29 مارس,2024

التقليد والنظر

اطبع المقالة اطبع المقالة

يحصر الفقهاء(رض) سبيل إفراغ الذمة في غير الأمور اليقينية، والضرورية والبديهية، في طرق ثلاث، وهي: الاجتهاد، والاحتياط، والتقليد.

كما أنهم يقررون أن الاجتهاد، متعذر غالباً على عامة المكلفين، كما أن الاحتياط يعسر عليهم عادة، ما يجعل الطريق منحصراً في خصوص التقليد، وهذا يثبت سلطة للفقيه على المكلفين،

وثبوت هذه السلطة للفقيه لا تنال استحسان وقبول بعض المثقفين، فلا يرضى بالتقليد والتبعية المطلقة إليه، بل يدعو إلى إعماله نظره وفكره في جملة من الأمور، ويرتب على ذلك أثراً، ولا يعتبرون هذا الأمر اجتهاداً حتى لا يدخل في دائرة التخصص، بل لا زال في دائرة التقليد والتبعية، إلا أنها تبعية من نوع خاص، ويطلقون على هذا النحو من التبعية النظر.

ولن يوجب الالتـزام المذكور تغيـير الطرق الموجودة في كلمات الفقهاء(رض)، وإنما سوف يوجب تفصيلاً في الطريق منها، فعوضاً أن يتساوى فيه عامة المكلفين، في تعبيتهم لقول الفقيه وثبوت سلطة له عليهم، سوف يلتـزم بثبوت السلطة المذكورة على جملة منهم بنحو، وثبوتها على البقية بنحو آخر كما سيتضح.

حقيقة النظر:

وأول ما يلزم الإحاطة به معرفة حقيقة المنهج الموجود في كلماتهم، وبيان المقصود منهم كي ما يتضح مدى إمكانية القبول به من عدمه.

وقد يتصور أن المقصود من النظر هو عين الموجود في كلمات المتكلمين، وهو بمعنى التفكير في الأدلة على اختلافها. أو بمعنى الفكر والبحث عن الدلائل العقلية.

إلا أن ملاحظة كلام أصحاب الرؤية المذكورة يفيد عدم إرادتهم في حقيقته ما ذكره المتكلمون، بل يُقصد به في كلامهم: نظر المكلف في أدلة المجتهدين، ومن ثمّ ترجيح بعضها على بعض، إما للاقتناع به، أو لعدم الاقتناع حسب ما يمليه عليه الوجدان أو الاطمئنان[1].

وقد استفاد هؤلاء من قيدية الفكر أو التفكير الموجودة في تعريف المتكلمين وأضافوا إليها شيئاً آخر، وهو ما تبنوه.

والحاصل، ليس المقصود من النظر في كلامهم ما جاء في كلمات المتكلمين، وإن كان يحوي شيئاً منها، كما أنه ليس الاجتهاد المقصود في كلمات الفقهاء، لأنه لا يتضمن استنباطاً للحكم الشرعي من مداركه المقررة. بل أقصى ما يتضمن ترجيحاً لدليل على دليل آخر ليوجب البناء على نتيجته.

وهذا يؤكد ما ذكرناه سابقاً من أن النظر لا يخرج عن كونه تقليداً، إلا أنه تقليد يختص بفئة معينة من المكلفين وليس جارياً في شأن الجميع، كما سيتضح.

موجبات قبول رؤية النظر:

ويساعد على القبل بالرؤية المذكورة أمران:

الأول: ممارسة الفقهاء لها:

فليست أمراً مستغرباً، ولا يوجد ما يوجب استبعادها، فإن سيرة الفقهاء قائمة على تطبيقها في آرائهم الفقهية، فإن الفقيه عندما يود النظر في مسألة ما يعمد إلى عرض الآراء المتعلقة بها، ولا يخلو حاله عندها من أحد محتملات ثلاثة:

1-أن يكون له رأي جديد في المسألة لم يذكر ضمن الأراء المذكورة.

