29 مارس,2024

رَبيعُ القرآن

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

لشهر رمضان المبارك علاقة خاصة بالقرآن، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن الكريم، قال تعالى:- (شهر رمضان الذي أنل فيه القرآن)[1]، وقال سبحانه:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[2]، وقال عز من قائل:- (إنا أنزلناه في ليلة القدر)[3].

وقد تحدثت النصوص عن فضل تلاوته فيه، والحث على ذلك، كما ذكرت ما يعطاه القارئ له خلال هذا الشهر المبارك من الأجر والثواب، فمن تلك النصوص: ما ورد عن رسول الله(ص) في آداب شهر رمضان: أكثروا فيه من تلاوة القرآن[4].

وجاء عنه(ص) قال: من قرأ آية في رمضان أو سبح كان له من الفضل على غيره كفضلي على أمتي فطوبى لمن أدرك رمضان، ثم طوبى له.

وجاء عن الإمام الباقر(ع) قال: لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان[5].

وقد أوجب هذا افتاء الفقهاء باستحباب تلاوة القرآن في شهر رمضان المبارك، بل الإفتاء باستحباب الإكثار منها فيه.

نزول القرآن الكريم:

وعند سماع الإنسان الحديث عن نزول القرآن الكريم، يتبادر إلى ذهنه النزول المكاني، وهو يعني أنه كان موجوداً في مكان عالٍ، ثم نزل منه إلى مكان أدنى منه من حيث الارتفاع. وقد يقرر وجود نحو آخر من النزول، يغاير حقيقة النزول المكاني.

وحتى يتضح المقصود من نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، لابد من الإحاطة بنحوي النـزول: نزول التجافي، ونزول التجلي:

نزول التجافي: ويختص هذا النحو من النـزول بخصوص عالم المادة، فلا يتصور جريانه في غيره، لأن من أهم خصائص هذا النـزول أن الشيء إذا كان في الأعلى فهو غير موجود في الأسفل، وهذا من خصوصيات عالم المادة. ومقتضى ذلك أن الشيء يفقد وجوده في المرتبة العالية بعد نزوله إلى المرتبة الأخرى، فلا يكون للشيء وجودان، بل يكون له وجود واحد. ومثال ذلك المطر، فإنه يكون موجوداً في العلو ثم ينـزل منه إلى الأرض.

نزول التجلي: ويختلف هذا النحو من النـزول عن سابقه في أن الشيء المنـزل لا يفقد وجوده في مرتبته الأولى، فلا يفقد الإنسان الفكرة التي كانت موجودة في ذهنه عندما يقوم بإخبار الآخرين عنها، بل تبقى موجودة في ذهنه بعدما أطلع الآخرون عليها، فيكون لها وجودان، وكذا لو عمد الإنسان إلى كتابة الفكرة الموجودة في ذهنه، فإن ذلك لا يوجب انتفاء وجودها في ذهنه، بل يبقى وجودها فيه على حاله، مع حصول وجود جديد إليها يتمثل في الكتابة على الورقة. وهذا النحو من النزول، أشير إليه في قوله تعالى:- (فلما تجلى ربه إلى الجبل جعله دكاً)، ومثله قوله تعالى:- (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)..

ولا يتصور أن يكون نزول القرآن الكريم بالنحو الأول من نحوي النـزول، بل نزوله كان بالنحو الثاني، قال تعالى:- (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه).

ويساعد على ذلك العديد من الآيات الشريفة الدالة على أن القرآن الكريم محفوظ في مراتب عليا، وقد تعدد التعبير عنها في الآيات الشريفة بتعابير مختلفة، مثل قوله تعالى:- (

والحاصل، إن نزول القرآن الكريم كان بنحو التجلي، وليس بنحو التجافي، وله وجود في السماوات، حتى بعد نزوله على قلب النبي(ص).

نزول القرآن في شهر رمضان:

وقد نصت الآيات الشريفة على أن نزول القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، مع أن المعروف أن مدة نزوله كانت ثلاث وعشرين سنة على قلب رسول الله(ص) بحسب مقتضى الحاجة.

