- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

الإمامة

بعد المقدمة التي تعرضناها،وذكرنا فيها تعريفاً حول العقيدة،ثم تحدثنا عن حرية العقيدة،نبدأ من الآن حديثنا حول البحث الذي عقدنا هذه الدروس للحديث عنه،وهو الأمامة.

تعريف الإمامة:

الإمامة:منصب إلهي مجعول من قبل الله،وعهد منه سبحانه وتعالى،كما قال عز وجل في إبراهيم خليل الرحمن(ع):- (إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين)[1].

فكما أن النبوة منصب إلهي مجعول من قبل الله سبحانه وتعالى،فكذلك الخلافة عنها لا محالة.

ولا معنى للخلافة عن النبي(ص)بجعل الناس،فكما أن النبوة ليست مجعولة من قبل الناس،فكذلك الخلافة عنه لا تكون مجعولة من قبلهم.

وهذا يعني أن الخلافة لابد وأن تكون منصوبة من قبل الله سبحانه ورسوله(ص)،فليست الخلافة بعد النبي من الأمور الإختيارية التي يوكل أمرها للأمة لتعين وتنـتخب من تشاء.

فكما أن موسى قال لهارون:- (اخلفني في قومي)[2]،فكذلك قال نبينا محمد(ص)لعلي(ع)في حديث المنـزلة المتواتر نقله عنه في كتب الفريقين:أنت مني بمنـزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.فأثبت لعلي(ع)الخلافة عن نفسه(ص)،وكل منـزلة كانت لهارون بالنسبة إلى موسى إلا النبوة،وبين أن عدم كونه نبياً كما كان هارون،لأجل أن النبوة قد ختمت به،وأنه(ص)خاتم النبيـين.

وبالجملة:إن الإمامة ولاية مسانخة لولاية الله وولاية رسوله(ص)كما قال تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)[3].

وسيأتي الحديث عنها إن شاء الله تعالى مفصلاً.

والحاصل،يمكننا القول بأن الإمامة عبارة عن رئاسة في أمور الدين والدنيا.

والإمام:هو الهادي للأمة بعد رسول الله(ص)،قال تعالى:- (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)[4]،حيث فسرت كما في كتب أهل السنة عن ابن عباس،قال:لما نـزلت هذه الآية وضع رسول الله يده على صدره وقال:أنا المنذر،ولكل قوم هاد،وأومأ بيده إلى منكب علي فقال:أنت الهادي يا علي،بك يهتدي المهتدون بعدي[5].

والإمام:هو حجة الله في أرضه بعد نبيه،وهو الذي عنده علم النبي الذي أوحي إليه،ويقوم مقام النبي في إلقاء تفاصيل أحكام الشريعة والمعارف الإلهية.

الإمامة من أصول الدين:

إن الإمامة كالنبوة من أصول الدين،دون الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين،ويدل على ذلك الحديث النبوي المروي من طريق الفريقين:من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية[6].

وخالف في ذلك أبناء السنة فقالوا بأن الإمامة من الفروع وليست من الأصول،ولسنا هنا بصدد المناقشة لإثبات صحة مدعانا،وخطأ قولهم،فإن ذلك يخرج هذه الدروس عما عقدت لأجله،لكننا نطرح هنا تساؤلاً يحقق الغرض لنفي صحة دعواهم،فنقول:إذا كانت الإمامة من الفروع،فعلاما قتلت النفوس البريئة وسفكت الدماء،لمجرد عدم اقرارهم بإمامة الثلاثة الأول،أليس المخالفة في الفرعيات لا توجب فسقاً فضلاً عن الكفر،بل لا تنافي العدالة،فمن أين جاء الحكم بكفر الشيعة؟وكيف جاز لمعاوية الطاغية أن يلعن علياً على رؤوس الأشهاد بحجة أنه مجتهد وقد أخطئ فله أجر.

هذا وينبغي أن يعلم أن الإمامة وإن كانت عند الشيعة الإمامية من الأصول دون الفروع،لكنها أيضاً من أصول المذهب دون أصول الدين،فمن أنكرها لا يخرج عن دين الإسلام،نعم يخرج عن مذهب الشيعة،فالمنكر على هذا مسلم غير مؤمن،إلا أن ينطبق عليه عنوان آخر كالنصب،والغلو،وانكار ضروري من ضروريات الدين.

والمعروف بينـنا أن الأعمال لا تقبل إلا بولاية أهل البيت(ع)والنصوص عندنا على ذلك كثيرة،بل جعل الولاية جماعة من الأعلام شرطاً في الصحة،وادعى عليه الإجماع.

الإمامة عند الشيعة الإمامية:

ذكرنا أن الإمامة عندنا عبارة عن منصب إلهي،واستمرار لوظائف النبوة كلها سوى الوحي الإلهي،ومقتضى هذا هو إتصاف الإمام بالشروط التي يشترط توفرها في النبي،سوى كونه طرفاً للوحي،وتوضيح ذلك:

لقد كان النبي(ص)يملأ فراغاً كبيراً وعظيماً في حياة الأمة الإسلامية،ولم تكن مسؤولياته وأعماله مقتصرة على تلقي الوحي الإلهي،وتبليغه إلى الناس فحسب،بل كان يقوم بالأمور التالية:

1-يفسر الكتاب العزيز،ويشرح مقاصده وأهدافه،ويكشف رموزه وأسراره.