2-أن يقتنع برأي دون بقية الأراء، فيقدمه على غيره.

3-أن يقوم بترجيح رأي على بقية الآراء الأخرى.

والتـزام الفقيه بالاحتمال الثالث ممارسة عملية لرؤية النظر، ذلك أنه يحكم وجدانه أو اطمئنانه للمحاكمة بين الأراء والنظر في أدلتها ليقوم بعدها بانتخاب واحد منها. وهذا يثبت ممارسة الفقهاء لهذه العملية في استنباطهم للأحكام الشرعية كما لا يخفى.

الثاني: وجود عدة ملاحظات على عملية التقليد مانعة من العمل على وفقها بنحو الموجبة الكلية:

منها: إن البناء على تثليث الطرق الموجبة لفراغ الذمة من التكليف في غير محله، بل الصحيح حصرها في طريق واحد، وهو الاجتهاد، لأن مشروعية التقليد معلقة على الاجتهاد، فلا يصبح المكلف مقلداً حتى يكون مجتهداً، حذراً من إشكال الدور أو التسلسل، توضيح ذلك:

إن الطريق لفراغ الذمة من التكليف من خلال التقليد، فيكون المكلف مقلداً في التقليد، فيلزم أن يتوقف الشيء على نفسه، لأنه يحتاج لفراغ ذمته من التكليف أن يكون مقلداً. أو يلزم من ذلك التسلسل، لأن التقليد متوقف على التقليد، والتقليد الثاني متوقف على التقليد الثالث، وهكذا.

وقد قرر في محله بطلان كليهما، فيلزم من ذلك أن يكون المكلف مجتهداً حتى يصح التقليد منه.

ولا يختلف حال الاحتياط عن التقليد، فإنه لا يمكن للمكلف أن يكون محتاطاً إلا بعد أن يكون مقلداً.

والمقصود من الاجتهاد الذي يلزم توفره عند المكلف حال تقليده هو ما تبانى عليه العقلاء من رجوعهم في كل أمر إلى ذوي الاختصاص وأهل الخبرة، فيرجع للبناء في مجاله وللطبيب في مجاله، وهكذا، وهذا من باب رجوع الجاهل للعامل، ولم يرع عن هذه السيرة القائمة على مثل هذا الرجوع، وهذا بنفسه ما يقصد بالاجتهاد في مسألة التقليد.

ومنها: إن المدعى أن الطريق لفراغ الذمة من التكليف منحصر في الطرق الثلاث المذكورة في كلمات الفقهاء، وليس الأمر كذلك، لأنه يمكن للمكلف فراغ ذمته مما اشتغلت به من التكليف دون الاستناد لشيء منها، وذلك في موارد الأحكام الضرورية واليقينية، والقطعية، والمسائل الواضحة وأمثال ذلك، وهذا يعني أنها مأخوذة على نحو الموجبة الجزئية، وليست الموجبة الكلية، وعليه سوف تكون أخص من المدعى.

ومنها: إن التقليد منحصر في خصوص الأحكام الشرعية دون موضوعاته، فليست في موضوعات الأحكام تقليد، بل لابد للمكلف من أن يعمل نظره لتحديد موضوع الحكم الشرعي ليطبقه. نعم في الموضوعات المستنبطة يلزم التقليد فيها، كما قرر في محله.

ومنها: لا يجري التقليد في كل مورد كان يمكن المكلف فيه من تحديد الوظيفة الفعلية له، كمسألة تقليد الأعلم، فإنه لا يجوز له التقليد فيها.

على أنه لو رفعت اليد عن الملاحظات السابقة، قد يمنع من البناء على مشروعية التقليد مطلقاً ما كان معروفاً عند بعض القدماء، من عدم مشروعيته، ولزوم تحصيل المكلف العلم بالأحكام الشرعية.

والخدشة فيه بعدم توفر ذلك لعامة المكلفين لأنه يوجب العسر والحرج، ممنوعة، لأنه يمكن البناء على التفصيل فيه من خلال البناء على رؤية النظر، ذلك أنه يمكن لبعض المكلفين الوصول لمعرفة الحكم والعلم به من خلال ذلك.

