28 مارس,2024

إختيار الصديق (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

كنا قد تكلمنا فيما مضى عن الصفات التي ينبغي توفرها في الصديق المثالي،وذكرنا صفتين،ونشير الآن إلى ما تبقى من تلك الصفات.

الصفة الثالثة،التي ينبغي أن يكون الصديق المتخذ متصفاً بها هي:

أن يكون بين الصديقين تجاوب عاطفي ورغبة متبادلة في الحب والمؤاخاة،لأن ذلك أثبت للمودة وأوثق لعرى الإخاء،فإن تلاشت في أحدهما نوازع الحب والخلة،ضعفت علاقة الصداقة،إن لم يقال أنها وهت،فيكون المجفو منهما الحريص على توثيقها عرضة للانتقاد والازدراء به.

قال أمير المؤمنين(ع):زهدك في راغب فيك نقصان عقل ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس[1].

الصفة الرابعة:الوفاء،فربما تجد من حولك الكثير من الأصدقاء لكنك لا تجد منهم واحداً يفي لك بحقوق الصداقة،ويؤدي لك ما هو معتبر فيها.

وقد ورد في الحديث الشريف:عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء.

ولهذا نجد تأكيد الروايات على امتحان الصديق قبل اتخاذه صديقاً،فتـتظاهر مثلاً أمامه أنك في شدة أو ورطة،وتنظر ماذا يفعل لك،هل يسعى لمساعدتك،أو يهرب منك؟…هل يتبرأ منك في الشدة،ويتنكر لك؟…أو يسعى لخدمتك ومساعدتك؟…

إن الصديق الحقيقي هو الذي يقف لك سنداً حينما تقع في الخطأ والجريرة،فمن جهة ينصحك ويوجهك،ومن جهة أخرى يدافع عنك،ويتبرع لك بما يملك.

كما أن الصديق الوفي هو الذي يعطيك المشورة الجيدة،ينصحك بقلب نقي وصدق.

مقايـيس الحب:

ثم إن مظاهر الحب في الأصدقاء خاصة والناس عامة قد تلتبس،وتخفى سماته وعلائمه،ويغدو المرء آنذاك في شك من أنهم يودونه،أو أنهم يقلونه ويجفونه.

هذا وقد وضع أئمتنا(ع)مقايـيس نفسية يمكن من خلالها استكشاف ذخائل الحب والبغض في النفوس ومحاولة تجلية أسرارها الخفية،فقد ورد أن رجلاً سأل أبا عبد الله(ع)فقال:الرجل يقول أودك فكيف أعلم أنه يودني؟…

فقال(ع):امتحن قلبك،فإن كنت توده فإنه يودك.

وجاء عنه(ع)أيضاً:انظر قلبك،فإن أنكر صاحبك،فاعلم أنه أحدث.

أقول:مراده(ع)من أحدث،أي فعل فعلاً يوجب النفرة بينكما ويؤدي إلى ضعف المودة.

وعن أبي جعفر الباقر(ع)قال:لما احتضر أمير المؤمنين(ع)جمع بينه،حسناً وحسيناً وابن الحنفية والأصاغر فوصاهم،وكان في آخر وصيته:يا بنيَّ عاشروا الناس عشرة،إن غبتم حنوا إليكم،وإن فقدتم بكوا عليكم،يا بنيي إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة،وتتناجى بها،وكذلك هي في البغض،فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه فارجوه،وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه.

وهنا نواجه سؤالاً:كيف نعرف الصديق الجيد من الصديق السيئ؟…

وجوابنا:أن معرفة ذلك تتم من خلال الإمتحان،فلا يجوز أن نثق كل الثقة بالصديق إلا بعد امتحانه،فلا يكفي أن يضحك في وجهك شاب،لكي تتخذه صديقاً،فالنفوس مثل المغارات لا يمكن اكتشافها بمجرد لقاء عابر.

بل تحتاج لاكتشافها إلى الدخول فيها والغوص في أعماقها.

