29 مارس,2024

مسؤولية يزيد عن قتل الإمام الحسين(3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

النصوص:

ونستعرض في هذا الدليل النصوص، التي تدل على أن تلك الجريمة البشعة التي ارتكبت بحق الحسين(ع) وأهل بيته وشيعته(ع) كانت بإيعاز من يزيد بن معاوية، وبقطع النظر عن أن الأمر بالقتل كان منوطاً بعدم البيعة فحسب، أو أنه منوط بعدم البيعة بالإضافة إلى الدخول مع بني أمية في مواجهة.

وإليك شيء من تلك النصوص:

النص الأول: ما نقله جمع من المؤرخين من أن عبد الله بن عباس بعث برسالة إلى يزيد بن معاوية، وهي رسالة طويلة نذكر منها موضع الحاجة: من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية أما بعد…. وأنت قتلت حسيناً بفيك الكثكث ولك الأثلب….ولا تحسبني لا أباً لك نسيت قتلك حسيناً وفتيان بني عبد المطلب مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام غادرهم جنودك مصرعين في صعيد مرملين بالتراب مسلوبين بالعراء، لا مكفنين تسفي عليهم الرياح وتعاورهم الذئاب وتنشي بهم عرج الضباع حتى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم فأجنوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يا يزيد.

ولا يخفى صراحة هذا النص، حيث نسب ابن عباس قتل الحسين(ع) إلى يزيد في رسالته إليه مرتين حيث قال في موضع منها: وأنت قتلت حسيناً، وقال في موضع آخر: لا تحسبني لا أبا لك نسيت قتلك حسيناً.
ثم إن ابن عباس حمّل يزيد تبعات كل ما جرى على الإمام الحسين(ع) وأصحابه وعائلته.
ولا يخفى على أحد أن مثل ابن عباس لا يتجنى على أحد ولا ينسب لأحد جرماً لم يرتكبه خصوصاً وأن ابن عباس يواجه يزيد بهذه النسبة مواجهة غير آبهٍ بسلطانه وسطوته، رغم أن دواعي المداراة تقتضي السكوت عن ذلك.
على أنه لو كان يزيد في موقع ضعف فإن جلالة ابن عباس وورعه تأبى عن أن ينسب لأحدٍ جرماً لم يرتكبه، وهو الصحابي الجليل، بل هو من ألمع الصحابة، وأعلمهم بحدود الله جل وعلا، فمثله لا يتكلم بغير علم.

التشكيك في صحة الرسالة:

هذا وقد شكك بعض الكتّاب في صحة هذه الرسالة وقال: أحسب أنها منـتحلة على عبد الله بن عباس، وبرر ذلك بأنه كيف يمكن لابن عباس أن يواجه يزيد بمثل ذلك، والحال أن يزيد لا زال في سلطانه وصاحب قوة ومنعة، وابن عباس أكيس من أن يصدر عنه مثل هذا الكلام.

والجواب عن هذا التشكيك: واضح، إذ أنه لو تم هذا لكان يقتضي نسف كل النصوص الكثيرة التي دلت على أن رجالاً واجهوا ملوكاً أولي قوة وسطوة بأشد من هذه المواجهة، فهذا التاريخ يعج بمثل هذه المواقف، فإن الدنيا لا تخلو من أصحاب النفوس الأبية والأنوف المتشامخة، فقضية حجر بن عدي سار بخبرها الركبان، وتناقلتها كتب التاريخ دون استثناء.

وغير خافٍ على هذا الكاتب الملاحم التي سطرها التاريخ لصحابة رسول الله(ص) في بدء الدعوة في مكة المكرمة.
ويكفينا مثالاً لصحة ما نقوله، صاحب هذه الأيام الإمام الشهيد الحسين بن علي(ع) حينما واجه يزيد وعبيد الله بن زياد، ألم يكن أبو عبد الله الحسين(ع) في نظر هذا الكاتب كيساً، وهل الكياسة تقتضي المداهنة والمدارارة دائماً؟!!!
ثم إن الملاحظ للظروف التي صدرت فيها هذه الرسالة يعرف أن يزيد حينذاك لم يكن من القوة بحيث يمكنه البطش بعبد الله بن عباس، فالضعف السياسي والعسكري الذي انتاب دولته لا يخفى على من له أدنى تأمل في ظروف صدور هذه الرسالة.