من هم الناظرون:

اتضح مما تقدم أن موضوع الرؤية المذكورة ليس جميع المكلفين الذين لا يمكنهم الاجتهاد ولا الاحتياط، بل هي مختصة بفئة معينة منهم، وهي الفئة الوسطى بين المجتهدين وبقية المكلفين الفاقدين للقدرة على التميـيز والنظر، والمحرومين من الوعي. وهي التي يطلق عليها طبقة المثقفين، وهذه الطبقة وإن لم تكن متخصصة في مجال الاستنباط، إلا أنها ليست عامية صرفة، لأنها تملك استعداداً وقابلية عقلية للتميـيز بين ما يقبل وما لا يقبل من الفتاوى والأراء.

أدلة رؤية النظر:

ويستدل للرؤية المذكورة بأدلة أربعة:

الأول: الدليل الشرعي، وهو قوله تعالى:- (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب)[2]، وتقريب الاستدلال بها أن يقال: إن المستفاد من الآية المباركة تقديم القول الأحسن، فهي تفيد سواء بنحو العموم أم الإطلاق، أن التقديم دائماً للقول الأحسن. وهذا يشمل ترجيح المكلف لواحد من الأراء الفقهية على البقية بلحاظ أنه رأى كونه الأحسن بحسب الوجدان، أو الاطمئنان، فيثبت المطلوب.

وبعبارة أخرى، إن الاستدلال بالآية الشريفة، يقوم على تشكيل قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه، إن كل قول حسن لابد من اتباعه، وصغراه، أن القول المرجح من المكلف من بين الأراء الفقيهة، مصداق للقول الأحسن، فيثبت المطلوب.

الثاني: دليل العقل، وهو الأقربية، وبيانه:

لا ريب في حكم العقل بتقديم كل ما يوجب القرب من الحكم الواقعي، ومن المعلوم أن ما يختار المكلف بوجدانه يكون بنظره أقرب إلى الواقع من غيره، فيكون ذلك موجباً لتقديمه على البقية.

وهذا الدليل أيضاً يتشكل من قياس منطقي من الشكل الأول، فكبراه: حكم العقل بتقديم ما يوجب القرب من الأحكام الواقعية.

وصغراه، أن الحكم المنتخب من قبل المكلف لحكم وجدانه بأفضليته عنده، أقرب للواقع من غيره، لتكون النتيجة هي حكم العقل بلزوم العمل على وفقه.

الثالث: الدليل المنطقي، وهو يقوم على قاعدة منطقية مفادها لزوم اتباع الدليل الراجح على الدليل المرجوح، وعدم صحة العدول إلى الدليل المرجوح مع وجود الدليل الأرجح.

ومقامنا يصلح صغرى لهذه الكبرى، فإنه لا يتصور أن يعمل المكلف برأي فقيه يعتقد مجانبة رأيه للصواب ومخالفته له، وأن الصواب مع رأي الفقيه الآخر.

أو لا أقل من أنه لا يطمأن لصحة ما يقوله هذا الفقيه، وأن قول الفقيه الآخر هو الذي يفيد الاطمئنان إليه، فكيف يعمل على وفقه.

وقد طبق الفقهاء هذه القاعدة في العديد من فتاواهم، حيث ذكروا أنه لا يجوز لفقيه أن يرجع إلى فقيه آخر يختلف وإياه في منهج الاستنباط، والتعامل مع الأدلة الشرعية. بل قد ذكر صاحب الفصول(قده) أنه يمكن للمكلف أن يرجع إلى فقيه آخر في الذي يقلده متى علم ببطلان ما أفتى به مرجعه في التقليد.

الرابع: بناء العقلاء، فإن سيرتهم منعقدة على الرجوع للأخبر والأعلم، والأكثر معرفة ودراية حال عدم وجود خطأ عنده، وأنه متى وجدوه مخطئاً لم يعملوا بقوله.

