29 مارس,2024

القراءات المختلفة للدين(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

مدخل:

من النظريات التي بدأت تشيع في الأوساط الإسلامية، فضلاً عن غيرها من الأوساط، إمكانية القراءات المختلفة للدين، أو النص الديني.

وهذا يستوجب الوقوف عند هذه النظرية ومحاولة تسليط الضوء عليها ودراستها، وملاحظة مدى مقبوليتها وانسجامها مع الشرع الشريف من عدمه.

تعريف النظرية:

والذي يـبدو أن القائلين بهذه النظرية يريدون من الدين في قولهم: القراءات المختلفة للدين، هو النص الديني، الأعم من القول والفعل والتقرير، وسيرة أئمة الدين، والمراد من تعدد القراءات، تعدد التفسيرات والتلقيات للنص الديني.

وبما أن الثقافة الإسلامية بخاصة، مقتبسة من النصوص الدينية، لذلك فإن هذه الثقافة تدور حول محورية النص، وللنص تأثيره الكبير فيها، فكل نظرية تطرح فهم النص، أو النص الديني، يكون لها أثرها الكبير والمباشر في الثقافة الإسلامية.

هذا ومن الحقائق الواضحة التي لا يمكن إنكارها، وجود الاجتهادات والآراء والتفسيرات المختلفة للنصوص الدينية، كما يلاحظ في اختلاف آراء الفقهاء والمفسرين والمتكلمين وأمثالهم. وكما يلاحظ وجود هذه التعددية في الفهم والتفسير في مجال تفسير النصوص الأدبية من النثر والشعر.

بل يمكن أن يقال بأن من الشروط اللازمة لتطور العلوم وجود اختلاف الآراء والتفسيرات، لذلك ربما يبرز هذا السؤال إلى الأذهان، وهو: إذا تقبلنا وجود الاجتهادات والتفسيرات المختلفة، حتى في النصوص الدينية كحقيقة واضحة، وأصل موضوعي، فلماذا هذا التحسس، بل النقد والرفض والمعارضة الشديدة لها من قبل أنصار المنهج التقليدي والصحيح في فهم النص، ومن قبل علماء الدين، والمفكرين المتدينين؟…وبالتالي ما هو السبب في وجود اختلاف القراءات للنص الواحد، وهل يمكن التجرد عنها؟…

الفرق بين القراءات المعتدلة والمتطرفة:

هذا ومما يلزم التأكيد عليه أن القراءات أو التفسيرات المختلفة عند علماء الإسلام تخـتلف عن القراءات المختلفة لأتباع هذه النظريات، لذلك يرفض المسلمون هذه النظرية، وهذا يستدعي بيان الفرق بين هذين النوعين، فنقول، إن هناك عدة فروق بين النوعين:

الأول: إن علماء المسلمين يتقبلون اختلاف الآراء والاجتهادات والتفسيرات في نصوص ومجالات معينة، مع اعترافهم بوجود الكثير من التفسيرات والنصوص الثابتة والضرورية والمتفق عليها، وأن هناك نصوصاً لا تقبل القراءات والتفسيرات المتعددة، بينما أصحاب النظرية الحديثة يرون إمكان تقبل جميع النصوص للقراءات المختلفة حتى النصوص الدينية، وفي مختلف المجالات، فلا يستـثنى أي نص من إمكان القراءة المختلفة اللامتناهية، وكلها صحيحة.

الثاني: إن علماء الإسلام وإن ذهبوا إلى إمكان التفسيرات والآراء المتعددة في بعض النصوص، ولكنهم يعترفون بأن الحق والواقع واحد، وأن اختلاف القراءة الصحيحة واحدة، وهي الموصلة لقصد الشارع المقدس ومراده، وأما اختلاف القراءات فإنها ناشئة عن غموض النص أو عوامل أخرى، بينما أصحاب النظرية الحديثة، يرون بأن جميع القراءات صحيحة.

الثالث: إن علماء الإسلام يرون وجود معيار لتقويم وتميـيز الفهم الصحيح عن الخاطئ في مجال التفسيرات المختلفة لبعض النصوص، ويوجد منهج للتفسير له قواعد وأصول وحدود معينة.