وقد تعددت أقوال المفسرين في بيان معنى نزوله في شهر رمضان المبارك:

منها: أن المقصود بنـزوله في شهر رمضان، نزوله من السماء السابعة إلى البيت المعمور في سماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك نجوماً على رسول الله(ص) متفرقاً خلال مدة البعثة الشريفة، وقد وردت بهذا نصوص، فعن حفص بن غياث أنه سأل أبا عبد الله(ع) عن قول الله تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، إنما أنزل في عشرين سنة بين أوله وآخره؟ فقال أبو عبد الله(ع): نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم نزل في طول عشرين سنة.

وأشكل عليه، بأن المستفاد من الآيات الشريفة أن نزول القرآن الكريم على البشر فيه منة منه سبحانه وتعالى عليهم، وهذا لا يتوافق مع كون نزوله إلى سماء الدنيا، كما أن الآيات قد صرحت أنه كتاب هداية وفرقان، ولا يكون ذلك وهو موجود في السماء الدنيا.

ومنها: إن المقصود من نزوله في شهر رمضان، هو ابتداء نزوله فيه، ثم بعد ذلك أنزل نجوماً على رسول الله(ص) في أوقات مختلفة، ومن المعلوم أن لفظ القرآن كما يطلق على المجموع، فإنه يطلق على جزء منه.

وهو مخالف لظاهر الآيات القرآنية، لأن المستفاد منها أن نزوله كان بأجمعه في شهر رمضان، وبالتحديد في الليلة المباركة، ليلة القدر.

على أن القول المذكور يخالف ما هو المعروف عند أتباع مذهب أهل البيت(ع) تبعاً لأئمتهم(ع) أن البعثة الشريفة للنبي الأكرم محمد(ص)، كانت في شهر رجب الأصب، ومن المستبعد أن لا ينزل في أولها شيء من القرآن وتخلو منه مدة، ويساعد على ذلك المشهور من أن أول سورة نزلت حال البعثة هي سورة العلق، أو سورة المدثر.

اللهم إلا أن يلتـزم بنـزول القرآن الكريم في شهر رمضان، إلا أن البعثة الشريفة ليست في شهر رجب، بل كانت في شهر رمضان. وهو غير ثابت.

ومنها: أن يكون المقصود من نزوله في ليلة القدر في شهر رمضان، نزول سورة من سوره التي تكون مشتملة على جلّ المعارف القرآنية، كسورة الفاتحة، فيكون نزولها نزولاً للقرآن بأجمعه، ويصح عندها أن يقال: نزل القرآن جملة، وبذلك يمكن الجمع بين كون نزوله القرآن في أول البعثة النبوية المباركة، وبين نزوله في ليلة القدر.

وهو وجه حسن، إلا أنه مخالف لظاهر الآيات الشريفة التي يستفاد منها أن النـزول كان نزولاً للقرآن بأكمله وليس نزولاً لبعض آياته.

والصحيح، أن للقرآن الكريم نزولين، نزولاً دفعياً نزل فيه دفعة واحدة على قلب النبي الأكرم محمد(ص)، ونزولاً تدريجياً نزل فيه خلال مدة البعثة النبوية حسب الحاجة في كل مورد مورد، ويساعد على هذا ملاحظة الآيات الشريفة، فإن التأمل فيها يفيد وجود تعبيرين: الإنزال، والتنـزيل، فمما يشير للأول قوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)[6]، وقوله سبحانه:- (وهذا كتاب أنزلناه مبارك)[7]، وقوله عز من قائل:- (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته)[8].

ويشير للثاني، قوله تعالى:- (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنـزيلاً)[9]، وقال سبحانه:- (نزلنا عليك القرآن تنـزيلاً)[10].

وبين هذين التعبيرين مغايرة، فإن الإنزال يشير إلى حصول النزول دفعة واحدة، بينما التنـزيل يشير إلى حصول النزول على دفعات[11].