وبعبارة ثانية، إن السيرة العقلائية ليست منعقدة على تقديم قول الأخبر والأعلم بقول مطلق، بل مقيدة بعدم حصول العلم بخطأه واشتباهه، فلو حصل علم بذلك، فيجوز مخالفاته، وليست السيرة منعقدة على متابعته.

بل إن مجرد وجود الظن عند الإنسان بخطأ الأخبر، يوجب سلب حجية قوله، وعدم لزوم متابعته، لعدم انعقاد السيرة على ذلك.

مراتب الناظرين:

ويمكن تقسيم الناظرين من حيث القابلية إلى قسمين:

الأول: أصحاب النظرة التفصيلية: وهم الذين يملكون القدرة والمعرفة الكبيرة جداً بالأمور، فيمكنهم التدقيق في عملية النظر، وهذا نظير طلبة العلوم الدينية الذين يحضرون مرحلة البحث الخارج، بل قد مضى عليهم في ذلك عدة سنوات، فإنهم قادرون على النظر في الأراء بنظرة تفصيلية فاحصة ودقيقة.

الثاني: أصحاب النظرة الإجمالية: وهذا من يكون أدنى حالاً من سابقه، إلا أنه يعتمد في ملاحظة الأدلة غالباً على عنصر الفطرة، فيكون ما يرده من الأدلة ملحوظاً فيه هذا الجانب، فيحكم عقله ليرشده لما يكون أقرب للصواب.

وقفات مع الرؤية المذكورة:

وبعد استعراض الرؤية الموجودة عند بعض المثقفين، والإحاطة بها ولو بصورة إجمالية، يلزم الوقوف على مواضع الخلل فيها، ونقدها، من خلال عرض الملاحظات عليها. ذلك أنه يوجد عليها عدة ملاحظات، بعضها ملاحظات عامة، وبعضها ملاحظات خاصة.

الملاحظات العامة:

أما الملاحظات العامة:

أحدها: إن الرؤية المذكورة لا يخلو حالها عن احتمالين:

الأول: أن تكون ناشئة عن تقليد، وعليه يلزم أن تتوفر فيها جميع الأمور اللازم توفرها في مرجع التقليد، من شرطية الحياة والأعلمية-بناءاً على القول بهما-. أو أن يوجد فقيه يقول بمشروعية الرؤية المذكورة من دون اعتبار القيود المعتبرة في مرجع التقليد، وليس بين فقهاء الطائفة من يقول بذلك.

الثاني: أن تكون ناشئة من اجتهاد الشخص القائل بها، ولا ربط لها بمسألة التقليد أصلاً، ومن الواضح أن القبول بهذا الاحتمال يتوقف على بطلان شرطية الأعلمية في مرجع التقليد، وأنه لا يعتبر فيه أن يكون أعلم الموجودين.

ووفقاً للاحتمال الثاني، يلزم أن يكون الناظر من ذوي الاختصاص، وأهل الفن، لأن المفروض أنه قد أصبح من المجتهدين، وعليه لن يكون علمه تقليداً، بل سوف يكون استنباطاً واجتهاداً، وهذا خلف الفرض، ذلك أنك قد عرفت أن رؤية النظر لا تخرج عن كونها تقليداً خاصاً، ولا تعبر من الاجتهاد.

ثانيها: قد عرفت أن قوام رؤية النظر ملاحظة الأقربية وأن التقديم يكون على وفقها، لأن غاية الناظر هو تحصيل ذلك، إلا أن القائلين بها لم يعمدوا لبيان معيار الأقربية الموجب للتقديم والترجيح، وأنه على أي أساس يتسنى للناظر أن يحدد أن هذا الرأي أقرب من غيره من بقية الأراء. وقد اشتملت كلمات القائلين على محتملات:

أحدها: أن يكون المقصود من الأقربية هو أحسن الأقوال، وأنه هو الأقرب إلى الحق.