وأما أصحاب النظرية الحديثة، فلا يرون وجود معيار لتقويم الصحيح أو السقيم من التفسيرات، لأنها كلها صحيحة، ولا معنى لتقسيم التفسيرات لصحيحة وخاطئة، مع جبرية الخضوع لقبليات المفسر أو مشروعية التفسير بالرأي، ولا يوجد هناك منهج معين وقواعد وأصول محددة لعملية التفسير، بل للمفسرين الحرية الكاملة، خضوعاً لقبلياتهم في إبداع التفسيرات المختلفة اللامتناهية.

الرابع: إن علماء الإسلام يؤمنون بـ(محورية المؤلف) ويـبحثون عن قصد الشارع المقدس ومراده من النص الديني، من الكتاب والسنة، لأن السعادة أو الشقاء الأبدي يترتب على معرفته، ويلزم تجنب التفسير بالرأي وفرض المفسر قبلياته وقناعاته وأحكامه المسبقة على النص، ولا مبرر للقراءات المختلفة، لأن قصد المؤلف أو الشارع المقدس واحد، لا معاني لا متناهية متناقضة.

بينما أنصار النظرية الحديثة، يتنكرون لدور المؤلف وقصده، بل يؤكدون على محورية المفسر في عملية الفهم، ويذهب بعضهم إلى موت المؤلف وقصده، ولزوم تأثر المفسر بقبلياته، ومعلوماته وتوقعاته وأحكامه المسبقة، فكل تفسير هو تفسير بالرأي، بالمعنى المصطلح له، وليس التفسير والفهم إلا تركيب الاُفقين، ولا أهمية لقصد المؤلف ومراده، وهذا نظير رأي المصوبة الذين يقولون بأنه ليس للشارع المقدس أحكام واقعية، وإنما أحكامه تابعة لآراء المجتهدين.

وغير ذلك من الفروق التي يمكن للقارئ العزيز ملاحظتها عندما يتأمل في التفسير لهذه النظرية.

ومن خلال ما ذكرنا في بيان الفروق بين النظريتين، يظهر الدافع الذي دعى علماء الإسلام والمفكرين المتدينين، لرفض هذه النظرية الحديثة حول فهم النص والقراءات المختلفة للنص الديني.

كما أنه أتضح من خلال عرض الفروق بين النظريتين، أن نظرية القراءة المختلفة للدين تعتمد كثيراً على محورية المفسر وأفقه الفكري، وفرض قبلياته على فهم النص، وبذلك تكون جميع التفسيرات من التفسيرات بالرأي، بل لا يمكن للمفسر مهما بذل من جهد من تجنب التأثير بقبلياته خلال عملية الفهم، وأن فهم النص حاصل من نتيجة الحوار بين المفسر النص، كما أوضحناه، وعلى ضوء هذا التصور، لا يـبقى فهم ومعنى ثابت ونهائي للنص، لأن الفهم يعتمد على عنصرين: النص والقارئ، والنص وإن كان ثابتاً، لكن العنصر الآخر وهو القارئ متغير دائماً حسب الظروف، وتغير الزمان والمكان، لذلك فالتفسيرات للنص الواحد دائماً متغيرة ومتعددة.

وهكذا يتضح أن الفرق الأساسي لهذه النظرية الحديثة عن المنهج الإسلامي، هو أن المنهج الإسلامي يؤمن بوجود معنى واقعي للنص هو قصد الشارع المقدس ومراده، ويـبحث عن التوصل له بينما تنكره هذه النظرية.

ثم إن رفع اليد عن أهمية قصد المؤلف في عملية تفسير النص، لا ينحصر بأصحاب هذه النظرية، بل تذهب إليه بعض المذاهب والاتجاهات الأخرى، كبعض اتجاهات النقد الأدبي، والبنيويون لتأكيدهم على استقلالية معنى النص عن قصد المؤلف ومراده حين خلقه للنص أو العمل الفني، لذلك لا مبرر للبحث عن قصده وحياته وظروفه.

إذن فالرأي الصحيح هو منهج التفسير والفهم الذي يـبحث عن معرفة قصد المؤلف، فإن التفسيرات المتعددة، وإن كانت ممكنة، لكن الصحيح والحق منها هو مراد الشارع المقدس، وليس لديه معانٍ متعددة متناقضة، ولابد من وجود قواعد للتوصل لفهم الصحيح أو تقويم وتميـيز الصحيح عن السقيم.