وبناء عليه سوف يكون المقصود من نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، هو نزوله بنحو التجلي دفعة واحدة على قلب رسول الله(ص) في ليلة القدر.

العلاقة بين شهر رمضان والقرآن الكريم:

ومما يلتفت الانتباه، هو التأكيد الوارد في النصوص الشريفة على ملازمة القرآن الكريم خلال شهر رمضان المبارك، من خلال التأكيد على أهمية تلاوته فيه، وما يلقاه القارئ له من الأجر والثواب، والنصوص وإن كانت تؤكد على العناية بالقرآن الكريم طيلة أيام السنة، إلا أن هناك فرقاً بين ألسنتها المشيرة إلى الاهتمام والعناية به في طيلة العام، وبين النصوص التي تتحدث عن ذلك في شهر رمضان، مع أن النصوص المشيرة إلى الاهتمام به طيلة السنة تشمل شهر رمضان أيضاً، وهذا يؤكد ما ذكرناه من زيادة العناية الاهتمام بالقرآن الكريم خلال هذا الشهر المبارك.

ومن المحتمل جداً أن يكون هناك سر في العلاقة بينهما، أرادت النصوص التنبيه والإشارة إليه من خلال هذا التأكيد. وذلك السر هو كون القرآن الكريم كتاب وقاية من المرض، ودواء لعلاج القلوب المريضة المصابة بالداء.

أما كونه عنصر وقاية من الإصابة بالأمراض فواضح، لأنه يجعل حاجباً بين القلب والمعصية، ويحول بين الإنسان والرذيلة، وهذا من الواضحات التي لا تحتاج دليلاً، ولا برهاناً.

وأما كونه دواء وعلاجاً من الأمراض، فيتضح ذلك بالرجوع لمعرفة دور القرآن الكريم في علاج القلوب، فإن المستفاد من الآيات الشريفة أن القلوب البشرية على ثلاثة أقسام:

الأول: القلوب القاسية: وهي التي تصاب بالعطل بصور كلية كاملة، وتفقد دورها تماماً، فلا تأخذ شيئاً ولا تعطي شيئاً، لأنها قد تعطلت فيها جميع وظائفها، فهي كالأرض الصلبة التي يسقط عليها المطر، لا تستفيد منه، لأنه يذهب إلى أرض أخرى غيرها، ولا تعطي ثمراً ولا زرعاً.

وعليه، لا ينفذ في القلوب القاسية النور، ولا الهدى، كما أنها لا تهبط من خشية الله، ولا تستكين، ولا تتضرع إليه سبحانه، وأصحاب هذه القلوب، لا ينفذ النور إلى قلوبهم، ولا ينفعهم وعظ ولا إرشاد.

الثاني: القلوب المريضة: وهي التي تتعطل بصورة جزئية، وفي بعض الجوانب لا جميعها، فهي تأخذ شيئاً دون شيء، كما أنها تعطي شيئاً دون شيء.

الثالث: القلوب السليمة: وهي التي تكون سليمة من القسوة، ومن المرض، فتستقبل كل ما أراد الله سبحانه لها، وتعطي كل ما أراده الله عز وجل منها، فهي تأخذ من الله تعالى النور والوعي والقوة والعزم، كما أنها تعطي لصاحبها ذلك أيضاً في حركته إلى الله سبحانه وتعالى.

وقد أشير إلى الأقسام الثلاثة في قوله تعالى:- (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم* ليجعل الله ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد* وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم)[12].

سبب مرض القلوب:

وتؤدي الذنوب والسيئات التي يرتكبها الإنسان إلى إصابة القلوب بالمرض، نعم ليس كل ذنب يصدر من الإنسان يترك هذا التأثير، وإنما بعضها هو الذي يعطي هذا الأثر، لأن الذنوب نوعان:

الأول: الذنوب الجوارحية، وهي التي يكون مصدرها جوارح الإنسان، من يد أو رجل، أو عين أو لسان، أو أذن وما شابه، فالغيبة، والنميمة، والكذب، والسعي لمجالس اللهو والباطل، والسرقة، كلها ذنوب جوارحية.

