20 أبريل,2024

الحاجة إلى وجود الحجة

اطبع المقالة اطبع المقالة

تضمنت النصوص الشريفة الواردة عن المعصومين(ع) أنه لا يموت الإمام حتى ينص على الإمام الذي بعده، ففي معتبرة سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله(ع) قال: ما مات عالم حتى يعلمه الله عز وجل إلى من يوصي[1]. ويدل المعتبر المذكور على أمرين:

الأول: أن الله سبحانه وتعالى يُعلم الإمام الموجود بمن يكون إماماً بعده، ويطلعه على ذلك. وهذا المعنى يشير إلى أن مسألة الخلافة الإلهية قائمة على الإصطفاء والانتخاب الإلهي، وليس لليد البشرية دخالة فيها أبداً.
الثاني: أن الكشف عن الإمام الذي يلي الإمام يكون من خلال إخبار الإمام الموجود عمن يقوم بخلافته من بعده، فيتولى هو النص على الإمام الذي يلي الأمر.

ويؤيد ذلك نصوص أخرى، كمعتبر أبن أبي يعفور عن أبي عبد الله(ع) قال: لا يموت الإمام حتى يعلم من يكون من بعده فيوصي إليه[2].
وخبر المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله(ع)، قال: إن الإمام يعرف الإمام الذي من بعده فيوصي إليه[3].

وهناك علامات يتم من خلالها معرفة الحجة خارجاً، فلا تقبل دعوى كل أحد يدعي المنصب المذكور، فيميز الصادق من الكاذب منهم[4].
وفد أكدت النصوص الشريفة على أهمية وجود الحجة، وأن لذلك آثاراً متعددة، حتى ربط بين بقاء الوجود والكون وبين وجودها، وهذا يثير تساؤلاً يخطر في الأذهان حال سماع مثل هذا الأمر، وهو: ما هي الحاجة إلى وجود الحجة، ولماذا لابد من وجوده، وما هي الآثار المترتبة على ذلك الوجود، ولماذا يلزم أن لا تخلو الأرض من حجة؟

ربما يتصور الكثير أن الداعي إلى وجود الحجة، ينحصر في خصوص تبليغ التعاليم الدينية والأحكام الإلهية، والحفاظ عليها.

وهذا وإن كان أحد الموجبات لوجوده، إلا أن الظاهر أن ذلك لا يعدّ السبب الرئيس والداعي الأساس لذلك، لأن من الممكن جداً أن تتم عملية تبليغ الأحكام الإلهية دفعة واحدة، بما يكون متلائماً جداً وحاجة البشر في ذلك، ويتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها من دون مساس، كما تكفل بحفظ القرآن الكريم عن كل تحريف.

ومع عدم القبول بحصر الداعي إلى وجودها، والحاجة إليها في خصوص ما ذكر، لابد وأن تكون هناك دواعي أخرى توجب ذلك.
إن الرجوع لملاحظة الآيات القرآنية المباركة، والتأمل في النصوص الشريفة، يشير إلى دواعي أخرى أوجبت الحاجة إلى وجود الحجة، نشير إلى بعضها:

التكامل الإنساني:

منها: تكامل العنصر الإنساني: من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وزوده بالإرادة والعقل والعلم، فصار يتميز على بقية الموجودات بهذه الصفات الثلاث، لأنه مخلوق مريد يتحرك وفق إرادته، كما أنه موجود عاقل يتميز بعقله عليها، وهو يملك سلاح لعلم والمعرفة الذي يعطيه حق الامتياز على البقية.

ولوجود موجبات التميز عند هذا الموجود، أراد الله تعالى له أن يتميز على الكثير من الموجودات في عالمنا اليوم، بل أراد له أن يكون الأفضل والأكمل منها، فزوده بالقابلية والقدرة على التكامل المستمر، حتى يواصل الاقتراب من الله سبحان وتعالى.