2-يـبين أحكام الموضوعات التي كانت تحدث في زمن دعوته.

3-يرد على الحملات التشكيكية،والتساؤلات العويصة المريـبة التي كان يثيرها أعداء الإسلام من يهود ونصارى.

4-يصون الدين من التحريف والدس،ويراقب ما أخذه عنه المسلمون من أصول وفروع،حتى لا تزل فيه أقدامهم.

لقد كان النبي(ص)بشخصيته الرسالية يمارس هذه الأمور الأربعة ويملأ بشخصيته المباركة ثغراتها.

ومن الواضح أن رحلة النبي وغيابه(ص)،يخلف فراغاً هائلاً عند الأمة في هذه الأمور الأربعة،مما يعني أن التشريع الإسلامي حينها يقع أمام ثلاثة إحتمالات:

الأول:أن لا يـبدي الشارع إهتماماً بسد هذه الفراغات الهائلة التي ستحدث بعد الرسول،ورأى ترك الأمور لتجري على عواهنها.

الثاني:أن تكون الأمة،قد بلغت بفضل جهود النبي(ص)في إعدادها،مقداراً تقدر معه بنفسها على سد ذلك الفراغ.

الثالث:أن يستودع النبي،كل ما تلقاه من المعارف والأحكام بالوحي،وكل ما ستحتاج إليه الأمة بعده،شخصية مثالية،لها كفاءة تقبّل هذه المعارف والأحكام،فتقوم هي بسد هذا الفراغ بعد رحلته(ص).

ولنأخذ الان بدراسة الإحتمالات الثلاثة لنرى أيها هو الصحيح:

أما الإحتمال الأول،فساقط جداً،لا يحتاج إلى بحث،لكونه لا ينسجم مع غرض البعثة،فإن في ترك سد هذه الفراغات ضياعاً للدين والشريعة وبالتالي قطع الطريق أمام رقي الأمة وتكاملها.

هل كانت الأمة مؤهلة لسد تلك الفراغات:

وأما الإحتمال الثاني،وهو يعتبر منعطفاً مهماً،حيث يوجد من يزعم أن الأمة كانت قادرة على مليء هذه الفراغات.

إلا أن التاريخ والمحاسبات الإجتماعية يـبطلان هذه النظرة،ويضادانها،ويثبتان أنه لم يقدّر للأمة بلوغ تلك الذروة،لتقوم بسد هذه الثغرات التي خلفها غياب النبي(ص)،لا في جانب التفسير،ولا في جانب التشريع،ولا في جانب رد التشكيكات الهدامة،ولا في جانب صيانة الدين عن الإنحراف.

هذا وتأكيداً لهذه الدعوى نأتي ببعض النماذج حتى لا تكون عرية عن الشاهد،فنقول:

أما في جانب التفسير:

فيوجد اختلاف فاحش في تفسير آيات الكتاب الكريم،بل ربما يقال أنه لا توجد آية من آياته يتفق فيها قول الأمة في تفسيرها،حتى الآيات التي تتضمن عمل المسلمين المتكرر يومياً،فلاحظ آية الوضوء،وهي قوله تعالى:- (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)[7].

حيث تضاربت الآراء في فهم الآية،فمن قائل بعطف الرجل على الرؤوس،ومن قائل بعطفه على الأيدي،فتمسح على الأول،وتغسل على الثاني،فأي الرأيـين هو الصحيح،وهو المراد لله سبحانه وتعالى.

ولم يقتصر الأمر على تفسير الآيات المتعرضة للأحكام الشرعية،بل يشمل الأمر الآيات المتعرضة لبيان المعارف أيضاً،فيكفيك ملاحظة اختلاف الأمة في الصفات الخبرية،والعدل،والجبر والإختيار،والهداية والضلال.

وأما في مجال الإجابة على الموضوعات المستجدة:

فيكفي في ذلك الوقوف على أن التشريع الإسلامي كان يشق طريقه نحو التكامل بصورة تدريجية،لأن حدوث الوقائع والحاجات الإجتماعية،في عهد الرسول(ص)كان يثير أسئلة ويتطلب حلولاً،ومن المعلوم أن هذا النمط من الحاجة كان مستمراً بعد الرسول،غير أن ما ورثه المسلمون من النبي(ص)لم يكن كافياً للإجابة عن جميع تلك الأسئلة.

خصوصاً وأن آيات الأحكام لا تتجاوز ثلاثمائة آية،والأحاديث في هذا المجال التي ورثتها الأمة لا يتعدى خمسمائة حديث.

