29 مارس,2024

الكوثر نهر في الجنة

اطبع المقالة اطبع المقالة

يقترن ذكر مولاتي السيدة الزهراء(ع) غالباً بذكر سورة الكوثر، فمتى ذكر قوله تعالى:- (إنا أعطيناك الكوثر* فصل لربك وانحر* إن شانئك هو الأبتر)[1]، تبادر إلى أذهان الكثير ذكر السيدة الزهراء(ع)، ما يوحي بوجود قرن بينهما، ومنشأ ذلك إما تفسير الكوثر بالسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، في القرآن الكريم، أو في النصوص الشريفة، أو ما يقرب من ذلك.

ولا يتضح الأمر وتنكشف صورته إلا إذ عمد إلى ملاحظة المقصود من الكوثر في السورة المباركة، وبيان المقصود منه، وهل أن لذلك ارتباطاً بالسيدة(ع)، أم ينفى وجود الارتباط بينهما.

حقيقة الكوثر:

يتفق اللغويون على أن المقصود من الكوثر هو الخير الكثير، فلا تجد بينهم خلاف في ذلك، والظاهر موافقة المفسرين إياهم في هذا المعنى. نعم وقع الخلاف في تحديد المصاديق للخير الكثير، فذكرت أقوال عدة، حتى عدّ الفخر الرازي في تفسيره عشرين مصداقاً لهذا الخير[2]، وقد ذكر الشيخ المجلسي(ره)، في البحار جملة من تلك المعاني المذكورة للخير الكثير[3].

ويمكن حصر تلك المصاديق والمعاني التي وردت في الكلمات بياناً لحقيقة الخير الكثير في معنيـين:

الأول: ما يكون مرتبطاً بعالم الدنيا، بحيث يفسر الخير الكثير بشيء له علاقة بالدنيا، وليس مرتبطاً بعالم الآخرة.

الثاني: ما يفسره بما يكون مرتبطاً بعالم الآخرة، أي أن الحصول عليه، ونيله لا يكون في الحياة الدنيا، وإنما يكون في القيامة أو بعد الانتهاء من المحشر والحساب.
وكيف ما كان، لنشر لبعض تلك المعاني والمصاديق التي وردت في الكلمات:

منها: النبوة والكتاب.

ومنها: القرآن الكريم.

ومنها: كثرة الأصحاب والأشياع.

ومنها: كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت كثرة نسله في ولد مولاتي الزهراء(ع)، ولعل هذا هو السبب في القرن بين السورة المباركة وبينها(ع)، فقد فسر الكثيرون الكوثر بالزهراء(ع)، لأنها ستكون المصدر لتحقق الخير الكثير، إذ أن بقاء ذكر النبي(ص)، سيكون من خلال ذريتها.

ولقد وقف الرازي عند هذا المعنى طويلاً، وأشار إلى بقاء ذكر النبي(ص) من خلال ذريته المتمثلة في أبناء الزهراء(ع)، قال: والقول الثالث: الكوثر، أولاده، قالوا لأن هذه السورة نزلت رداً على من عابه(ع) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا(ع)[4].

هذا بعض مصاديقه مما يرتبط بعالم الدنيا، وأما ما يرتبط بعالم الآخرة، فإنه ينحصر في مصداق واحد، وهو أن المقصود من الكوثر عبارة عن نهر في الجنة.
ووفقاً لهذا التفسير، سوف يكون هناك اختلاف بين معنى الكوثر لغة، والمقصود منه في الاصطلاح، لوجود مغايرة واضحة بين الخير الكثير، وبين تفسيره بنهر في الجنة، ولو أريد أن يكون المقصود من الخير الكثير هو النهر الذي يكون في الجنة، فسوف يكون بضرب من التجوز والعناية، كما لا يخفى.

والحاصل، هناك فرق في تحديد المقصود من الكوثر بين المعنى المرتبط بعالم الدنيا، وما يكون مرتبطاً بعالم الآخرة.