ولا يكون ذلك إلا من خلال الخضوع إلى قانون الطاعة والمعصية، وقد يعبر عنه أيضاً بقانون الانقياد والتمرد. فيحقق الهدف من وجود الإنسان المتمثل في تجسيد العبودية المطلقة لله سبحانه وتعالى، والمستفاد من قوله تعالى:- (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)[5]. ويكون ذلك بانسجام الإنسان في حركته وسلوكه مع الإرادة الإلهية التشريعية، فينسجم مع الشريعة، والقوانين، والواجبات، والمحرمات، والضوابط، والحدود التي وضعت للإنسان.

فإذا انسجم الإنسان مع الإرادة الإلهية، كان ذلك موجباً لتكامله، ووصوله إلى الدرجات العالية، الذي يعبر عنه بالطاعة والانقياد، أما لو فشل في تحقيق ذلك، فإنه سوف يتسافل إلى أسفل موقع وضع، وينتكس إلى أسوء حالة ومرحلة، وهو ما يعبر عنه بالمعصية والتمرد.

ولا يختلف حال قانون الطاعة والمعصية عن بقية القوانين في قيامه على مجموعة من المواد المكونة له، والدخيلة في حصوله، مثل:

1- التدريج في تبليغ التشريعات، فلا يتم عرضها مرة واحدة، بل يلحظ في ذلك مجموعة من الاعتبارات والظروف الموضوعية الخاصة، حتى قيل أن هناك بعض التشريعات التي بعدُ لم تبلغ لا زالت محفوظة عند سيدي ولي النعمة صاحب الناحية المقدسة(عج).

2-فتح باب التوبة والمغفرة الإلهية.

3-مبدأ الثواب والعقاب.

4-نظام الامتحان والابتلاء.

ومن المواد المرتبطة بقانون الطاعة والمعصية، مادة الحجة التي يقيمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان، فإن لها دخالة في تطبيق قانون الطاعة والمعصية الذي يقوم التكامل الإنساني عليه. فيعتبر في الطاعة التي تؤدي إلى التكامل أن تكون طاعة ناشئة عن حجة، كما يعتبر في المعصية التي تؤدي إلى التسافل والمعصية أن يكون منشأها وجود الحجة أيضاً. ولهذا يشير قوله تعالى:- (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة)[6]، فلا تكون الحياة الحقيقة، ولا يكون الهلاك الحقيقي إلا عن بينة وحجة.

وبالجملة، إن تطبيق قانون الطاعة والمعصية يتوقف على وجود الحجة، لأنه ليس المطلوب مطلق الطاعة، أو المعصية، وإنما يقصد بذلك ما كان ناتجاً عن وجود وقيام الحجة.

عناصر الحجة:

ومع الإحاطة بدخالة مادة الحجة في حصول التكامل الإنساني من خلال قانون الطاعة والمعصية، يلزم التعرف على الحجة التي يتوقف تطبيق القانون المذكور عليها.

يستفاد من الآيات المباركة، والنصوص المعصومية، أن للحجة عناصر ثلاثة يكمل كل واحد منها الآخر، ما يعني لزوم توفرها جميعاً:

أولها: العقل: فمن لا عقل له لا يكون مشمولاً لقانون الطاعة والمعصية، لذا لا يترقب منه التكامل، فضلاً عن السعي إليه، كما هو واضح.
وقد أشير إلى حجية العقل، في النصوص، ففي صحيح محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني أياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب[7].

ويتمثل دور العقل وفقاً للنصوص في هداية الإنسان إلى الحقيقة، وتميـيز الأشياء بعضها عن بعض، ويقصد بالحقيقة، الذات المقدسة، ومنها تتفرع بقية الحقائق الأخرى. ولعل هذا يفسر لنا سر تأكيد القرآن الكريم في العديد من آياته، على دور العقل ومسؤوليته في معرفة الحقيقة، وتحمل الإنسان مسؤوليته.

ثانيها: خلفاء الله في الأرض: ويقصد بهم الأنبياء والمرسلين، والأوصياء والأئمة الطاهرين، بل حتى العلماء، لأنهم خلفاء الله في الأرض وسفرائه إلى الخلق.

