28 مارس,2024

الشفاعة التشريعية

اطبع المقالة اطبع المقالة

لم يغلق الباري سبحانه تعالى باب الرحمة في وجوه العصاة والمخالفين لأوامره، والمتمردين عليه، بل فتح لهم ما يوجب نيل الرحمة الإلهية، فأعطاهم في الدنيا قانون الاستغفار، فيمكن للعاصي منهم أن يستغفر ربه سبحانه وتعالى ويعود إلى رشده بترك ما كان يعمل من معصية، ويحصّل رضا الله تعالى، كما فتح لهم باب التوبة، فصار بإمكان الفرد منهم أن يتوب في أي لحظة من لحظات حياته توبة نصوحاً، ليكون حظياً عنده سبحانه.

وكما أنه سبحانه وتعالى أوجد أبواب الرحمة الواسعة لهؤلاء في عالم الدنيا، فقد جعل لهم وللمطيعين أيضاً باباً آخر في عالم الآخرة، وهو الشفاعة، فيمكن لأهل المعصية أن يُشفع لهم فتدركهم الرحمة الربانية، كما أن المطيعين أيضاً لهم نصيب من هذه الشفاعة، ليزدادوا درجات وعلواً في مقاماتهم ورتبهم في الجنة.

وتعتبر الشفاعة أحد أصول الإسلام، كما أن أنها إحدى المعارف القرآنية، وهي محط اتفاق بين المسلمين، نعم قد وقع الخلاف بينهم في بعض خصوصياتها، مثل:

1-تحديد من تكون له الشفاعة، فأختار المعتزلة حصر ذلك في المطيعين، دون العاصين، وهذا يعني أن الشفاعة تختص بزيادة الثواب، ولا تشمل رفع العقاب، وعليه سوف تكون شفاعة رسول الله(ص) يوم القيامة مختصة بهم فقط. بينما أختار الاشاعرة والإمامية سعتها، لتكون شاملة للمطيعين والعاصين جميعاً، فكما أنها توجب زيادة الثواب، فإنها توجب رفع العقاب أيضاً، لأن شفاعته(ص) قد أذخرها لأهل الكبائر من أمته.

2-تحديد آثار الشفاعة، وأنها توجب إسقاط العقاب عن الفساق، أم أنها توجب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب.

حقيقة الشفاعة:

يستفاد من كلمات أهل اللغة أن الشفاعة مأخوذة من مادة شفع، وهي مقابل الوتر، وتعني: الانضمام إلى آخر، ناصراً له، وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى[1].

ولا يخفى أن التعريف المذكور يشمل الشفاعة العقلائية أيضاً التي ترتبط بالجوانب العرفية والاجتماعية، وهي التي تعني توسط بعض الأفراد لآخرين من أجل أمور ترتبط بالمتوسط إليه، كما لو كان مطلوباً بدم نتيجة قتل، أو مطلوباً بمال نتيجة دين أو ما شابه، أو تتضمن طلب رفع مرتبة وإعلاء منصب، بل حتى زواج، وما شابه، فلاحظ.

ولم يختلف معناها الاصطلاحي عما ذكره اللغويون، فنجد أن السيد العلامة الطباطبائي(قده)، يذكر أنها مأخوذة من الشفع مقابل الوتر، كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع، فيصير به زوجاً بعد ما كان فرداً، فيقوى في نيل ما يريده، لما لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها[2].

ويتضح من خلال ما ذكر بياناً لحقيقتها أن لها أطرافاً أربعة، وهي:

1-الشفيع، وهو الذي يتولى القيام بالوساطة عند المشفوع لديه.

2-المشفوع فيه، وهو الذي يرغب أن يعطى شيئاً، سواء كان رفع منـزلة وزيادة رتبة، أم كان رفع عقوبة، ودفع نقمة.

3-المشفوع لديه، وهو الحاكم الذي يكون له الولاية والمالكية في تطبيق القانون والمجازاة.

4-غرض الشفاعة، سواء كان رفعاً لعقوبة، أم زيادة حسنة ورفع منـزلة.

نعم لا يعتبر أن يكون الشافع واحداً، فيمكن أن يكون متعدداً، فلاحظ.