وكيف ما كان، فإن المتصور من مصاديق لحقيقة الكوثر في عالم الدنيا، والتي هي بمعنى الخير الكثير، ثلاثة:

أحدها: أن يكون المقصود من الخير الكثير الذي قد أعطيه النبي الأكرم محمد(ص)، هو الذرية والنسل، ويساعد على ذلك، ما جاء في ذيل السورة المباركة، من قوله تعالى:- (إن شانئك هو الأبتر)[5]، لأنه سوف يكون بمثابة القرينة الموجبة لصرف اللفظ لهذا المعنى، على أساس أن المقصود من الأبتر هو الشخص الذي لا عقب له، كما ذكر ذلك مشهور المفسرين، كالعلامة الطباطبائي(ره). مضافاً إلى ملاحظة سبب النـزول الذي ذكره المفسرون في سبب نزولها، وسوف نشير إليه بعد قليل.

ثانيها: أن يقصد منه الحكمة، اعتماداً على ما جاء في قوله تعالى:- (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً)[6]، فالحكمة تعني الخير الكثير، ولما كان الخير الكثير هو الكوثر، فتكون الحكمة هي الكوثر.

ثالثها: أنه ماء في الآخرة، وعمدنا للتعبير المذكور لما تضمنته النصوص من ذكر نهر في الجنة، وذكر حوض الكوثر، فلو بني على المغايرة بينهما، يلزم تحديد المقصود من الكوثر، خصوصاً مع وجود اختلاف بينهما، أما لو بني على أنهما شيء واحد، يعبر عنه تارة بنهر فيا لجنة، وأخرى بحوض الكوثر، فلا حاجة للبحث عن التحديد.
وبالجملة، سوف نقصر التعبير على أنه ماء في الآخرة، حتى يتضح الأمر جلياً في ما يأتي.

ويتفق المسلمون على وجود ماء في عالم الآخرة، يعرف بالكوثر، سواء كان حوضاً أم كان نهراً، ونصوص الفريقين مستفيضة عليه. وهذا يساعد على أن يكون المقصود من الكوثر في الآية المباركة هو الماء الذي في الآخرة، وأشير إليه في النصوص المذكورة.

ترجيح المصداق الأول:

وقد يعمد إلى ترجيح المصداق الأول من المصاديق الثلاثة دون الأثنين الباقيـين، بلحاظين، وجود الدليل المساعد على ذلك، وعدم وجود المانع من القبول به.
أما الدليل، فيتمثل في أمرين، وهما:

الأول: ملاحظة هدف السورة المباركة، فكما أن هناك هدفاً من نزول القرآن الكريم يسعى لتحقيقه من نزوله كاملاً، فإن لكل واحدة من سوره المباركة هدف يسعى للوصول إليه، يكون غاية من نزولها أيضاً، والظاهر أن الهدف الذي نزلت السورة المباركة من أجله، هو الرد على الدعوى القائلة بأن ذكر النبي(ص) سوف ينقطع وينتهي بمجرد موته، لأنه لا نسل له، فكان الجواب الإلهي متمثلاً، في أن الله تعالى قد أعطاه ذرية كثيرة توجب إبقاء لذكره واستمراراً له. ويساعد على كون الهدف من نزولها ما ذكر ما تضمنته المصادر التاريخية من حادثة عدّت سبباً لنـزول السورة المباركة، وقد نص عليها في بعض الكتب التفسيرية، وهي قصة العاص بن وائل السهمي، أنه رأى رسول الله(ص) يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم وتحدثا وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص قالوا من الذي كنت تتحدث معه، قال: ذلك الأبتر وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله(ص) وهو من خديجة، وكانوا يسمون من ليس له ابن ابتر، فسمته قريش عند موت ابنه ابتر ومبتوراً[7].

الثاني: المعنى اللغوي لكلمة الأبتر، فقد ذكر في كلمات أهل اللغة، كالأصفهاني في المفردات، أنه يستعمل في مقطوع الذنب، ثم صار يستعمل لكل من انقطع عقبه وأصبح بلا نسل، قال: البتر يقارب ما تقدم-ويقصد بما تقدم، ما جاء في مادة بتك، وأن البتك يستعمل في قطع الأعضاء والشعر-لكن يستعمل في قطع الذنب، ثم أجري قطع العقب مجراه[8]. ويحتمل في قوله: ثم أجري…ألخ…، أنه حصل نقل للفظ من المعنى الأولي إلى المعنى الثاني، أو أصبح استعماله فيه مجازي يحتاج إلى قرينة للدلالة عليه، ولعلا لأول أوضح، فتأمل.