النص الثاني: ما ذكره الطبري، وهذا نصه: فلما نظر يزيد إلى رأس الحسين، قال:

يفلقن هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وذكر ابن الأثير في الكامل ما هذا نصه: ثم أذن للناس فدخلوا عليه والرأس بين يديه ومعه قضيب وهو ينكت به ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحسين بن الحمام:
أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت قواضب في أيماننا تقطر الدما
يفلقن هاماً من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب هذا النص: فوضع الرأس بين يديه فأقبل ينكت بالقضيب في فيه ويقول:
تفلق هاماً من رجال أحبة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ونقل سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص عن ابن أبي الدنيا: أنه لما نكت بالقضيب ثناياه أنشد لحصين بن الحمام المرى:

صبرنا وكان الصبر منا سجية **** بأسيافنا تفرين هاماً ومعصماً
نفلق هاماً من رؤوس أحبة ***** إلينا وهم كانوا أعق وأظلما

قال مجاهد: فوالله لم يـبق في الناس أحد إلا سبه وعابه وتركه.
وروى ابن أبي الدنيا عن الحسن البصري قال: ضرب يزيد رأس الحسين ومكاناً كان يقبله رسول الله(ص).
وهذه النصوص التي ذكرنا بعضها تعبر وبأجلى تعبير عن أن قتل الحسين(ع) كان بأمر من يزيد بن معاوية، فإن قرع ثنايا الحسين بالقضيب لا يناسب من كان متجافياً، وكارهاً لقتل الحسين(ع)، وهل هناك تعبير عن التشفي أبلغ من هذا التعبير، فقرع ثنايا أبي عبد الله(ع) يعطي بأن يزيد كان قد بلغ به الحنق والغضب على الحسين(ع) بحيث أخذ يتصرف تصرفات غير عقلائية.

فما معنى أن ينكث ثنايا الإمام(ع) ويقرعها بقضيبه، غير الغطرسة والعنجهية، والتي خدشها الإمام الحسين(ع) بإبائه البيعة له.
ثم ما معنى هذا الشعر الذي تمثل به والذي نقله أكثر المؤرخين عنه، فإن من له أدنى فهم بكلام العرب يعرف أن يزيد قصد من هذه الأبيات الفخر والاعتـزاز والتبختر، فهو يعبر عن أنه حقيق بهذا الإنجاز الذي لا يجسر عليه غيره، فهو قد قتل رجلاً منيعاً عزيزاً بلغت عزته حداً تـتصاغر أمامها العظماء، وتـتلكأ عن مسها جبابرة الرجال وتنـثني عن مطاولتها أنوف الأبطال، ولعمري ليس في الدنيا أدعى من هذا الفخر والاعتـزاز، وهل من نشوة تعدل هذه النشوة.

فيزيد يأبى أن ينسب هذا الإنجاز لغيره، فهو الذي فلق هامة هذا الطود الشامخ، وهو الذي أخذ النصف من الحسين(ع)-على حد تعبيره- فحق أن ينـتشي، وحق له أن يتباهى فلا شيء يدغدغ كبرياءه سوى دم الحسين(ع)، فلو أمكنه لعبر بكل عضو من أعضائه عن هذه النـزوة، فلسانه وتقريعه لا تناسبان حجم البهجة التي انطوت عليها مشاعر يزيد، فهو قد تمنى لو كان لكل جارحة منه لسان يعبر عن مستوى المرارة التي أطفأتها دماء الحسين(ع) المتخثرة على شيـبته، وود لو أن تلك الدماء تمسح جراحات روحه المتهرئة، علها تكون بلسماً ينـتجع به ومرهماً يبرد لهيبها المستعر.

النص الثالث: ما ذكره الكامل لابن الأثير: لما وصل رأس الحسين حسنت حال ابن زياد عنده، وزاده ووصله، وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس، ولعنهم وسبهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليّ لو احتملت الأذى وأنـزلت الحسين معي في داري، وحكمته فيما يريد، وإن كان عليّ في ذلك، وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله(ص) ورعاية لحقه وقرابته.

ونقل الطبري في تاريخه: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي(ع) وبني أبيه بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية فسر بقتلهم أولاً وحسنت بذلك منـزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم على قتل الحسين(ع)، فكان يقول ما كان عليّ لو احتملت الأذى وأنـزلته معي في داري، وحكّمته فيما يريد، وإن كان عليّ في ذلك وكفٌ ووهن في سلطاني حفظاً لرسول الله(ص) ورعاية لحقه وقرابته.

ولا يخفى صراحة هذا النص في إقرار يزيد على نفسه بقتل الإمام(ع)، وهذا ما يعبر عنه قوله: وماذا عليّ لو احتملت الأذى وأنـزلت الحسين معي في داري.

كما نلاحظ كيف أن يزيد يعبر عن ندمه فيما اقترفه في حق الحسين(ع)، وحق رسول الله(ص)، وأنه كان الأجدر به أن يحتمل الوهن الذي سوف يدخل عليه في سلطانه والأذية التي سوف تنـتابه، فهو يشير إلى المبرر الذي دعاه إلى قتل الإمام(ع).
فالمبرر الأول: هو أن بقاء الحسين(ع) يحطم كبرياءه وغطرسته، وهذا ما عبر عنه بالأذى.
المبرر الثاني: هو أن بقاء الحسين(ع) يوهن من سلطانه.