الشفاعة في القرآن:

ثم إنه يلزم تحديد الشفاعة التي تكون مورداً للبحث، خصوصاً وأنك قد سمعت وقوع الخلاف في بعض مفرداتها بين المسلمين، كما بين الشيعة الإمامية(أعلى الله كلمتهم)، وأنار برهانهم، وبعض الفرق الإسلامية، حيث أنكر هؤلاء وجود شفاعة للشفعاء يوم القيامة.

وعند الرجوع للآيات الشريفة، يقف القارئ على عرض ثلاثة أنواع للشفاعة:

الأول: الشفاعة في نظام التكوين، وتعرف بالشفاعة التكوينية، ويقصد بها توسط العلل والأسباب بينه سبحانه وتعالى وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله لمسببه بالتمسك بصفات فضله وجوده لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة[3].

وقد أشير إليها في قوله تعالى:- (إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون)[4]، والمراد من الشفيع هو الأسباب والعلل المادية الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحققها، وإنما سميت العلة شفيعاً لأجل أن تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه، فهي مشفوعة إلى إذنه، حتى تؤثر وتعطي ما تعطي[5].

الثاني: الشفاعة في نظام التشريع، أي في عالم الأوامر والنواهي والتبعات، إذ بعدما بيّن الله سبحانه وتعالى الأوامر والنواهي، وبيّن الثواب والعقاب، فإنه يمكن أن يرفع الله سبحانه وتعالى تبعات العقاب الذي يستحقه العبد العاصي، نتيجة امتناعه عن امتثال ما أمر به، أو اتيانه ما قد نهي عنه، كما يمكن أن تزاد درجات المطيع وترفع مرتبته، ويزاد في ثوابه[6].

وبالجملة، إن حقيقة هذه النوع، أن تصل رحمته سبحانه وتعالى ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوة عباده، قال تعالى:- (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تاباً رحيماً)[7]، ويكون ذلك في يوم القيامة[8].

الثالث: الشفاعة القيادية، ويقصد بها قيام خلفاء الله سبحانه وتعالى في الأرض من الأنبياء والرسل والأئمة والأوصياء(ع) وكذا الكتب السماوية مقام الشفيع، وتكون الشفاعة للبشر بتخليصهم من عواقب أعمالهم وسيئات أفعالهم، من خلال منعهم من الوقوع في ذلك.

وهذا النوع من الشفاعة يشبه الوقاية من المرض قبل الإصابة به، وليس علاج المرض بعد حصوله[9].

ولا يخفى أن الذي يرتبط بمحل كلامنا من الأنواع الثلاثة، هي الشفاعة التشريعية، فإنه بعدما اتضحت الأوامر والنواهي، وبعدما تبين الثواب والعقاب، يقع الكلام في مدى إمكانية رفع العقاب المترتب على المخالفة الحاصلة من العبد لفعله ما قد نهي عنه، أو لامتناعه عن فعل ما قد أمر به، أو أن تزاد درجات الثواب التي يستحقها المطيع لكونه قد أمتثل ما أمر به وقام بأدائه، وأطاع ربه، وعدمه.

الشفاعة التشريعية:

ثم إنه بعدما تم تحديد مورد البحث، وأنه خصوص الشفاعة التشريعية، فلنشر لبعض الآيات التي جاءت حولها في القرآن الكريم، فمنها: قوله تعالى:- (فما لنا من شافعين)[10]، وهذا الآية المباركة تشير إلى مطلبين:

الأول: اشتمالها على وجود الشفعاء في يوم القيامة، لأن الحديث عن تحسر من عنتهم الآية في عدم حصولهم على الشفعاء الذين قد حصل عليهم غيرهم.

الثاني: تحسر الذين تحدثت عنهم الآية المباركة على حرمانهم من شفاعة الشافعين.

وبعبارة أخرى، إن الحسرة التي كشف عنها من تحدثت الآية المباركة عنهم بعدم حصولهم على شفاعة الشافعين، يكشف بصورة واضحة عن وجود شفعاء في يوم القيامة، وإلا لو لم يكن الأمر كذلك، لم يكن معنى لأن يتحسر هؤلاء على ذلك، فتدبر.