ثم إن الجميع يبلغون رسالات السماء إما بأمر خاص، وبكفية خاصة، كما في الرسل والأوصياء، أو بأمر عام كما في العلماء، لأنهم يعتبرون حججاً لله تعالى، وفقاً لما جاء في التوقيع الشريف: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله.
وكيف ما كان، يستفاد حجية من ذكر، من خلال مجموعة من آيات الكتاب العزيز، مثل قوله تعالى:- (هو الذي بعث في الأميـين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[8].

وليس العنصر المذكور مستقلاً عن سابقه، بل كما عرفت هو مكمل له، لأنه بعد أن يصل الإنسان إلى الحقيقة المطلقة، فإن العقل يرشده إلى خلفاء الله في الأرض، وعندها يقوم الرسل بهداية الناس إلى ما كلفوا به من وظائف يريدها خالقهم تعالى منهم. فيقوم هؤلاء ببيان التفاصيل التي لا يدركها العقل البشري، كما يقومون بإيضاح المفاهيم المدركة من قبله، كحسن بعض الأمور كالعدل والإحسان، وقبح الأمور الأخرى كالظلم والخيانة.
ثالثها: العلم والمعرفة: وحجيته التكميلية للعنصرين السابقين تستفاد من النصوص الشرعية، سواء الآيات المباركة، أم النصوص الشريفة، فإنها تؤكد وتدل على هذا.

ولما كانت مستويات معرفة الحقائق عند الإنسان متعددة، فقد ينجم ذلك من الوهم، بأن يتوهم أمراً من الأمور، فيحتمل أنه حقيقة ثابتة، كما يحتمل أن يكون أمراً باطلاً. وقد يصعد الوهم المذكور ليتحول إلى احتمال عنده، فتصبح درجته أعلى، ليكون شكاً، فيتساوى عنده احتمال الثبوت والعدم، في أن هذا الأمر مطلوب لله تعالى ومحبوب عنده، أو أنه مبغوض له عز وجل، وقد يتحول احتمال الشك إلى الظن، بسبب ترجح أحد الطرفين على الآخر. وأعلى مراتب الكشف عن الحقيقة هي التي تكون عن علم.

وجب أن تكون معرفة الإنسان للحقيقة والإحاطة بتفاصيلها، بمستوى العلم. فيلزم من لا يكون ممتلكاً إياه أن يسعى إلى نيله وتحصيله، ولو من خلال السؤال والاستفسار، ففي معتبرة مسعدة بن زياد، قال: سمعت جعفر بن محمد(ع) وقد سئل عن قوله تعالى:- (فلله الحجة البالغة)، فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة، عبدي أكنت عالماً؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل، فيخصمه، فتلك الحجة البالغة[9].

حفظ الوجود البشري:

ومنها: حفظ الوجودي البشري، بعدم نزول العذاب عليهم، فلا تدمر الحياة الإنسانية على الأرض، وإليه يشير قوله تعالى:- (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كانا لله معذبهم وهم يستغفرون)[10]، فقد دلت على أن المانع من نزول العذاب أمران:

1-وجود الحجة الإلهية، المتمثل في شخصية النبي الأكرم محمد(ص).
2-استغفار الناس من ذنوبهم، وتوبتهم إلى ربهم.