الثاني: الذنوب الجوانحية، وهي التي يكون مصدرها القلب، ويكون مركزها، وليس للجوارح مدخلية في حصولها، نعم قد تكون شريكة مع الجوانح في وجودها.

ويشير لوجود النوع الثاني من الذنوب قوله تعالى:- (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم)[13]، وقوله عز وجل:- (فإنه آثم قلبه)[14]، فإن التعبير المذكور يشير إلى وجود ذنب للقلب، وهو مغاير للذنب الذي يصدر من الجوارح، فيكون قسيماً لها.

وعلى أي حال، إن الذنوب التي توجب مرض القلب هي الذنوب الجوانحية، دون الجوارحية.

سيئات القلوب:

ويمكن حصر سيئات القلوب في عنصرين أساسيـين:

أحدهما: الشك في الله سبحانه وتعالى:

وهو كما قد يكون في ذات الله تعالى، سواء بلحاظ الوجود، أم بلحاظ الوحدانية، قد يكون في أسمائه تعالى وصفاته، وهو يساوق الشك في الذات الإلهية، وهو الذي يوجب مرض القلب، ويتضح ذلك من خلال المثال التالي:

من أهم الأمراض النفسية الموجبة لمرض القلب مرض الحسد، وعند التأمل في هذا الداء نجد أنه ناجم من الشك في أسماء الله تعالى وصفاته، فليس منشأه الشك في وجود الذات ولا وحدانيتها، ذلك أن الحاسد الذي يتمنى زوال نعمة الغير، لا يملك القناعة بعدل الله تعالى، ولا بحكمته، لأنه لو كان يؤمن بذلك، لكان ملتـزماً أن ما أعطاه الله تعالى إياه، يعود لعدله سبحانه، وما منعه منه، يعود لحكمته عز وجل، والله تعالى عادل لا يجور. فلو آمن الإنسان بالعدل الإلهي وبالحكمة الربانية، فلن يحسد أحداً، ولا ينظر لما هو الموجود في أيدي غيره، فحسده شخصاً ما يعود لعدم إيمانه بالعدل الإلهي، ولا قناعته بالحكمة الربانية، وهذا شك في الأسماء والصفات الإلهية. ويشير إلى هذا الأمر ما تضمنته العديد من الأدعية، من قولهم(ع): واجعلني بقسمك راضياً، فإن الرضا بقسم الله عز وجل، مانع من حصول الشك في أسمائه تعالى وصفاته.

ثانيهما: الشرك بالله عز وجل:

ونعني به عدم الطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى، بل هناك من يطاع غيره سبحانه، فكما أنه يطيع الله، يطيع غيره. فيطيع شهواته ورغباته، ويخضع لنزواته، وأهوائه، فتتحكم فيه هذ الأمور، فينقاد إليها، فيشرك بالله سبحانه وتعالى.

ولا ريب أن هذا الانقياد للشهوات والرغبات النفسية، تجعل للشيطان سلطاناً على الإنسان، وبالتالي يتجاوز حدود الله تعالى، فيرتكب الذنوب والمعاصي، ويتكرر سقوطه في وحل الخطيئة والمعصية.

ويتولى القرآن الكريم علاج هذه الأمراض التي تصيب القلوب بطريقته الخاصة المتميزة، قال تعالى:- (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور)[15]، فإن الذي في الصدور هو القلوب. وقال سبحانه:- (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)[16]، فيبرئ القرآن الكريم القلوب من الشك بتنبيه الفطرة، وإزالة الشكوك من النفس، فيعيد الإنسان إلى فطرته ووعيه، كما أنه يبرئ القلب من الأمراض الناشئة من سيطرة الهوى والشهوة عليه، من خلال الوعظ والترغيب والترهيب، والتذكير، والقصص والعبر.