ومنها: قوله تعالى:- (قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا)[11]، فقد تضمنت هذه الآية الشريفة، طلب أهل النار أمراً من أمرين عرضوهما، كان الأول منهما الحصول على شفاعة الشفعاء، وهذا كما في الآية السابقة، فإنه كما يثبت وقوع الشفاعة التشريعية في عرصة القيامة، فإنه يكشف عن وجود الشفعاء في ذلك الموقف أيضاً، فلاحظ.

ومنها: قوله تعالى:– (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)[12]، وهي لا تختلف عن الآيتين السابقتين عليها في الدلالة، فتدبر.

تصنيف آيات الشافعة التشريعية:

هذا وقد يعترض على هذا النوع من الشفاعة، فيلتـزم بنفيه، على أساس وجود المعارضة بين الآيات القرآنية المتعرضة للحديث عنه، إذ يمكن تصنيف الآيات المباركة المرتبطة به إلى صنفين:

الأول: ما يخص هذا النوع من الشفاعة بالذات المقدسة، بحيث يفيد نفيه عن كل أحد ما سواه سبحانه وتعالى.

الثاني: ما يدل على ثبوت هذا النوع من الشفاعة لمجموعة من الشفعاء غير الله تعالى، وأن شفاعتهم مقبولة لديه عز وجل، على أن تتوفر شروط في الشافع والمشفوع له.

فمن الصنف الأول، قوله تعالى:- (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)[13]، وكذا قوله سبحانه:- (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع)[14]، ومثله أيضاً قوله عز من قائل:- (قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السماوات والأرض)[15]، فإن المستفاد من هذا الآيات الشريفة حصر هذا الأمر في خصوص الذات المقدسة، وأنه لا يمكن لأحد أن يقوم بهذا العمل سواهه سبحانه وتعالى.

ومن الصنف الثاني، قوله تعالى:- (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً)[16]، وقوله تعالى:- (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً)[17]، وقوله سبحانه:- (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)[18]. فإن الظاهر منها أن هناك شفعاء يتصدون للشفاعة في ذلك الموقف، وأنهم مقبولون الشفاعة عنده سبحانه وتعالى.

والحاصل، لا ريب في وقوع المعارضة بين الصنفين من الآيات الشريفة، وقد دعى هذا بعضهم إلى انكار ثبوت هذا النوع من الشفاعة، حذراً من القول بوجود المعارضة بين الآيات المباركة.

ولا يذهب عليك، أنه إنما يصار إلى ذلك إذا لم يمكن التوفيق بين الصنفين من الآيات، وإلا فمع إمكانية ذلك، لا موجب لرفع اليد عن ثبوت هذا النوع من الشفاعة.

علاج المعارضة المتصورة:

وقد ذكرت علاجات عديدة لذلك في كلام الباحثين والمفسرين، والأعلام، نشير إلى اثنتين منها:

الأولى: وهو مختار أغلب الأعلام، وحاصله، الالتزام بثبوت الصنفين من الآيات، لكن على نحو الأصالة وعلى نحو الإذن والتبعية، فالصنف الأول، وهو المختص به سبحانه وتعالى صادر بنحو الأصالة، وأما الصنف الثاني، فهو من باب التبعية له، والإذن والتمليك منه تعالى. لأن المؤثر الأصل في الكون كله على نحو الاستقلال هو الباري سبحانه وتعالى، ولا يوجد مؤثر على نحو الاستقلال سواه تعالى، وإنما يكون تأثير غيره تابع لإرادته ومشيئته. فالشفاعة التي تعني فيضاً إلهياً منه تعالى على عباده بتخليصهم من شوائب المعاصي وتطهيرهم من الذنوب، فعل مختص به سبحانه وتعالى بالأصالة، لكن يصح نسبته إلى غيره بالتبعية، والإذن والتمليك منه عز وجل[19].