ويؤكد مانعية وجود الحجة عن دمار الحياة البشرية، بل يدل عليه ما جاء عنه(ص): النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي، فإذا ذهب النجوم، ذهب أهل السماء، وإذا ذهب أهل بيتي، ذهب أهل الأرض. وهذا يعني أن وجود المعصوم(ع) بيننا مانع من نزول العذاب علينا، فوجود مولاي ولي النعمة صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، يوجب حفظ هذا الكون وحمايته من أن تحل به النقمة الإلهية، ويصيبه الغضب الإلهي. وقد أكد هذا المعنى خبر جابر الجعفي المروي في علل الشرائع لشيخنا الصدوق(ره)، عن أبي جعفر(ع) قال: قلت لأي شيء يحتاج إلى النبي والإمام؟ فقال: لبقاء العالم على صلاحه، وذلك أن الله عز وجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبي أو إمام، قال الله عز وجل:- (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم)، وقال النبي(ص): النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتى أهل الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته الأئمة الذين قرن الله عز وجل طاعتهم بطاعته، فقال:- (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وهم المعصومون المطهرون الذين لا يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيدون المسددون، بهم يرزق الله عباده، وبهم يعمر بلاده، ويهم ينـزل القطر من السماء، وبهم تخرج بركات الأرض، وبهم يمهل أهل المعاصي ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب، لا يفارقهم روح القدس ولا يفارقونه، ولا يفارقون القرآن ولا يفارقهم صلوات الله عليهم أجمعين[11].

تفسير مانعية نزول العذاب:

ويبقى كيف يمكن التوفيق بين القوانين الإلهية المستفادة من الأدلة الشرعية، وهذه الظاهرة، أو قل كيف يمكننا تحليل ظاهرة مانعية وجود الحجة والمعصوم من نزول العذاب بالنسبة إلى بقية القوانين الأخرى المشار إليها ضمن الآيات الشريفة وروايات الأئمة الأطهار(ع)؟
إن الإحاطة بذلك تعتمد على الالتفات إلى أمرين رئيسيـين، أشير إليهما في القرآن الكريم، في مواضع متعددة، وهما يمثلان قانونين من قوانين العقائد الإسلامية، وهما:

1-قانون العقاب الإلهي، وهو المجعول من قبل الله تعالى ليحكم مسيرة الإنسان، فينـزل العذاب على العاصين والمذنبين.
وعندها يسأل عن الحكمة الإلهية لنـزول العذاب على البشر، خصوصاً وأنه كان بإمكانه سبحانه وتعالى أن يدخل جميعاً الناس الجنة، بمقتضى رحمته تعالى.

وهذا من البحوث المهمة والجديرة بالدراسة، إلا أن عرضه يوجب خروجاً عن حريم البحث، فليطلب من محله.

2-فتح باب التوبة، وهو أحد العناصر التي تؤدي لوصول الإنسان إلى الكمال والرقي، ولا يمكن للإنسان أن يحقق التوبة خارجاً إلا إذا كان هناك تأجيل لوقوع العقاب بفتح باب التوبة، وإلا لو كان العقاب ينـزل بمجرد المخالفة، دون إعطاء مجال للتوبة ، فلن يتسنى للإنسان التوبة، ومن ثمً عدم الوصول إلى الكمال، وهذا بخلاف ما لو كان هناك تأجيل للعقاب والعذاب.

ويعتبر وجود الإمام المعصوم(ع) طريقاً لحصول التوبة تحققها، بل فرصة لتحققها، ومع كون وجوده(ع) كذلك، يتضح معنى مانعية وجود الحجة لنـزول العذاب.

حصول التكامل الكوني:

ومنها: تحقق التكامل الكوني، فإن المستفاد من الآيات المباركة، وكذا النصوص الشريفة، أن للحجة دخالة في حصول التكامل للكون، ووجود الانسجام بين حركة الأرض والسماء، ويعدّ هذا المعنى أحد التفسيرات المذكورة لقول الإمام الرضا(ع): لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها[12]. ولعل إليه يشير قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات السماء والأرض)[13]، وتوضيح الأمر أن يقال:

إن المستفاد من القرآن الكريم وجود موقع محوري ومركزي في الكون للإنسان، وقد جعل الله تعالى هذا المحور له عندما خلق الكون والحياة والإنسان، كما يظهر ذلك من قوله تعالى:- (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)[14]، فاستخلافه في الأرض يكشف وجود امتيازات خاصة عنده، تجعله يمثل محورية لهذا الكون.

