثل قواع أساسية تتمدد مع المكان والزمان، لتغطي كل الحالات المتجددة، التي تدخل تحت عمومها، ولنشر لبعض تلك القواعد:

 

أحدها: قاعدة الوفاء بالعقود:

وهذه قاعدة عامة، تشمل كل عقد والتزام حصل جديداً خلال تجدد الزمان وتغير المكان، ما دام لم يكن مشتملاً ولا متضمناً لأمر محرم لا يرتضيه الشارع المقدس. بل إنها تشمل العقود التي تتضمن حيثيات جديدة مختلفة لم تكن موجودة في عصر صدور النص، لعدم تقيد موضوعها بما كان موجوداً في تلك الأزمنة كما لا يخفى.

 

ثانيها: قاعدة لا ضرر:

وهي قاعدة عامة تجري في جميع الأبواب الفقهية من دون استثناء، مفادها أن الشارع المقدس يرفع كل حكم يتضمن ضرراً على المكلف، ومن الواضح أن هذا ليس منحصراً في زمان التشريع، بل هو سارٍ في كافة مجالات حياة الإنسان ما دام على وجه الأرض، وفي أي مكان، وبالتالي قد ترفع بع التكاليف المجعولة من قبل الشارع المقدس لترتب ضرر فيها على المكلف.

 

ثالثها: الأصول العملية، والتي يرجع إليها في حال فقدان الدليل لمعرفة الوظيفة العملية:

وهذه الأصول أيضاً، وعلى رأسها البراءة، تمثل مصدراً خصباً لمعرفة الوظيفة حال فقدان ما يدل عليها، وقد جعلها الشارع المقدس لتعين المكلفين في الوصول إلى ذلك، ومن الواضح أنها ليست محددة بفترة زمنية، أو بمكان واحد، بل إن مقتضى التغير المتصور في عنصر الحياة البشرية، سواء بلحاظ الزمان أم المكان، يستوجب عموميتها وشموليتها لكل وقت ومكان.

 

رابعها: العناوين الثانوية التي يمكن الاستناد إليها والاستفادة منها:

وقد وضعت ضوابط في الشريعة توجب الرجوع في موارد إلى العناوين الثانوية، وهي تمثل فسحة وسعة في دائرة العمل والامتثال، وتعطي للمكلف حركية يمكنه الاستفادة منها حال تغير الظرف الحياتي ببعديه المكان والزمان كما لا يخفى. كما لو كان هناك حرج، أو ما شابه في امتثال شيء من التكاليف، فإنه يرتفع نتيجة وجود ذلك، وهكذا.

 

خامسها: منطقة الفراغ التشريعي:

وهي المنطقة التي يمكن للفقيه أن يتصرف فيها بتحويل ما ليس لازماً إلى لازم، سواء في جانب الفعل أم في جانب الترك، وفق ما تقتضيه المصلحة، ومن موارد اقتضاء المصلحة ملاحظة البعد الزماني والبعد المكاني.

والحاصل، إن الشريعة الإسلامية بكافة حيثياتها ومبادئها وتعاليمها تامة، ومواكبة لكل ما يحتاجه الإنسان في كل زمان ومكان، ويمكنها أن تلبي له كل ما يحتاج إليه، وجديرة وقديرة على معالجة كافة شؤونه وفي كافة مجالاته من دون فرق بين مجال ومجال، ولا حاجة للبحث عن التجديد، ولا التلفيق، كما سمعت[1].


 

[1] رسالة التقريب العدد 39 أزمة المسلم المعاصر بين التراث والمعاصرة ص 141-152(بتصرف).