والحاصل، إن مقتضى كون المقصود من الأبتر لغة هو الذي لا عقب له ولا نسل، يساعد على أن يكون المقصود من الكوثر في الآية المباركة الذرية والنسل الكثير، لأن وجود هذه الكلمة سوف يشكل قرينة متصلة لتحديد المقصود من مصداق الكوثر.
وأما فقدان المانع من رفضه فأمران أيضاً:

أحدهما:، إنه لو لم يقبل تفسير الكوثر بالنسل والذرية الكثيرة، لزم من ذلك أن لا يكون للآية الأخيرة في السورة أية فائدة.

ثانيهما: إنه يلزم من عدم تفسير الكوثر بالذرية، أن يكون للسورة المباركة هدفان، يشير مطلع السورة لأحدهما، وهو إعطاء الكوثر، بأي معنى فسر به غير الذرية والنسل الكثير، ويشير ذيلها للآخر، وهو كون شانئه أبتراً بمعنى مقطوع النسل والعقب.
ووحدة الهدف في السورة وإن لم يكن شرطاً لازماً، لأنه لا محذور أن يكون للسورة أكثر من هدف، إلا أن وجود هدف واحد إليها فقط يعدّ أمراً مستحسناً ومحبذاً.
والفرق بين الدليل، والمانع، أن الدليل يمثل قرينة متصلة على تحديد المقصود من الآية، والمانع يمثل قرينة منفصلة لذلك.

مناقشة ما ذكر:

وما ذكر تقوية وتثبيتاً للمصداق الأول، يمكن دفعه، فيقال جواباً عن الدليل:

أولاً: إن الاستدلال المذكور مبني على الالتزام بتفسير الأبتر بأنه المقطوع النسل، أو من لا عقب له، كما عرفت ذلك في كلمات صاحب المفردات، وليكن ذلك بناءً على حصول النقل في اللفظ ليحمل على هذا المعنى، وهو تام.

إلا أنه لو بني على توسعة المفهوم المذكور، ليكون المقصود منه كل من أصابه نقص وحرمان، فإنه يقال له أبتر، ولا ريب أن انقطاع النسل والذرية أحد مصاديق النقصان والحرمان، وعليه فيكون المفهوم واسعاً له مصاديق متعددة.

ووفقاً للمعنى الثاني لن تكون الآية الشريفة مختصة بمن نزلت فيه، بل سوف تكون مفيدة قاعدة عامة، بملاحظة أن الشانئ هو مطلق العدو والمنتقد، فيكون المعنى أن كل من عاداك يا رسول الله(ص)، أو انتقدك فهو محروم من الخير الكثير، ويدخل عليه النقص، لأنه مقطوع عن الخير الكثير.

والمعنى الواسع الذي جعلناه لمفهوم الأبتر ينسجم مع بقية المصاديق الأخرى التي ذكرت بياناً للمقصود من الخير الكثير، وهذا يساعد على القبول بما ذكرناه، بخلاف حمله على المعنى الأول.

ثانياً: إن النصوص المستفيضة والواردة في كتب الفريقين والتي تتحدث عن نهر الكوثر الذي في الجنة، تعتبر منافية للدليلين السابقين لإثبات كون المقصود به الذرية والنسل الكثير.

ولا يتوهم أحد أن دلالتها على تفسير الكوثر الوارد في الآية الشريفة بالنهر، يجعلها منافية للكتاب، لتسقط بمخالفتها إليه، لأن السنة الشريفة قابلة لتخصيص العموم الكتابي، فضلاً عن بيان ما يتصور فيه من إجمال، ورفع ما يكون فيه من غموض، ومقامنا من هذا القبيل.
ومنه يتضح جواب الأمر الأول مما ذكر في المانع من عدم القبول بتفسير الآية بالذرية والنسل الكثير، فلاحظ.

على أن وجود هذه النصوص المباركة، يشكل مانعاً من القبول بالتفسير المذكور، كما لا يخفى.