وليست محورية الإنسان للكون ببعده المادي، المتمثل في هيئته وصورته البدنية من جمال خلقة وحسن صورة، وقوة بدن، وكمال جسد، وإنما محوريته ببعده النفسي المعنوي والروحي، ويظهر هذا من قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)[15]، فإن المستفاد من الآية الشريفة ربطها التغيـيرات الكونية بعاملي الإيمان والتقوى، وهما أمران معنويان، وليسا ماديـين. ومتى تحقق هذان الأمران نجم عنه نزول الخيرات والبركات. كما يظهر من قوله تعالى:- (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[16]، فإن من الواضح جداً كون التغيـير المقصود هو التغيـير النفسي والروحي، وليس المادي، ومثل ذلك قوله تعالى:- (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)[17]، فإن منشأ العمل السيئ الصادر من الإنسان هو بعده المعنوي والروحي، وليس بعده المادي.

ونعني بالإنسان المؤثر في محورية الكون هو الجانب الاجتماعي للإنسان، وليس الحالة الفردية له، فنـزول الخيرات والبركات، أو ظهور الفساد يكون عندما تتصف الجماعة بتلك الصفة، إما بالإيمان والتقوى، أو بالمعصية والرذيلة. وهذا يعني أنه لا مؤثرية للفرد بما هو فرد في الكون. ويساعد على ما ذكرناه من مؤثرية الجماعة دون الفرد قوله تعالى:- (ولو أن أهل القرى)[18]، إذ نلاحظ التعبير القرآني ورد بصيغة الجمع، ولم يرد بصيغة المفرد. ومثله قوله تعالى:- (بما كسبت أيدي الناس)[19].

ولن يحصل التكامل في المجتمع الإنساني الموجب لحصول التكامل الكوني إلا بوجود الحجة، فما لم يكن حجة موجوداً لن يتحقق هذا التكامل، ولن يبلغ إليه. ويكون دوره في التكامل من خلال أبعاد ثلاثة:

الأول: رفع القيود والأغلال:

لا ريب أن للحجة دوراً رئيسياً في تحقيق حرية الإنسان من الأغلال التي يواجهها، والعبوديات التي تعرض إليها في حركته الاجتماعية، قال تعالى:- (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)[20]، وتعتبر عملية وضع الأغلال إحدى الوظائف التي يقوم بها الحجة، أي تحرير المجتمع الإنساني بصورة حقيقية من الاستعباد والضغوط ، سواء فسرنا الأغلال في الآية الشريفة بأغلال الشهوات والهوى والميل، أم فسرناها بأغلال الطغاة والمستكبرين الذين يستعبدون البشر ويحولونهم إلى عبيد عندهم، أم قلنا أن المقصود بها الأفكار المنحرفة التي لا تنسجم مع الأطر العامة للفكر الإسلامي الأصيل، والتي تكون بعيدة كل البعد عن الفطرة السليمة.

والحاصل، يتولى الحجة القيام بعملية تحرير المجتمع الإنساني من الشهوات والأهواء من خلال قيامه بعملية التزكية والتطهير والهداية، كما يقوم بتحريره من رق وعبودية الطغاة والمستكبرين. كما يتولى تحريرهم من الأوهام والخرافات والأسماء المبتدعة والآلهة المعبودة من دون الله تعالى.

الثاني: ضبط الاختلاف بين الناس:

قد يكون الاختلاف موجوداً في المجتمع في أبعاد متعددة، فيمكن أن يكون في العبادة، وقد يكون الاختلاف في عملية التطبيق، وهو ما يعبر عنه بالتأويل في البحوث القرآنية، كما لو كان الاختلاف في تفسير وتأويل شيء مما ورد عن الله سبحانه. ويتولى الحجة حال وجوده علاج هذه الخلافات الموجودة، سواء ما كان منها في العبادة، أم ما كان منها في التطبيق، أم غير ذلك، ويركز البعد الوحدوي في المجتمع، لأهمية هذا الأمر في قوة المجتمع وحفظ كيانه.