وهكذا الصديق،تحتاج إلى الغور في أعماقه،حتى تتمكن من التعرف على حقائقه الداخلية،وبالتالي يمكنك أن ترتبط به وتتخذه خلاً وأخاً.

وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع):لا يعرف الناس إلا بالإختبار،وجاء عنه(ع):لا تثق بالصديق قبل الخبرة.،وقال أيضاً:لا ترغبن في مودة من لم تكتشفه.

امتحان الأصدقاء:

هذا وتوجد ست موارد يمكن من خلالها امتحان الأصدقاء:

الإمتحان الروحي:

فإن التآلف بين الأصدقاء يبدأ من التآلف الروحي بين روحيهما،والأرواح هي التي تكشف بعضها قبل أن تكشف ذلك الأجسام.

من هنا فإنك قد تلتقي بإنسان لأول مرة،فتظن نفسك أنك تعرفه منذ أمد طويل،وعلى العكس قد تجاور شخصاً مدة طويلة ولكنك لا تشعر باتجاهه بأي انسجام.

الإمتحان عند الحاجة:

فعليك أن تجرب صديقك الذي معك عند الحاجة،وعليك أن تلحظ كيفية تصرفه معك،فهل سيولي حاجتك أهمية عند نفسه،وسيهتم بها كما لو كانت حاجته،أو أنه سيتخاذل ويتسحب.

ومن المعروف أن الناس عادة على نوعين:

الأول:الذين يقضون حاجات الناس،من دون أن يكونوا مستعدين للتضحية في سبيل ذلك،وإنما بمقدار ما يتيسر لهم من الأمر.

الثاني:الذين يؤثرون على أنفسهم،ولو كان بهم خصاصة،كما عبر القرآن الكريم.

ونحن لا نطلب في الصديق دائماً النوع الثاني،وإن كان هو الغاية المنشودة،لكن إن لم يكن النوع الثاني فلا أقل النوع الأول.

لكن المشكلة إذا كان الصديق يرفض الوقوف معك عند الحاجة،فهذا يعني أنه قد فشل في الإمتحان.

هذا ومما ينقل في قصص بني اسرائيل،أن النبي موسى بن عمران التقى في طريقه إلى الطور لمناجاة الله بعابد كان يعكف على العبادة في صومعته،فجلس عنده موسى(ع)وسأله:كم سنة مرت عليك وأنت عاكف على العبادة هنا؟

فأجاب سبعون عاماً.

وحينما أقبل وقت الغذاء فرش العابد سماطه،وبدأ يأكل طعامه البسيط،من دون أن يقدم لموسى شيئاً منه.

وبعدها قام موسى ليخرج إلى الطور،فقال له العابد:يا موسى إسأل ربي،أين موقعي من الجنة؟

فخرج موسى من عنده،ومشى حتى لقي عابداً آخر،فسأله:كم سنة مرت عليك وأنت عاكف على العبادة هنا؟

قال:بضع سنوات،فجلس عنده موسى،فأتى العابد بتفاحة،وقال:لا أملك غير هذه التفاحة،وسأقسمها بالنصف بيني وبينك،فأعطى لموسى(ع)نصف تفاحته،وأكل النصف الآخر.

وبعد ذلك قام موسى ليودعه،فقال العابد:اسأل ربي أين موقعي في الجنة؟

في الطور سأل موسى ربه،عن العابدين،فأوحى الله إليه قائلاً:

أما العابد الأول،فموقعه النار،وأما الثاني فإن له مقاماً في الجنة.

وتعجب موسى من ذلك،لأن العابد الأول كان قد عبد الله سبعين عاماً،بينما لم تتجاوز عبادة الثاني بضع سنين،فسأل الله عن ذلك فأوحى الله إليه:

إن الأول منع عنك الطعام وهو يعلم أنك عبدي وولي،أما الثاني فقد شاطرك التفاحة،وهو لا يملك سواها.