ويعتبر الأسلوبان المتبعان من القرآن الكريم في علاج أمراض القلوب، أسلوباً قوياً وذا تأثير بالغ عليها[17].

هجران القرآن:

ومع ما للقرآن الكريم، من دور كبيراً جداً في علاج القلوب من أمراضها، وهو يمثل أيضاً عنصر وقاية وحماية لها من الإصابة بالأمراض والأوبئة والحجب عن الوصول إلى الله تعالى، إلا أن الناس يعيشون حالة من الهجران له، والابتعاد عنه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى على لسان نبي الرحمة محمد(ص):-(إن قومي اتخذوا القرآن مهجوراً)[18].

ويكون الهجران للقران الكريم، بالإعراض عنه، وتركه إلى ما سواه، وهذا الإعراض قد يكون ناجماً عن جهل بأهمية المهجور، وقد يكون عن قصد وإرادة ووعي لما هجره، والظاهر أن الذم الصادر لهجران القرآن ناظر للنوع الثاني، وهو ما يكون عن وعي ومعرفة بالمهجور، ومع ذلك يعرض عنه، وهذا هو المنسجم مع ظاهر الآية الشريفة، فإن التعبير بقوله تعالى:- (اتخذوا القرآن مهجوراً)، دون التعبير بقوله: هجروا القرآن، يشير إلى أن إعراضهم عنه كان عن معرفة ودراية به وبحقيقته، ومع ذلك أقدموا على ما أقدموا عليه. وصدور هذا الفعل منهم له أسبابه، كعدم تلبية القرآن الكريم لرغباتهم، أو لعدم انسجامه وما يطلبون، أو لغير ذلك.

صور الهجران للقرآن:

ولا ينحصر هجران القرآن الكريم في كيفية محددة، بل لذلك صور متعددة تصدق حتى مع وجوده عند الإنسان، بل وقراءتهم له:

فمن صور هجرانه: الوجود الشكلي للقرآن الكريم: ويكون ذلك بقصر دوره على جعله عنصر حماية وحفظ من خلال تعليقه في المنـزل، أو وضعه في السيارة كيما يأمن الإنسان على نفسه وعياله وماله من التلف والخراب وما شابه.

أو جعله وسيلة استشفاء فقط ليكون مورد العناية به بلحاظ العلاج بآياته الشريفة، وهكذا. وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: مسجد خرب لا يصلي فيه أحد، وعالم بين جهال، ومصحف معلق قد وقع عليه الغبار لا يقرأ فيه. فإن تعليق القرآن الكريم في المنـزل، أو وضعه في السيارة وما شابه ذلك لن يحول دون أن يعلوه الغبار ليكون شاكياً لله تعالى يوم القيامة.

ويدخل في هذه الصورة هجران تلاوته، فلا يقرأ شيء من آياته الشريفة.

ومن الواضح أن مثل هذا التعاطي مع القرآن الكريم لا يحقق الهدف الأسمى والأهم من نزول القرآن الكريم، وإن كان يحقق غرضاً في الجملة حول ذلك.

ومنها: القراءة اللسانية: ونقصد بها القراءة التي تقتصر على تلاوة الآيات الشريفة دون أن تتضمن تدبراً ولا تأملاً في الآيات المباركة، وهذا النحو من القراءة وإن كان يظهر من بعض النصوص، إلا أنها ليست القراءة التامة التي ينبغي أن يقرأ بها المؤمن، خصوصاً وأن المتابع لسيرة المعصومين(ع) يظهر له منها أن أحدهم(ع) إذا مرّ بآية فيها حديث عن النار والعذاب تعوذ بالله منها، وإذا مرّ بآية تتحدث عن الجنة ونعيمها اشتاق إليها، وهكذا، فإن هذا يكشف عن نوعية القراءة المتبعة من قبلهم، وهي القراءة التدبرية.

وبالجملة، إن القراءة اللسانية للقرآن الكريم تعدّ صورة من صور هجرانه، لأنها لا تحقق الغرض المطلوب من نزوله.