وأما الجواب عما جعل مانعاً من رفض تفسيرها بهذا المانع، فيلزم القبول به:
إنه لا يعتبر في السورة القرآنية أن تكون ذات هدف واحد، بل يمكن أن تكون السورة متعددة الهدف، وهذا أمر موجود فيها، فلا يوجد ما يمنع من تعدد الأهداف في السورة الواحدة، مضافاً إلى أن مسألة وحدة الهدف لا تعدّ حقيقة قطعية جزمية، بل هي مسألة ظنية محتملة في أن يكون الهدف من نزول السورة المباركة معالجة الموضوع المعين، وأما أنها قضية قطعية بصورة جزمية فلا. ولأنها قضية ظنية محتملة، يذكر عادة أن الأفضل أن يكون للسورة هدف واحد، إلا أن ذلك لا يمنع تعدده كما عرفت[9].
ومع عدم القبول بترجح المصداق الأول من المصاديق المذكورة، يبقى احتمال إرادة أي واحد مما ذكر وارداً، خصوصاً وأنه لا يوجد ما يوجب ترجحه على البقية، وعليه سوف يقرر أن الكوثر وفقاً للمفهوم القرآني مجمل من ناحية المصداق، إلا أنه بمعونة النصوص الشريفة، يتحدد في كونه مرتبطاً بعالم الآخرة.

ويساعد على كون المقصود من الكوثر في الآية هو الأمر المرتبط بعالم الآخرة، ليكون المراد منه نهر في الجنة، تعبير السورة المباركة، فقد ورد فيها: أعطيناك، ولم يرد التعبير أتيناك، وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره إلى منشأ استعمال هذا التعبير دون ذاك، فذكر أمرين:

أحدهما: أن الإيتاء أعم من الوجوب والتفضل، فكما يحتمل أن يكون منشأ إيتائه أمراً لازماً من حيث الاستحقاق، فإنه يحتمل أن ينشأ تفضلاً من الباري سبحانه وتعالى. وهذا بخلاف الإعطاء فإنه ينحصر في خصوص التفضل، ولا يكون متضمناً للاستحقاق أصلاً. وعليه، فسوف يكون معنى قوله تعالى:- (إنا أعطيناك الكوثر)، الإشارة إلى أن هذه الخيرات الكثيرة محض تفضل منه سبحانه تعالى إلى نبيه الأكرم محمد(ص)، وليس استحقاقاً له(ص)[10].

ومن المعلوم أن التفضل عادة ما يكون فيه نحو امتياز للمتفضل عليه بما تفضل به عليه، وهذا يستوجب أن لا يكون المتفضل به على رسول الله(ص) مساوياً لما يتفضل به على غيره، بل يلزم أن يكون ذلك الشيء أمراً مغايراً، ما يبعد أن يكون شيء من ذلك مرتبطاً بمصاديق الدنيا.

ومما ذكرنا يتضح أن هناك ثمرة كبرى في كون الإعطاء للكوثر تفضلاً وليس استحقاقاً، مضافاً إلى أن التعبير بالإعطاء يفيد التمليك، ومن الواضح أن التمليك يفيد الاختصاص، فيكون للمالك حق التصرف فيه بما يشاء، وليس لأحد حق التدخل فيه.
ثانيهما: يختلف الأمر المتفضل به على الأمر المعطى من حيث قابلية الأمر المتفضل به على الدوام والاستمرار، دون الأمر المعطى، فقد يكون محدوداً بمدة زمنية تنهي بانتهائها[11].

الكوثر في الآخرة:

مما يتفق عليه المسلمون وجود الكوثر في عالم القيامة، وبه وردت نصوص غير قليلة في مصادرهم الحديثية، نعم وقع الخلاف بينهم في بعض المصاديق المرتبطة به، مثل كونه نهراً أو حوضاً، وهل يكون في القيامة وقبل الدخول إلى الجنة، أم أنه يكون في الجنة بعد الانتهاء من محكمة القيامة. نعم المشهور بينهم بل المستفيض على أنه نهر في الجنة، وهذا يعالج الكثير من الاختلافات الواقعة بينهم في الموضوع.