ومن الواضح أن هذا القدر من الأدلة غير وافٍ بالإجابة على جميع الموضوعات المستجدة بإجابة توافق حكم الله الواقعي،وتأكيداً لما ذكرناه نذكر بعض النماذج:

1-رفع إلى أبي بكر رجل وقد شرب الخمر،فأراد أن يقيم عليه الحد،فأدعى الرجل أنه نشأ بين قوم يستحلونها،ولم يعلم بتحريمها إلى الآن،فتحير أبو بكر في حكمه[8].

2-مسألة العول التي شغلت بال الصحابة فترة من الزمن،وكانت من المسائل المستجدة التي واجهت جهاز الحكم بعد الرسول،وقد طرحت هذه المسألة أيام عمر بن الخطاب،فتحير،فأدخل النقص على الجميع استحساناً،وقال:والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر،ما أجد شيئاً أوسع لي من أن أقسم المال عليكم بالحصص،وأدخل على ذي حق ما أدخل عليه من عول الفريضة[9].

3-سئل عمر بن الخطاب عن رجل طلق امرأته في الجاهلية تطليقتين،وفي الإسلام تطليقة،فهل تضم التطليقتان إلى الثالثة،أو لا؟فقال للسائل:لا آمرك ولا أنهاك[10].

وينبغي أن يلتفت إلى أن ما ذكرناه لا يعني أن الشريعة السمحاء ناقصة في إيفاء أغراضها التشريعية،وشمول المواضيع المستجدة،أو المعاصرة لعهد الرسول(ص)،بل التشريع الإسلامي كان وافياً بالجميع ببيان حاصله:

إن النبي(ص)كان يراعي في التبيلغ حاجة الناس،ومقتضيات الظروف الزمنية،فلابد في إيفاء غرض التشريع أن يستودع أحكام الشريعة من يخلفه،ويقوم مقامه،لإيفاء أغراضه التي لم يقدّر له تحقيقها في حياته الشريفة.

وعلى أي حال مما يؤكد ما ذكرناه من عدم كون الأمة واصلة لهذا المقام،هو اضطرار الصحابة بمجرد رحيل النبي(ص)عن الدنيا،وفي الأيام الأولى لذلك إلى إعمال الرأي والإجتهاد في المسائل المستحدثة،وليس اللجوء للإجتهاد بهذا النحو،إلا تعبيراً واضحاً عن عدم استيعاب الكتاب والسنة للوقائع المستحدثة بالحكم والتشريع،خصوصاً وأنه لا مجال للإجتهاد وإعمال الرأي فيما يشمله الكتاب والسنة بحكم.

هذا ويمكن أن تذكر نكتة أخرى لعدم إيفاء الكتاب والسنة بمهمة التشريع،غير ما ذكرناه،لكن ذكرها يستدعي طول المقام،فلذا نرجئها لوقت آخر.

وفي مجال رد الشبهات والتشكيكات:

وإجابة التساؤلات،فقد حصل فراغ هائل بعد رحيل النبي(ص)من هذه الناحية،فجاءت اليهود والنصارى بعقائدهم تـترى،يطرحون الأسئلة،ويشوشون بها أفكار الأمة،ليخربوا عقائدها ومبادئها.

وفي جانب صيانة المسلمين عن التفرقة الإختلاف:

وصون الدين عن الإنحراف،فقد كانت الأمة الإسلامية في أشد الحاجة بعده(ص)إلى من يصون دينها عن التحريف،وأبناءها عن الإختلاف،فإن التاريخ يشهد دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود ورهبان النصارى ومؤيدي المجوس،ككعب الأحبار،وتميم الداري،ووهب بن منبه،وعبد الله بن سلام،وبعدهم الزنادقة،والملاحدة،والشعوبيون،فراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيلية،والأساطير النصرانية،والخرافات المجوسية بينهم،وقد ظلت هذه الأحاديث المدسوسة،تخيم على أفكار المسلمين ردحاً طويلاً من الزمن،وتؤثر في حياتهم العلمية،حتى نشأت فرق وطوائف في ظل هذه الأحاديث.

خاتمة:

وفي ختام الجواب عن هذا الإحتمال،نصل إلى أنه لم تكن الأمة مؤهلة لتحمل هذا المنصب،ويمكننا تأكيد ذلك،من خلال وجود الروايات الموضوعة،ويكفي ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية،وما رواه بعد ذلك،فإنه ألفى الأحاديث المتداولة بين المحدثين في الأقطار الإسلامية تربوا على ستمائة ألف حديث،لم يصح لديه منها أكثر أربعة آلاف حديث.

——————————————————————————–

[1] سورة البقرة الآية رقم 124.

[2] سورة الأعراف الآية رقم 142.

[3] سورة المائدة الآية رقم 55.

[4] سورة الرعد الاية رقم 7.

[5] التفسير الكبير ج 19 ص 14،تفسير ابن كثير ج 2 ص 501،تفسير الطبري ج 13 ص 63.

[6] بحار الأنوار ج 7 ص ص 16.

[7] سورة المائدة الآية رقم 6.

[8] الكافي ج 7 كتاب الحدود ح 4 ص 249.

[9] أحكام القرآن للجصاص ج 2 ص 109.

[10] كنـز العمال ج 5 ص 116.