الثانية: وهي تخالف الأولى تماماً، إذ أنها تقرر حصر كل تصرف في شأن الوجود والكون فيه سبحانه وتعالى، وأنه لا يوجد متصرف فيه سواه، حتى بنحو التبعية والإذن منه عز وجل، فلا يوجد ولايتان، ولاية ذاتية أصلية له سبحانه، وولاية عرضية تكون لغيره، بل الموجود هو ولاية واحدة فقط له سبحانه وتعالى، وما يكون من وجودات وتصرفات صادرة من غيره من المخلوقات عنه، إنما هي مظاهر وتجليات لخالقيته تعالى، وتدبيره وولايته سبحانه وآمريته. وتفسر الأفعال الصادرة عنهم بنحو الصورة المرآتية، لأن نسبة ذلك للمخلوقات بما هي ظهور لخالقية الله تعالى، فكل ما تملك هذه المخلوقات وتمام ما يوجد لديها، إنما هو إراءة لما هو موجود له سبحانه، فهو المالك القادر وما يكون عند الإنسان فهو من عنده[20].

وطبقاً لهذه المعالجة، لن يكون بين الصنفين معارضة، ذلك لأن الصنف الأول، يحكي الأمر كما هو، ويشير الصنف الثاني إلى الصورة المرآتية، بحيث أن الشفاعة الصادرة عن الشفعاء المأذون لهم، ليس أمراً مستقلاً عن الذات المقدسة، بل هو شفاعة الذات نفسها، لكنه قد تجلى بنحو المرآة في الشفعاء، فتدبر.

فعل الشافع وحقيقته:

ثم إنه لما كان الحديث عن الشفاعة، لابد وأن ينجر البحث للحديث عن فعل الشافع وحقيقته، الذي يرفع به ذنب المذنب، أو يزيد به درجة المحسن.

ويلزم قبل بيان ذلك التأكيد على نقطتين:

الأولى: أن الشفاعة التشريعية تختص بأفراد محددين معينين، قد أجاز الله سبحانه ذلك إليهم، وهو تعالى وإن لم يذكرهم بأسمائهم، إلا أنه قد أشار إليهم من خلال صفاتهم التي ذكرها في الآيات الشريفة. ومقتضى ما ذكر، أن الشفاعة ليست ثابتة لكل أحد، فلاحظ.

الثانية: إن طلب الشافع الشفاعة يكون وفق نظام وقانون ثابت وضوابط مرعية، فلا يتوهم أحد أن ذلك يكون دونما حد أو أساس، ليكون جزافاً[21].

وبعد الإحاطة بالمقدمتين السابقتين، فقد ذكر في الكلمات، وجود نظريتين في حقيقة فعل الشافع، والإنصاف، أنه لا يكاد يجد القارئ فرقاً بينهما، إلا من حيث أن النظرية الثانية أوسع من النظرية الأولى، وهذا يساعد على كون النظريتين واحدة، فلاحظ.

وهما تتفقان في أن الشفاعة لا تعني إبطال شيء من القوانين التي ثبتت بالأدلة، فليس للشفيع الحق أن يطلب من الباري سبحانه وتعالى أن يبطل مولوية نفسه، وعبودية العبد، كي لا يعاقبه، كما لا يمكن للشافع أن يطلب من المولى سبحانه وتعالى أن يرفع يده عن الأحكام المشرعة والتكاليف المجعولة، أو أن يطلب منه أن ينسخ ما شرع من قوانين ومقررات، أو على الأقل أن ينفي التكليف المجعول ولو في هذا المورد عن خصوص هذا العبد الذي يودّ الشفاعة إليه.

كما ليس له أن يسأل منه إلغاء قانون المجازاة، لا بنحو الموجبة الكلية ليلغى عن جميع الموجودات، ولا بنحو الموجبة الجزئية لينحصر الأمر في خصوص من يريد الشفاعة إليه، كي لا يعاقب إما رأسا، أو في خصوص هذه الواقعة التي خالف فيها فاستحق العقوبة عليها[22].

وبالجملة، إن حقيقة فعل الشافع لا تعني تعطيل شيء مما يكون مرتبطاً بالوضع الكوني والنظامي، وإنما يكون فعله أمراً خارجاً عن هذه الأمور، فهو في الحقيقة إمضاء لما هو ثابت، وإنما محاولة الاستفادة من جوانب أخرى، فتدبر.