الإشكالات على نظرية القراءت المتعددة للدين:

بعدما تعرفنا على تعريف هذه النظرية، لا بأس بالإشارة إلى بعض الإشكالات التي ترد عليها حسب التصور الإسلامي، ورأيه ونصوصه.

وتلك الإشكالات هي:

الفرق بين النصوص الدينية والأدبية:

الأول: إن هناك فرقاً بين النصوص الدينية والنصوص الأدبية، فإذا كان مقصود هذه النظرية إمكان القراءات المختلفة في كل نص، وخاصة لو لم نخضع لأساليب وقواعد معينة في تفسير النص، بل أخذنا بالأهواء والظنون غير المعتبرة أيضاً، فيمكن أن تكون للنص الواحد تفسيرات متعددة، بل متناقضة فيمكن مثلاً في النصوص الدينية أن يفسرها بما يخالف حتى التعاليم والأحكام والمعتقدات، الضرورية والقطعية، فيما لو اعتمد في التفسير على الظنون والهواء، والعلة المستنبطة، ونظرة الغرب والحداثة، أو التأثر ببعض الآراء الغربية حول الدين، وأن جوهر الدين متمثل بالتجربة الدينية ولا أهمية للشريعة والمعتقدات، أو حصر الدين بالمبادئ الكلية، لا الأحكام العملية، وأمثالها، فيمكن على ضوئها القراءات المتعددة بل المتناقضة للنصوص الواضحة، والتعاليم الضرورية والقطعية، بل بما إنكارها أو تبديلها، فيفسر مثلاً نصوص وأحكام الحجاب والحدود والديات وسهام الإرث وحقوق الرجل والمرأة وأمثالها بتفسيرات أخرى غير معانيها الضرورية والواضحة عند جميع المسلمين، وكما ذكر بعضهم: أن الحكم بأن للذكر مثل حظ الأنثيـين، إنما يصلح للمجتمع الزراعي، لا لعصرنا الحاضر، بل ربما وسع بعضهم هذه التعددية في التفسير حتى في العقائد الضرورية، ففسر المعاد بحصول الخلاص للبشر في هذه الدنيا، ولم يفسره بعالم الآخرة، أو فسر التوحيد بالوحدة بين البشر، أو فسر الله سبحانه وتعالى بوجود مادي.

ولكن إذا أمكن تقبل هذه النظرية في بعض النصوص والأعمال كالنص الأدبي والشعري، أو الأمثال السائرة أو العمل الفني، التي تعتمد على الذوق والإحساس بالجمال، وليس وراءها حقائق ثابتة غير العامل الذاتي أو الذوق، أو لا يطلب فيها فهم معين، أو تعاليم عملية أو اعتقادية معينة، ولا أهمية لقصد المؤلف فيها، بل المهم مشاعر القارئ أو المشاهد، وما تخطر فيه من إيحاءات، ربما اختلفت حسب الزمان والمكان والأفراد، ولا تطالب بمعرفة قصد المؤلف وفهمه أو فهم غيره من القراء.

إلا أن هناك نصوصاً وأعمالاً، يلزم فيها التعرف على قصد المؤلف وفهمه، كالنصوص الدينية، كنصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، فإنه لابد من معرفة قصد الشارع المقدس، وذلك لأن للإسلام معتقدات وأحكاماً معينة، تهدف سعادة البشر أنزلها الله سبحانه وتعالى لطفاً بهم، يطالبهم بالتعرف عليها، والالتـزام بها عقائدياً وعملياً، دون أن يخضعوا في ذلك للظنون والأهواء، أو قبلياتهم، وإلا كان الشارع المقدس يأمر بقبليات البشر وأهوائهم، بتعاليمه المقدسة، ويجب على الإنسان أن يتجرد عن قبلياته لمعرفة تعاليم السماء. على أن الظاهر أن أدلة النهي عن الظن والتفسير بالرأي تشمل أيضاً أمثال هذه القراءات والآراء الجديدة حول النصوص الدينية الواضحة وحول الأحكام والعقائد الدينية الضرورية والاتفاقية، حيث تحاول إنكارها أو التشكيك فيها أو تبديلها، أو تفسيرها بتفسيرات تخـتلف عن معانيها الضرورية والاتفاقية.