فهذا النص يلخص لنا الدوافع التي حدت بـيزيد إلى اتخاذ هذا الخيار الصعب، وليس هناك مبرر غير الذي ذكره يزيد في هذا النص، ولو لم يكن قتل الحسين(ع) بمشيئة منه لكان أولى بأن يعتذر به خصوصاً أنه في مقام التعبير عن ندمه والذي يقتضي التماس المعاذير المهدئة لغلواء النفس ساعة الندم.
إن قلت: لما كان يزيد قد أقدم على هذه الجريمة البشعة غير آبهٍ بأحد، فما الذي أوجب أن تستفيق نفسه من نشوتها، بعد أن كان مسروراً بقتل الإمام(ع) مما حدا به أن يجزل العطاء لابن زياد، وتحسن منـزلته عنده.

قلت: جاء في الكامل لابن الأثير، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي وكذلك الطبري، نصاً صرح فيه أن منشأ ندمه هو ما رآه وسمعه من سخط الناس عليه، ولعنهم له، فهو قد رأى بأم عينه الصحابي الجليل أبا برزة الأسلمي وهو ساخط عليه وسمع توبـيخه له حينما أخذ ينكت ثغر الحسين بقضيـبه، ولننقل نص الطبري في تاريخه:
ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب، فهو ينكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري:

يفلقن هاماً من رجال أحبة إلينا وهم كانوا أعق وأظلما
قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله(ص) يقال له أبو برزة الأسلمي، أتنكت بقضيـبك ثغر الحسين، أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله(ص) يرشفه، أما أنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد(ص) شفيعه، ثم قام فولى.

هذا الموقف وأمثاله وما تناهى إلى مسامع يزيد من سخط الناس ولعنهم إياه، هو الذي أوجب أن يفيق يزيد من نشوته.
ثم إن هذا النص الذي نقلناه لك يعبر أبلغ تعبير عن الحالة التي كان عليها الناس بعد مقتل الحسين(ع)، فهم إنما يشتمون يزيد ويلعنونه، وما ذلك إلا لأنهم يرون أنه المسئول عن قتل الإمام(ع).

ومن الواضح أن ذلك لا ينشأ جزافاً، وإنما نشأ عن إطلاعهم التام على مسؤوليته عن دم الحسين(ع)، وهذا دليل آخر على ما نود إثباته، وذلك لأنهم أقرب إلى الحدث فيكون إطلاعهم على ملابساته عن كثب.

النص الرابع: ما نقله اليعقوبي عن معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان أنه حينما تقلد الحكم بعد أبيه خطب الناس فقال: أما بعد حمد الله والثناء عليه….ألا وإن جدي معاوية بن أبي سفيان قد نازع الأمر من كان أولى به قرابة…ثم قلد أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه…..فقلّت منعته، وانقطعت مدته، وصار إلى حفرته رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه، ثم بكى وقال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرسول وأباح الحرمة وحرّق الكعبة….

وهذا النص من أوضح الوثائق التاريخية المثبتة لمسؤولية يزيد عن قتل عترة الرسول(ص)، فقد صرح معاوية وهو ولد يزيد الأكبر على مسمع من شيوخ بني أمية بمسؤولية يزيد عن قتل العترة الطاهرة، ولم يذكر التاريخ حدثاً قتل فيه يزيد أحداً من أولاد الرسول(ص) سوى واقعة كربلاء، والتي قتل فيه الإمام الحسين(ع) مع جمع من أولاده وأولاد أخيه الإمام الحسن(ع) وأخوته من صلب علي بن أبي طالب(ع)، فحتى واقعة الحرة التي أسرف فيها يزيد في دماء الصحابة وأولاد المهاجرين والأنصار، لم يتعرض فيها لأولاد الرسول(ص)، وكان ذلك عن قصد وتعمد، حيث أوصى قائد جيشه مسلم بن عقبة المري بعدم التعرض لعلي بن الحسين(ع).

وهذا ما يؤكد أن مراد معاوية بن يزيد من قوله: قتل عترة الرسول، هو الإشارة إلى تلوث يد يزيد بن معاوية بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه الطاهرين(ع)، وأنه المسئول عن ذلك.
وبملاحظة هذه النصوص التي ذكرناها، وغيرها مما لم نذكره روماً للاختصار، لا يسع المنصف إنكار مسؤولية يزيد عن دم الإمام الحسين(ع)، فإنه إن وقع التشكيك في صدور بعض هذه النصوص، أو التشكيك في دلالة بعضها، فإنه لا مجال للتشكيك في مجموعها خصوصاً بملاحظة ما لم نذكره، وذلك باعتبار أن مجموعها يكوّن تواتراً إجمالياً قدره المتيقن هو مسؤولية يزيد عن دم الإمام الحسين(ع).

وحينما يمثل مجموع هذه الأخبار تواتراً إجمالياً، لا معنى حينـئذٍ لملاحظة كل نص على حدة كما هو ثابت في علم الأصول، هذا بالإضافة إلى انضمام مجموعة من القرائن والمؤيدات التي تعزز تمامية هذه النصوص، أو لا أقل بعضها.