وأما النظريتان التي ذكرت في البين، فهما:

النظرية الأولى: وهي التي تقرر أن الشافع يستفيد من طريقين:

1-صفات الحاكم سبحانه وتعالى، التي توجب العفو والصفح، مثل: سؤدده وكرمه وسخائه وما شابه ذلك.

2-صفات العبد الذي يراد الشفاعة إليه، وهي الصفات التي تدعو للشفقة عليه، والرأفة به، وتثير عوامل المغفرة عنه، مثل: ذلة العبد، ومسكنته، وسوء حاله، وما شابه ذلك[23].

فلو أراد الشافع الاستفادة من صفات الحاكم، فإنه يقوم بين يدي العدل الحكيم،، ويتكلم إليه بما له من صفات الرحمة والكرم والسخاء، ليكون العبد المشفع فيه مشمولاً بهذه الصفات.

وقد يكون قيامه بين يدي الله تعالى، على أساس صفات العبد الضعيف الفقير الحقير الذي يحتاج عوناً وإعانة وإغاثة من المعين والمغيث سبحانه وتعالى.

وقد أشير لهذين الطريقين في الأدعية الصادرة عن المعصومين(ع) كثيراً، فلاحظ دعاء أبي حمزة الثمالي المروي عن الإمام زين العابدين(ع)، فقد أشار للطريق الأول، بقوله(ع): يا حليم يا كريم يا حي يا قيوم يا غافر الذنب، يا قابل التوب، يا عظيم المن، يا قديم الإحسان.

وأشار إلى الطريق الثاني، بقوله(ع): سيدي، أنا الصغير الذي ربيته، وأنا الجاهل الذي علمته، وأنا الضال الذي هديته، أنا الوضيع الذي رفعته، وأنا الفقير الذي أغنيته، والضعيف الذي قويته، والذليل الذي أعززته، والسائل الذي أعطيته.

ونجد الإشارة لهذين الطريقين أيضاً في دعاء الإمام الحسين(ع) يوم عرفة جلياً واضحاً، فإن قوله(ع): أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، واضح في الإشارة إلى الطريق الثاني.

ولو أن القارئ لدعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين(ع) يقرأه بشيء من التأمل والتدبر، لوجد الطريقين جليـين فيه أيضاً، فلاحظ قوله(ع): اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، فإنه يشير إلى الطريق الأول، كما لا يخفى.

النظرية الثانية: وهي التي ذكرها السيد العلامة الطباطبائي(ره) في ميزانه، وتقوم على أحد أمور ثلاثة بنحو مانعة الخلو، ولا مانع من الجمع بينها جميعاً، وتلك الأمور:

1-الاعتماد على صفات المولى والحاكم سبحانه وتعالى، التي يستفاد منها في استنـزال رحماته، وعطفه وعفوه ومغفرته، من شرافة المحتدّ، وما شابه، كما عرفة في النظرية الأولى.

2-الاستناد إلى حال العبد، من خلال عرض صفاته التي تدعو للعطف عليه، والإحسان إليه، لكونه ضعيفاً ذليلاً مسكيناً، وما شابه ذلك.

3-استفادة الشافع من نفسه ومكانته، فيعمد إلى الاستناد لما لديه من صفات أوجبت قربه عند الله تعالى، وجعلت إليه منزلة لديه، كونه خاتم الأنبياء(ع)، أو سيد الأوصياء(ع)، أو فاطمة الزهراء(ع)، وهكذا.

وقد ذكر تفريقاً بين النظريتين، أن الطريق الثالث لا يعدّ موجباً يستند إليه الشافع في مقام الشفاعة، بل إنه سبب الإذن له بالشفاعة على أساس أنه لولا وجود هذه المنـزلة، وثبوت هذا المقام، لم يكن قابلاً لنيل هذا المنصب..

وبعبارة أخرى، قد عرفت في ما تقدم، أن الشفاعة ليست ثابتة لكل أحد، وإنما هي مختصة بفئة محددة من الناس، وعليه، فيلزم أن يكون المأذون لهم في الشفاعة مالكاً قابلية معينة، وهذا هو معنى الطريق الثالث الذي تضمنته النظرية الثانية، ولهذا لم يعمد إلى ذكره في النظرية الأولى،، على أساس أنه لا يعدّ أحد الطرق التي يستند إليها الشافع، لأنه شرط في حصوله على الإذن ليشفع[24].