ثانيها: ما يكون موجباً لحصول الاطمئنان عند المكلف مقابل الأراء الأخرى التي لا تكون كذلك. فالذي يحصل له الاطمئنان يقبل، وما لا اطمئنان به لا يقبل.

ثالثها: ما يكون أقرب إلى مقاصد الشريعة.

رابعها: الأقرب للواقع من الأحكام، هو ما يكون مقبولاً عند العقل، وأقرب إليه[3].

ولا مجال للبناء على أي واحد من المحتملات الأربعة لما يوجد عليها من ملاحظات تمنع من القبول بها، فيلاحظ على أولها، أنه يلزم حتى يحرز أقربية شيء على غيره، أن يكون المحرِز للأقربية عارفاً بذلك الشيء، حتى يقرر ذلك، ومتى ثبت أن صاحب الرؤية يملك القدرة على النظر كفى ذلك عن حاجته لتطبيق الرؤية المذكورة أصلاً، لأنه سيكون بمثابة المجتهدين.

ويلاحظ على ثانيها، أنه ليس مورد خلاف عند أحد من الفقهاء، فإنهم متفقون على أنه لو حصل للمكلف علم بخطأ الفقيه، لم يجز له متابعته.

ويلاحظ على الثالث منها، أنه بعيداً عن القبول بأصل فكرة مقاصد الشريعة، سعة وضيقاً، كما فصلنا ذلك في بحث مستقل، يبقى أن حدود تطبيقها مورد خلاف، وأنه ليس لكل أحد القيام بذلك، ويطلب التفصيل من البحث المذكور.

ولا يخفى أن تمامية هذا المحتمل تعتمد على تحديد المقصود من العقل الذي يعدّ ميزاناً لترجيح رأي على بقية الأراء، لأن فيه احتمالات:

منها: أن يكون المقصود من العقل هو العقل الفطري المحض، أي المدركات الأولية العقلية الموجودة لدى كل إنسان، كامتناع اجتماع النقيضين، واجتماع الضدين، وهكذا.

ويبعّد هذا الاحتمال، عدم تصور وجود أراء فقهية تصل نسبة المنافاة بينها لمثل هذا المستوى.

ومنها: أن يكون المقصود به الوعي، لأن الفتاوى سوف تكون عندها أقرب للواقع الذي يعيشه الشخص الناظر، ويقدم الأدلة التي يرى أنها ترتبط أكثر بواقعه.

ومع حسن هذا المحتمل في نفسه، إلا أنه غريب، ومنشأ غرابته يعود إلى عدم أخذ الواقع ميزاناً لترجيح فتوى على أخرى وتقديمها. مع أنه قد تكون الفتوى مرتبطة بواقع الإنسان الذي يعيش إلا أنها لا تخلو من غرابة بالنسبة إليه، فلن يكون ذلك سبباً مانعاً من قبولها وفقاً لهذا الميزان.

ومنها: أن يكون المقصود منه مقدار ما يملك الناظر من ثقافة وما يختزنه في ذهنه من فكر ومعرفة جمعها خلال تكوينه الفكري ومتابعاته المعرفية.

ومن المحتمل جداً أن يكون هذا المعنى هو مقصود أصحاب الرؤية المذكورة، إلا أن ذلك لا يوجب قبولاً بأصل الفكرة، لأنه يبقى المنشأ الذي يعطي هذا المقدار من الوعي والمعرفة لدى فرد للحكم على فتوى فقيه بعدم راجحيتها على فتوى آخر، أو تقديم قول غير الأعلم على الأعلم مثلاً في فتوى معينة، لا لشيء إلا لكونها لا تنسجم معطياته الفكرية، ومخزونه الثقافي والفكري. خصوصاً وهو يعلم أن صدور هذه الفتوى من الفقيه يكون نتيجة جهد مبذول للوصول إليها، ولم يكن وليد فكرة طارئة، أو استرجال في الإصدار.