الكوثر في التراث الروائي:

ورد ذكر الكوثر في النصوص، وكما سمعت أنها مستفيضة في كتب الفريقين، فقد روى ابن عباس قال: لما نزل على رسول الله(ص):- (إنا أعطيناك الكوثر)، قال له علي بن أبي طالب: ما هو الكوثر يا رسول الله؟ قال: نهر أكرمني الله به، قال علي: إن هذا النهر شريف فانعته لنا يا رسول الله، قال: نعم يا علي، الكوثر نهر يجري تحت عرش الله تعالى، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، وحصاه الزبرجد والياقوت والمرجان، حشيشه الزعفران، ترابه المسك الأذفر، قواعده تحت عرش الله عز وجل. ثم ضرب رسول الله(ص) يده في جنب علي أمير المؤمنين(ع)، وقال: يا علي إن هذا النهر لي ولك ولمحبيك من بعدي[12].

ومثله ما رواه أيضاً أن النبي(ص) قال: إن الله عز وجل أعطاني نهراً في السماء مجراه تحت العرش، عليه ألف ألف قصر، لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، حشيشها الزعفران، ورضراضها الدر والياقوت، وأرضها المسك الأبيض، فذلك خير لي ولأمتي، وذلك قوله تعالى:- (إنا أعطيناك الكوثر)[13].

واختلاف الوصف للنهر لا يوجب المعارضة بين النصوص، لإمكانية التوفيق والجمع بينها، على أساس أنه(ص) ليس بصدد استقصاء جميع ما له من مواصفات، وإنما هو بصدد عرض جملة منها على نحو التشويق للمستمع، فلاحظ.

وكيف ما كان، فإنه يمكن أن تصنف النصوص المتضمنة للحديث عن الكوثر بلحاظ ما تضمنته وصفاً لحقيقته، وبياناً لمميزاته إلى طائفتين:

الأولى: ما تضمنت أن الكوثر حوض في القيامة:
منها: ما رواه أبو الورد عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع) أنه قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد من الأولين والآخرين، عراة حفاة، فيوقفون على طريق المحشر حتى يعرقوا عرقاً شديداً، وتشتد أنفاسهم فيمكثون كذلك ما شاء الله، وذلك قوله تعالى:- (فلا تسمع إلا همساً). قال: ثم ينادي مناد من تلقاء العرش: أين النبي الأمي؟ قال: فيقول الناس قد أسمعت كلا فسم باسمه، قال: فينادي: أين نبي الرحمة محمد بن عبد الله، قال: فيقوم رسول الله(ص) فيتقدم أمام الناس كلهم حتى ينتهي إلى حوض طوله ما بين أيلة وصنعاء، فيقف عليه ثم ينادي بصاحبكم فيقوم أمام الناس فيقف معه، ثم يؤذن للناس فيمرون. قال أبو جعفر(ع): فبين وارد وبين مصروف فإذا رأى رسول الله(ص) من يصرف عنه من محبينا أهل البيت بكى، وقال: يا رب شيعة علي، يا رب شيعة علي، فيبعث الله عليه ملكاً فيقول له: ما يبكيك يا محمد؟ قال: وكيف لا أبكي لأناس من شيعة أخي علي بن أبي طالب أراهم قد صرفوا تلقاء أصحاب النار ومنعوا من ورود حوضي؟ قال: فيقول الله عز وجل له: يا محمد إني قد وهبتهم لك، وصفحت لك عن ذنوبهم، وألحقتهم بك وبمن كانوا يتولون من ذريتك وجعلتهم في زمرتك، وأوردتهم حوضك، وقبلت شفاعتك فيهم، وأكرمتك بذلك[14].

ومنها: وما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر(ع) قال في قوله عز وجل:- (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه)، الآية، قال: النبي(ص) تحشر امتي يوم القيامة حتى يردوا عليّ الحوض فترد راية إمام المتقين وسيد المسلمين وأمير المؤمنين، وخير الوصيـين وقائد الغر المحجلين، وهو علي بن أبي طالب، فأقول: ما فعلتم بالثقلين بعدي؟ فيقولون: أما الأكبر فتبعنا وصدقنا وأطعنا، وأما الأصغر فأحببنا ووالينا حتى هرقت دماؤنا، فأقول: رووا رواءاً مرويـين مبيضة وجوهكم الحوض، وهو تفسير الآية[15].

ومنها: ما رواه أبو ذر الغفاري(رض) قال: قال رسول الله(ص) يرد علي الحوض راية أمير المؤمنين وإمام الغرّ المحجلين، فأقوم فآخذ بيده فيبيض وجهه، ووجوه أصحابه، فأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: اتبعنا الأكبر وصدقناه، ووازرنا الأصغر ونصرناه، وقتلنا(قاتلنا)معه، فأقول: رووا رواءاً مرويـين، فيشربون شرية لا يظمؤون بعدها، وجه إمامهم كالشمس الطالعة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر، وكأضوء نجم في السماء[16].