وما ذكر وإن كان صحيحاً من أنه ليست الشفاعة لكل أحد، بل تنحصر في خصوص من يملك مقومات وصفات خاصة، إلا أن ذلك لا يعني أن لا يكون للشافع الحق أن يستفيد من تلك الصفات والمقومات الموجودة لديه في الشفاعة، فلاحظ.

هذا وقد يتوهم البعض اختصاص ما عرض من نظريتين لخصوص الشفاعة التي توجب رفع العقاب وعدم وقوعه على العاصي، ولا تشمل ما يوجب زيادة المرتبة والثواب للمحسن.

وهو ممنوع، لأن الاستناد إلى صفات العبد، كما يشمل رفع العقوبة عنه، يشمل زيادة ثوابه ورفع مرتبته، كما أن الاستناد لأي الأمرين الآخرين،، أعني صفات الحاكم، أو صفات الشافع يفيد لذلك أيضاً من دون فرق بينهما، فلاحظ.

أثر الشفاعة:

قد عرفت في مطلع الحديث أنه بعد اتفاق المسلمين على الشفاعة وأنها أصل من أصول الإسلام وواحدة من المعارف القرآنية، إلا أنه وقع الاختلاف بينهم في بعض مفرداتها، وواحدة من تلك المفردات التي وقع الاختلاف بينهم فيها، هي أثر الشفاعة، فهل أن الشفاعة توجب رفع العقوبة عن العبد الذي يكون مستحقاً إليها، أم أن الشفاعة توجب زيادة درجة المحسن ومنـزلته، أم غير ذلك؟

هناك نظريات ثلاث:

الأولى: إن الشفاعة تختص بزيادة الثواب، ولا تشمل إسقاط العقاب، وقد أختار هذه النظرية المعتـزلة، فموضوعها هو خصوص التائبين من المؤمنين، ويكون أثرها هو رفع المقام وزيادة الثواب في الآخرة، وليس الإنقاذ من العذاب والخروج منه.

وقد نشأت هذه النظرية من خلال القول بأن الخلود في النار لا يختص بالكفار والمنافقين،، بل يشمل أصحاب الكبائر من المسلمين أيضاً.

واستدلوا لنظريتهم التي أسسوها بحصر موضوع الشفاعة، ببعض الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:- (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون)[25]. على أساس أن الشفاعة نحو من أنحاء النصرة، ومقتضى شفاعة النبي(ص) لأحد تعني نصرته كما تقدم ذلك في المعنى اللغوي، والآية الشريفة تنفي وجود نصرة لهؤلاء، فيستفاد عدم ثبوت الشفاعة إليهم.

ويساعد على هذا المعنى أيضاً قوله تعالى:– (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك)[26]، فإن تقيـيد المغفرة بالتوبة ومتابعة السبيل، يفيد عدم حصول العاصي على الشفاعة، وإلا لزم من ذلك لغوية هذا التقيـيد كما لا يخفى.

ومع التسليم بتمامية الاستدلال المذكورة، إلا أنه قد تقرر في الأصول إمكانية تخصيص العموم الكتابي بخبر الواحد، وقد تواترت النصوص الشريفة في أنه(ص) قد أذخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وبالتالي يمكن تخصيص هذه الآيات، فلاحظ.

على أن أصل المطلب الذي قامت عليه هذه النظرية، وهو توسعة دائرة الخالدين في النار، يمكن المناقشة فيه، وأنه ليس بهذا النحو من السعة، وتفصيل ذلك يطلب من محله.

الثانية: إن الشفاعة لدفع العقاب وليس لرفعه، وهذا النظرية، تتوافق تماماً مع ما ذكرناه في الشفاعة القيادية التي أشرنا إليها في أنواع الشفاعة في القرآن الكريم.

وقد ذكر في بيان هذه النظرية، ما حاصله: إن الأنبياء والأوصياء والأئمة(ع) يقومون مقام الشفيع في تخليص البشر من عواقب أعمالهم وسيئات أفعالهم، فإنزال الكتب السماوية، وبعث الأنبياء وإرسال الرسل من أجل تعليم الناس وهدايتهم إلى العمل الصالح، وبيان سبل التوبة، والعمل بها، فإن ذلك يكون سبباً لدفع العقاب قبل أن يثبت في حق العبد، لا أن العقوبة تتحقق وتكتب ثم ترفع عنه يوم القيامة بشفاعة الشفعاء[27].