ثم إنه بعد رفع اليد عما تقدم، والتسليم بالقبول بجعل العقل بهذا المعنى مورداً للترجيح والتقديم، إلا أنه يواجه مشكلة أنه لن يستطيع علاج جميع المشاكل التي يقع فيها الناظر، فإن بعض الموارد قد يرجح المكلف فتوى على أخرى، ويعمد إلى عدم وجود دليل للقائلين بالشرطية فيه، إلا أنه يصطدم بها من جديد في شيء آخر، ما يمنع من ترجيح غيرها عليها، وهذا يوجب عدم توازن في المسائل المتشابهة والنظائر المتقاربة في الأحكام الشرعية.

وبعبارة ثانية، إن قصر النظر للترجيح على خصوص أدلة المسألة مورد بحث الناظر خلاف البحث العلمي عند أهل الاختصاص، ذلك أنهم قد يستندون للإثبات على شيء يذكر في مسألة نظيرة للمسألة مورد البحث، فشرطية طهارة المولد في مرجع التقليد قد لا يقف الناظر في أدلة القائلين بالشرطية على دليل واضح جلي فيها، إلا أنه يمكن أن يستند لاعتبار الشرطية بما يذكر في شرطيته في إمام الجماعة، أو في الشاهد، وهذا يوجب أن يوسع الناظر دائرة بحثه ونظره في الأدلة حال رغبيته في الترجيح، ومن الواضح أن مثل هذا سوف يخرجه عن كونه مكلفاً، وسوف يدخله دائرة المختصين، أو من قاربهم جداً، فتأمل.

ثالثها: إن تطبيق الرؤية المذكورة لا ينسجم مع التقسيم المعروف للأحكام الشرعية، فهي كما نعلم عبادات ومعاملات، والمعاملات لم يؤسس الشارع المقدس فيها شيئاً جديداً خلف ما لدى العقلاء، بل عمد إلى امضاء الموجود عندهم، وأسس في خصوص الأمور العبادية، ومقتضى تأسيسه فيها لزوم الإتيان بها تعبداً، فإذا كان يؤتى بها تعبداً، فلن يكون هناك مجال للناظر أن يرجح حكماً على آخر، وفتوى على أخرى، لأن الفقيه يقرر أن الصادر منه هو الذي يمثل الحكم التعبدي المطلوب للشارع المقدس.

رابعها: من المعلوم أن عملية الاستنباط الفقهي للأحكام الشرعية من مداركها المقررة تخضع لجملة من المباني الفقهية المعتمدة عند الفقهاء، وإن كانوا يختلفون فيها في الجملة، بعضها يرجع إلى علم الأصول، وآخر يرجع إلى علم الرجال، وغير ذلك، بل إن المنهج المتبع في التعاطي مع المسألة الفقهية يختلف من مدرسة فقهية عن مدرسة فقهية أخرى، كما يلحظ ذلك أهل الاختصاص.

ومن الطبيعي أن يكون لهذه المباني الدخيلة في عملية الاستنباط دور في النتيجة التي يصل إليها الفقيه، وهذا يمنع أن يقرر أن يأتي غير المختص ليقرر أقربية فتوى على أخرى، وتقديمها على البقية.

خامسها: إن أحد موانع القبول برؤية النظر ما أعتبره الفقهاء قيداً في مسألة التبعيض في التقليد، ذات الاشتراك في الجملة مع رؤية النظر، فقد أخذوا فيها عدم التشهي في الانتخاب للمسائل الشرعية.

ونختم الملاحظات العامة بما أراده القائلون بهذه الرؤية لإضفاء صبغة شرعية عليها من دعوى ممارسة الفقهاء لها في عملية الاستنباط التي يقومون بها، كما أشرنا لذلك في ما تقدم، وتدفع الدعوى المذكورة، بأنه قد خلط بين عملية الاستنباط التي يقوم بها الفقيه، وبين الترجيح من خلال النظر الذي لا يخرج عن كونه تقليداً، فإن ما يمارسه الفقيه من نظر في الأدلة، والعمد للمحاكمة بينها والترجيح، ليس مجرد نظر فيها، ليرى واحد أقرب إلى وجدانه من البقية، بل إن نظره فيها مبني على أسس محددة علمياً، تدعوه لأن يقدم أحدها على البقية لوجود ما يوجب التقديم، وهذا اجتهاد وإعمال للفقاهة، وليس مجرد ترجيح.