الثالث: التطبيق الفعلي للشريعة:

بامتثال الأحكام الإلهية الصادرة عن الله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن عملية التطبيق من المفاهيم المشككة التي لا تكون في مرتبة واحدة، ما يعني أن للتطبيق مراتب متعددة، تتفاوت من فرد لآخر، وكلما كان التطبيق في مرتبة متقدمة، كان ذلك موجباً لبلوغ التكامل وحصول الرقي وتحصيل الاقتراب من الله تعالى.

أدوار الحجة:

وبعد الإحاطة بصورة مجملة بالدواعي لوجود الحجة والحاجة إلى ذلك، نشير إلى الأدوار التي يقوم الحجة بها، ومنها يتضح معنى حجيته، بل هو يزيد ويؤكد دوافع وجوده ومقدار الحاجة إليه.

إن العودة للنصوص الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة تعطي أن هناك أدواراً مناطة بالحجة عليه أن يقوم بأدائها، نشير لبعضها:

منها: معرفة الله والدلالة عليه:

أول الأدوار لتي يقوم بها هي معرفة الله تعالى، والدلالة عليه، حتى يتم تشخيص علاقة الإنسان بربه سبحانه، وطريقة عبادته، لأن الحجة يتولى عملية الهداية بعد الفراغ عن دلالة العبد على ربه، كما يقوم بتعريفه بالإلزامات الإلهية الموجهة إليه.

ومنها: تصديق الرسالات الإلهية:

برفع الشك والحيرة عند الناس، فإن الشك والحيرة عندهم، قد تكون في الهادي نفسه، فيحتاج إلى ما يصدق رسالته ليعرف الناس أنه مرسل، بل إنه بعد التصديق برسالته، وقد تكون في ما يأتي به، فيشكون في رسالته وما يأتي به من هدى، ووظيفة الحجة التصديق بكليهما، بالمرسل وبالرسالة. ولهذا عدّ القرآن الكريم حجة، لما احتواه من تصديق للرسول محمد(ص)، ولرسالته، كما أن النبي(ص) يكون حجة في قوله وسلوكه وعمله، لأنه بذلك يصدق رسالته.

والحاصل، إن الحجة سبب لتولد اليقين عند الإنسان بصحة الرسالة، وصدق المرسل.

ومنها: الشهادة على الأمة:
وقد نصت عليه بعض الآيات الشريفة، وذكرته النصوص المباركة، من أن النبي الأكرم(ص)، والأئمة الأطهار(ع) شهداء الله على هذه الأمة[21].

[1] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب أن الإمام(ع) يعرف الإمام الذي يكون من بعده ح 7 ص 277.
[2] المصدر السابق ح 5.
[3] المصدر السابق ح 6.
[4] تعرضنا لذلك في بحث مفصل تحت عنوان وسائل معرفة الإمام، فيمكن لمن أحب الرجوع إليه.
[5] سورة الذاريات الآية رقم 56.
[6] سورة الأنفال الآية رقم 42.
[7] أصول الكافي ج 1 كتاب العقل والجهل ح 1 ص 10.
[8] سورة الجمعة الآية رقم 2.
[9] أمالي الشيخ الطوسي ص 9 ح 10.
[10] سورة الأنفال الآية رقم 33.
[11] بحار الأنوار ج 23 ب الإضطرار إلى الحجة ح 14 ص 19.
[12] بحار الأنوار ج 23 باب الاضطرار إلى الحجة ح 43 ص 29.
[13] سورة الأعراف الآية رقم 96.
[14] سورة البقرة الآية رقم 30.
[15] سورة الأعراف الآية رقم 96.
[16] سورة الرعد الآية رقم 11.
[17] سورة الروم الآية رقم 41.
[18] سورة الرعد الآية رقم 11.
[19] سورة الروم الآية رقم 41.
[20] سورة الأعراف الآية رقم 157.
[21] مستفاد من كتاب الحجة والولاية من منظور الثقلين.