ومن المعلوم أن الورود عليه(ص) سوف يكون في عرصة القيامة، فيكون الحوض في ذلك الموقف.

وبالجملة، إن المستفاد من هذه النصوص أن نهر الكوثر يكون في عرصة القيامة، ولا يرد كل أحد من الناس، وإنما ترده فئة محددة منهم، وهم خصوص من يتولى علياً وآل بيته الطاهرين(ع). ومقتضى هذا أن هناك من يمنع من الوصول إليه، وهذا ما تضمنته نصوص الفريقين، فقد جاء فيها أنهم يذاذون عن الحوض يوم القيامة، ويمنعون من الوصول إلى رسول الله(ص)، فعن ابن أبي مليكة قالت أسماء، عن النبي(ص) أنا على حوض أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني، فأقول: أمتي، فيقال: لا تدري مشوا القهقراء[17].

الثانية: ما تضمنت أن الكوثر نهر في الجنة:

منها: ما رواه أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله(ص) فقال: قد أعطيت الكوثر. فقلت: يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب، لا يشرب أحد منه فيظمأ، ولا يتوضأ أحد منه فيشعث، لا يشربه إنسان أخفر ذمتي وقتل أهل بيتي[18].

منها: ما رواه ابن عباس، في قوله تعالى:- (إنا أعطيناك الكوثر)، قال: نهر في الجنة عمقه في الأرض سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، شاطئاه من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خص الله به نبيه وأهل بيته(ع) دون الأنبياء[19].

منها: ما عن حمران بن أعين، عن أبي عبد الله(ع) قال: إن رسول الله(ص) صلى الغداة ثم التفت إلى علي(ع) فقال: يا علي، ما هذا النور الذي أراه قد غشيك؟ قال: يا رسول الله، أصابتني جنابة في هذه الليلة، فأخذت بطن الوادي ولم أصب الماء فلما وليت ناداني مناد: يا أمير المؤمنين، فالتفت فإذا خلفي إبريق مملوء من ماء فاغتسلت، فقال رسول الله(ص): يا علي، أما المنادي، فجبرئيل، والماء من نهر يقال له الكوثر، عليه اثنا عشر ألف شجرة، كل شجرة لها ثلاثمائة وستون غصناً، فإذا أراد أهل الجنة الطرب هبت ريح فما من شجرة ولا غصن إلا وهو أحلى صوتاً من الآخر، ولولا أن الله تعالى كتب على أهل الجنة أن لا يموتوا لماتوا فرحاً من شدة حلاوة تلك الأصوات، وهذا النهر في جنة عدن، وهو لي ولك ولفاطمة والحسن والحسين، وليس لأحد فيه شيء[20].
وهذه النصوص تفسر النصوص التي تضمنت ذكر نهر الكوثر دون تحديد لموضوعه، لأنه لا يستفاد منها تعدد النهر، بل الظاهر أنه واحد، فالإيهام في تحديد موضعه في بعضها، يرفعه البيان الذي تضمنته النصوص الأخرى.

ومع دلالة النصوص السابقة على أن موضع نهر الكوثر في الجنة، فقد دلت أيضاً على أنه من مختصات النبي(ص) وأهل بيته الطاهرين(ع)، وأنه لا يشاركهم فيه أحد، لهم حق التصرف المطلق فيه.

ويظهر من الطائفتين وجود مغايرة بين العنوانين، فقد تضمنت الطائفة الأولى التعبير بالحوض، بينما عبرت الثانية بالنهر، ومن المعلوم مقدار الفرق بينهما، كما أن الأولى منهما حددت موضعه بعرصة القيامة كما أشرنا، ونصت الثانية على أن موضعه في جنات عدن. نعم هناك يشتركان تقريباً في صفات مائه، أو يتقاربان فيها.