مناقشة أدلة الرؤية المذكورة:

قد عرفت فيما تقدم أن القائلين بالرؤية المذكورة، قد استندوا إلى أمور على أنها أدلة تصلح لإثباتها، وهي بين ما هو شرعي، وبين ما هو عقلي. وهذا الأدلة لا تصلح لإثبات المدعى.

أما الدليل الشرعي، وهو الآية الشريفة، وجوابه بأن البحث ليس في الكبرى، وهو أن أحسن الأقوال هو أقربها، بل البحث في الصغرى، فمن أين يحرز أن ما يراه الناظر يمثل أقرب الأقوال للواقع ليكون مصداقاً لأحسن الأقوال؟!

وبعبارة أخرى، فإنه الناظر قد يقرر وفق ما يملك من معرفة وإحاطة بأن القول الأول هو الأحسن والأقرب للواقع، ويغفل عن أن القول الثاني، وهو الذي أقل من القول في متانة الدليل وقوته، أوفق بالاحتياط، بحيث يطمئن العامل به إلى خروجه من عهدة التكليف، بخلاف القول الأول صاحب الدقة وقوة الدليل.

هذا كله بعد التسليم بدلالة الآية الشريفة على ترجيح أحسن الأقوال وفق ما يراه الناظر، فيقدم ما يراه على أنه أقرب إلى الحق. مع أن الظاهر أن المقصود بها شيء آخر، كما يظهر من رد العلماء على من استدل بالآية الشريفة على العمل بالاستحسان، بأن ترجيح قول على آخر ليس وظيفة المكلف، وإن الميزان في الترجيح هو الكتاب والسنة، فهما اللذان يقررا أن أي قول أحسن من البقية، وهذا يمنع من جعل الآية الشريفة دليلاً لمقبولية ترجيح القول بنظر الناظر، كما لا يخفى.

وأما الدليل العقلي، وهو الأقربية، وأنه يقدم قول من يراه أقرب وإن لم يكن قول الأعلم، وهذا لا يمكن البناء عليه، فإن تقديم قول الأعلم على غيره يعود لكون قوله أقرب للواقع من قولهم، فكيف يقرر بعد ذلك أن قوله ليس الأقرب للواقع؟! اللهم إلا أن يدعى أن قول غير الأعلم أوفق بالاحتياط فيعمل على وفقه.

على أن تقديمه لأحد الرأيين مثلاً، إن بلغ حد الحجة ومستوى العلم أو الاطمئنان، لزم العمل على وفقه لا للأقربية، وإنما للحجة والعلم والاطمئنان. وإن لم يبلغ ذلك، فإن العقل يمنع من العمل على الظن، مع وجود موجب للترجيح وهو قول الأعلم مثلاً.

وأما الدليل المنطقي، وهو الأرجحية، فالظاهر أن النظر في مثل هكذا موارد إلى كون الفتوى أقرب للواقع لحصول الفراغ عن عهدة التكليف، وليس هناك نظر آخر، وهذا يعني أن الترجيح إلى ما يكون كذلك، ولا عبرة بما يراه الناظر بوجدانه، ويميل إليه بعقله.

وأما البناء العقلائي، فليس الأمر فيه كما ذكر، بل إن الظاهر تفاوت العقلاء بين مورد وآخر، فليس الأمر في جميع الموارد على حد سواء، فيفرقون بين الأمور الخطيرة، فيعتبرون الأخذ بقول الأعلم والأخبر، أما بقية الموارد فلا يكون الأمر فيها كذلك[4].

 

 

 

[1] الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر ص 170.

[2] سورة الزمر الآية رقم 18.

[3] الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر ص 200.

[4] مجلة المنهاج العدد 37 ص 68-90(بتصرف)