ومنها: الاشتغال عنه بغيره حال تلاوته: فلا ينصت إلى قراءته متى قرأ، ولا يستمع لآياته حال تلاوتها، مع أن الباري سبحانه وتعالى يؤكد على الانصات إليه، قال تعالى:- (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون)[19]، وقد أشار الباري سبحانه إلى أن عدم الإنصات إلى آياته كانت دعوة الكفار، قال سبحانه:- (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)[20].

ومنها: ترك العمل بما فيه: فلا يلتـزم بما تضمنه القرآن الكريم من مفاهيم وتشريعات، وهذا يبرر سبب وجود الخطايا والذنوب في حياة المجتمعات، لأن ذلك يرجع إلى عدم وعيهم للمفاهيم القرآنية، كمفهوم اليوم الآخر، فلو أنهم وعوا ذلك، وتوجهوا إلى أن حياتهم في هذه الدنيا لا تخرج عن كونها مجرد مزرعة للآخرة، فمن الطبيعي جداً أن لا تصدر منهم الذنوب والمعاصي، إلا أن غفلتهم عن حقيقة هذا المفهوم، أو قل غفلتهم عن تطبيقه هي التي أوجبت حصول ذلك منهم، وهذا هو أحد مصاديق الهجران.

ويختلف حكم كل واحدة من هذه الصور، فليس الحكم فيها واحداً، إذ يحكم في بعضها بالحرمة، ويكون المؤمن مرتكباً لحرام ومخالفاً للشريعة السمحاء، بينما يكون الحكم في بعضها هو الكراهة، فالقراءة اللسانية للقرآن الكريم وإن كانت هجراناً له، إلا أنه لا يحكم عليها بالحرمة، وهذا بخلاف الوجود الشكلي له وحفظه بذلك، فإنه محرم.

الآثار السلبية للهجران:

ولا تنحصر الآثار السلبية للهجران في حرمان الإنسان من الاستفادة من الدور الوقائي للقرآن الكريم من أمراض القلوب، وفقدانه لدوائيته العلاجية منها، بل هناك آثار أخرى، كالحرمان من حصول بركاته وخيراته في عالم الدنيا، لأنه يمثل منهجاً حياتياً متكاملاً في كافة الأبعاد والنواحي الحياتية، فهجرانه سبب لفقدان هذه الأمور.

وأما أثره السلبي في الآخرة، فأن يكون الهاجر له مورداً لشكوى رسول الله(ص)، بين يدي الله سبحانه وتعالى. ومن المعلوم أن من يشكوه الرسول الكريم(ص)، فهو خصيم له، وأي بلاء وأذى يحل بمن كان رسول الله(ص) خصيماً له، نسأل الله تعالى أن يجعلنا والمؤمنين والمؤمنات، ممن يتعاهد القرآن الكريم، ولا يكون هاجراً له.

 

[1] سورة البقرة الآية رقم 185.

[2] سورة الدخان الآية رقم 3.

[3] سورة القدر الآية رقم 1.

[4] فضائل الأشهر الثلاثة 95/78.

[5] الكافي ج 2 ح 10 ص 630.

[6] سورة الدخان الآية رقم 3.

[7] سورة الأنعام الآية رقم 92.

[8] سورة ص الآية رقم 29.

[9] سورة الإسراء الآية رقم 106.

[10] سورة الإنسان الآية رقم 23.

[11] مواهب الرحمن ج 3 ص 40-46.

[12] سورة الحج الآيات رقم 52-54.

[13] سورة البقرة الآية رقم 225.

[14] سورة البقرة الآية رقم 283.

[15] سورة يونس الآية رقم 57.

[16] سورة فصلت الآية رقم 44.

[17] وعي القرآن ص 55- 68(بتصرف).

[18] سورة الفرقان الآية رقم 30.

[19] سورة الأعراف الآية 204.

[20] سورة فصلت الآية رقم 26.