كما أن المستفاد من النصوص، أن نهر الكوثر من مختصاته(ص)، وأهل بيته الطاهرين(ع)، وهذا يعطيه حقاً في أن يتصرف فيه كيفما شاء فيعطي من يشاء ويمنع من يريد، وهذا بخلاف حوض الكوثر، فإنه وإن كان أمره بيده(ص)، إلا أن سقياه شخصاً مشروط بولايته لأمير المؤمنين(ع)، لا مطلقاً.

ولو قيل أن الحوض والنهر متفقان من هذه الناحية، خصوصاً وأنه لا يمكن أن يدخل الجنة من يبغض علياً(ع)، أو لا يواليه، فيكون الذي سوف يسقى من نهر الكوثر موالياً أيضاً كالذي سوف يسقى من الحوض أيضاً.

قلت، بأن ما ذكر صحيح، إلا أنه ليس كل من دخل الجنة سوف يسقى من نهر الكوثر، وإنما يسقى منه خصوص فئة معينة، ويكون ذلك بعناية خاصة ينتخبهم ويختارهم النبي الأكرم(ص).

والحاصل، لا يوجد شيعي لا يسقى من حوض الكوثر، لكن ليس كل شيعي سوف يشرب من نهر الكوثر.

صاحب الحوض:

قد عرفنا أن نهر الكوثر يكون لرسول الله(ص)، وأنه الذي يتولى التصرف فيه فيقوم بسقي من يرغب، فمن هو صاحب حوض الكوثر الذي يكون في عرصة القيامة؟
لا ريب في أن حوض الكوثر مما أعطيه النبي الأكرم محمد(ص)، إلا أن الذي يتولى السقيا فيه هو أمير المؤمنين(ع)، كما نصت على ذلك نصوص عديدة، فعن الصادق(ع) عن آبائه(ع)، قال: قال رسول الله(ص): من أراد أن يتخلص من هول يوم القيامة فليتول وليي، وليتبع وصيي، وخليفتي من بعدي علي بن أبي طالب، فإنه صاحب حوضي يذوذ عنه أعداءه، يسقي أوليائه، فمن لم يسق منه لم يزل عطشاناً ولم يرو أبداً، ومن سقي منه شربة لم يشق ولم يظمأ ابداً[21].

فائدة الشرب من الحوض:

ولا تنحصر فائدة شرب الإنسان من حوض الكوثر في خصوص ما تضمنته النصوص، من رفعه للظمأ، فلا يصاب من يشرب منه بظمأ أبداً، بل هناك غاية وفائدة أخرى ترتجى من الشرب منه، بل هي مقصودة أيضاً، وهي أن الهدف من شرب الإنسان منه، كي ما يكون دخوله للجنة نقياً طاهراً مطهراً من كل الكدورات والشوائب، والذي يحقق هذه العملية التطهيرية والتنقوية، هو حوض الكوثر، بحيث إذا شرب الإنسان منه، صار مهيأ لدخول الجنة نقياً طاهراً مطهراً من كل الكدورات[22].

[1] سورة الكوثر.
[2] التفسير الكبير ج 32 ص 117.
[3] بحار الأنوار ج 8 باب صفة الحوض وساقيه(ص) ص 16-17.
[4] التفسير الكبير ج 32 ص 124.
[5] سورة الكوثر آية رقم 3.
[6] سورة البقرة الآية رقم 269.
[7] مجمع البيان ج 6 ص 251 .
[8] مفردات ألفاظ القرآن مادة بتر ص 107.
[9] منة المنان في تفسير القرآن ج 1 ص 209-212(بتصرف)
[10] التفسير الكبير ج 32 ص 122-123.
[11] المصدر السابق.
[12] بحار الأنوار باب صفة الحوص وساقيه(ص)، ح 2 ص 18.
[13] المصدر السابق ح 3.
[14] المصر السابق ح 1 ص 17.
[15] المصدر السابق ح 18 ص 24.
[16] المصدر السابق ح 19 ص 24.
[17] صحيح البخاري كتاب الفتن، باب 92 ما جاء في قوله تعالى:- (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ح 7050.
[18] المصدر السابق ح 20 ص 24.
[19] المصدر السابق ح24 ص 25.
[20] بحار الأنوار باب صفة الحوض وساقيه(ص) ج 8 ح 27 ص 26.
[21] أمالي الصدوق المجلس 47 ح 6 ص 230.
[22] المعاد ج 2 ص 286.