وبعبارة أخرى، إن هذه النظرية تقرر عدم وجود المقتضي للمعصية الموجب للحاجة للشفاعة التشريعية، من خلال إعدام المقدمات التي توجب الوقوع في الذنوب.

والإنصاف، أجنبية هذه النظرية عن حريم البحث، ذلك أن مورد بحثنا هي الشفاعة التي تكون في عالم الآخرة، بينما هذه الشفاعة سوف يكون موضوعها عالم الدنيا، وبالتالي لا مجال للتعويل، عليها، فتدبر.

الثالثة: إن الشفاعة لدفع العقاب ورفعه، فتتفق هذه النظرية مع سابقتها في وجود شفاعة في عالم الدنيا من خلال وجود الحجج الإلهية، متمثلة في الأنبياء والمرسلين والأئمة(ع)، وكذا القرآن الكريم، إلا أنها تقرر وجود شفاعة أيضاً في عالم الآخرة، لأنها لا تقصر الأمر على خصوص الدفع، بمنع وجود المقتضي للمعصية، وإنما تمنع من تأثير المقتضي بعدما وجد. ويشهد لهذه النظرية العديد من الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:- (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً)[28]، فإن استغفاره(ص) لا ينحصر بعالم الدنيا، بل يمكن أن يكون في عالم الآخرة أيضاً، فتكون الآية واضحة الدلالة على هذه النظرية، فتدبر.

ومثل ذلك قوله تعالى:- (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً)[29]، فإن المقصود بقوله(يومئذٍ)أي يوم القيامة، فتكون الآية بصدد الحديث عن الشفاعة التي تقع في ذلك اليوم، وهي التي تكون لأهل المعاصي، فلاحظ. مضافاً إلى العديد من النصوص التي تضمنت أنه(ص) قد أذخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته،، وأنه لكل نبي دعوة مستجابة، وقد خبأ(ص) دعوته شفاعة لأمته من مات منهم لا يشرك بالله شيئاً يوم القيامة، وهذا التعبير يشمل العصاة، بل أصحاب الكبائر عدا المشركين به سبحانه وتعالى.

[1] مفردات ألفاظ القرآن مادة شفع.

[2] الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 157.

[3] المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 94.

[4] سورة يونس الآية رقم 3.

[5] الإلهيات ج 4 ص 342.

[6] المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 102(بتصرف).

[7] سورة النساء الآية رقم 64.

[8] الإلهيات ج 4 ص 344(بتصرف).

[9] الإلهيات ج 4 ص 343.

[10] سورة الشعراء الآية رقم 100.

[11] سورة الأعراف الآية رقم 53.

[12] سورة المدثر الآية رقم 48.

[13] سورة الأنعام الآية رقم 51.

[14] سورة الأنعام الآية رقم 70.

[15] سورة الزمر الآية رقم 44.

[16] سورة مريم الآية رقم 87.

[17] سورة طه الآية رقم 109.

[18] سورة الأنبياء الآية رقم 28.

[19] مجمع البيان ج 4 ص 501، الميزان في تفسير القرآن ج 1 ص 157، ج 17 ص 270، مفاهيم القرآن ج 4 ص 210-212، المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 110.

[20] المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 112-116(بتصرف).

[21] المصدر السابق ص 124-126.

[22] أشار إلى هذا المعنى السيد الطباطبائي(ره) في الميزان فلاحظ ج 1 ص 159.

[23] المعاد رؤية قرآنية 132(بتصرف)

[24] المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 132.

[25] سورة البقرة الآية رقم 48.

[26] سورة غافر الآية رقم 7.

[27] المعاد رؤية قرآنية ج 2 ص 146، الشفاعة بحوث في حقيقتها وأقسامها ومعطياتها ص 117.

[28] سورة النساء الآية رقم 64.

[29] سورة طه الآية رقم 109.