20 أبريل,2024

الذنوب وأثرها على المجتمع

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما
كانوا يقتـرفون)[1].

مقدمة:

تتعرض الآية المباركة إلى بيان المنهج القرآني،الذي يخطه الله سبحانه
وتعالى إلى خلقه،من خلال بيان السبيل الذي ينبغي لهم سلوكه،وكيف يكون ذلك
السلوك.
فتتعرض الآية المباركة إلى النهي عن اقتـراف المحرمات والآثام،وارتكاب
المعاصي والذنوب،دون فرق بين كون اقتـراف الذنوب في السر أم في العلن.
وكأن الآية تريد أن تشير إلى أن الذنب الذي يقتـرف في السر كالذنب الذي
يقتـرف في العلن حيث أن الله عز وجل مطلع على كليهما وهو محيط بكل شيء
سبحانه وتعالى.
وهذا نوع من أنواع التـزكية للنفس،لأن التـزكية قد تحصل بالتحلية،كما تحصل
بالتخلية أيضاً،وهو ما أشارت له الآية المباركة.
وعلى أي حال نحتاج إلى أخذ تصور عن الآثام التي نهى القرآن الكريم
عنها،وهي كما هو معروف عبارة عن الذنوب،فما هو الذنب وما هو تعريفه؟…

من هنا يقع حديثنا ضمن نقاط:

النقطة الأولى:تعريف الذنب،وبيان الفرق بينه وبين الجريمة في القانون
الوضعي:

الذنب في اللغة:يعني الجناية والإثم والجرم والمعصية[2].

ويعرف في الشرع بأنه:مخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه واتباع الشهوات
والرغبات الشيطانية ونوازع النفس الإنسانية الشريرة التي تدعو لترك
الواجبات،وفعل المحرمات.

ويمكننا تلخيص هذا التعريف بما يتناسب مع القانون الوضعي فنقول:

الذنب:عبارة عن المخالفة للحدود والقوانين والأنظمة الإلهية.

ولقد تعرضت القوانين الوضعية للذنب وعرفته بأنه الخروج عن دائرة القانون
الموضوع لحفظ مصلحة الجماعة وصيانة نظامها وضمان بقائها.

كما أنها تعرضت لبيان تقسيمه حسب شدته إلى جناية،وجنحة،ومخالفة.

ومن الواضح التقارب بين تعريف الذنب في القانون الوضعي وتعريفه في القانون
الإسلامي،لأن التعبير بالخروج عن القانون،عبر عنه القرآن الكريم بتعدي
حدود الله.

ومع اتفاق القانونين في الغرض من تقرير الجرائم والعقاب عليها من حفظ
مصلحة الجماعة،وبقاؤها،إلا أنه توجد بينهما بعض الفوارق نشير لبعض منها:

الفرق الأول:

يختص إطلاق الذنب أو الجريمة في القانون الوضعي،على خصوص الأعمال المحظورة
التي تسئ للمجتمع بشكل مباشر كالقتل،والسرقة.

أما في القانون الإسلامي فيشمل إطلاقه كل الإعمال التي تسئ للمجتمع
مطلقاً،سواء كانت بشكل مباشر،أم غير مباشر.

ولذا يعتبر القانون الإسلامي ممارسة الرذيلة من قبل الإنسان منفرداً
لوحده،أو إضماره إياها داخل نفسه ذنوباً وجرائم،لكونها تحط من قيمة الإنسان
وشرفه وكرامته،مما يؤدي إلى انهيار المجتمع الإنساني بشكل غير مباشر.

فالكذب والغيبة والتهمة والحقد ذنوب في قانون الإسلام،وليست ذنوباً في
القانون الوضعي،مع أنه لا ينكر أحد آثار هذه الأمراض النفسية الوخيمة على
المجتمعات،وكيف أنها تنخر فيها وتهدد وجودها.

قال الإمام الباقر(ع):إن الله جعل للشر أقفالاً وجعل مفاتيح تلك الأقفال
الشراب،والكذب شر من الشراب.

هذا وقد ذكر علماء النفس والاجتماع عدة أخطار للكذب،وأنه يرتبط بازدواج
الشخصية،وله آثار سيئة على الفرد والمجتمع.

الفرق الثاني:

إن القانون الإسلامي لا يشرع العقوبات على الجرائم الحاصلة خارجاً فحسب،بل
يسعى إلى استئصال الجريمة من الفكر والروح،فيقضي على استفحال روح ارتكاب
الذنب من داخل الإنسان.

وأما القوانين الوضعية فإن تقنينها العقاب محصور بما إذا وقعت الجريمة
خارجاً،فلا تسعى إلى عملية تربية الإنسان البشري،ومحاولة تهذيبه.

وهذا بخلاف القانون الإسلامي كما عرفت،يقول أمير المؤمنين(ع):من كثر فكره
في المعاصي دعته إليها[3].

فالهدف الإسلامي والغاية الشرعية هي تربية الإنسان فكراً وروحاً،وإبعاده
عن كل ما يعكر صفوه.

الفرق الثالث:

إن القوانين الوضعية تحدد للجرائم المختلفة عقوبات معينة ومحددة،كالسجن أو
الغرامة وأمثالهما،بينما يجعل القانون الإسلامي عاقبة الجريمة خسران
الدنيا والآخرة،إذا لم يتبعها توبة صادقة.

والسر في ذلك يعود لكون الإسلام يرى أن أعمال البشر مترابطة مع بعضها كل
الارتباط،فالسيئة تؤثر على سلوك الإنسان،كما أن استمراره على السيئات يؤدي
إلى انغماسه في مستنقعات الرذيلة حتى يصل إلى درجة يقوى معها على التخلص
مما أحيط به من جو فاسد.

فضلاً عن وجود المردود الاجتماعي للفساد أيضاً،وهكذا يلحظ الإسلام الجريمة
لكونها ذات تأثيرات بعيدة على الفرد والمجتمع،قال تعالى:- (ظهر الفساد في
البـر والبحر بما كسبت أيدي الناس)[4]،وقال سبحانه:- (وما أصابكم من مصيبة
فبما كسبت أيديكم)[5].

بينما قُصرت العقوبة في القوانين الوضعية على العقاب المحدد في وقت معين
يشجع على اقتـراف الجرم والذنب،ولنوضح ذلك بمثال:

إن الذي يشجع السارق على السرقة في ظل القانون الوضعي أمران:

1-عدم إحساسه بالرقابة غير المنظورة في حياته،أي أنه يشعر أن بإمكانه
الفرار من العدالة والحصول على العقاب فيظفر بغنيمته.

2-استهانته بالعقاب،لو امتدت له يد القانون،لأن الفتـرة الزمنية المحدودة
للعقاب لا تمثل له شيئاً حيث سيكون في السجن يأكل ويشرب وينام،دون وجود ما
ينغص عليه صفو حياته.

ولكن هذا لا يتم على طبق قانون الإسلام،لكون الإسلام يربي فيه:

أولاً:الشعور بالرقابة الإلهية التي تتابع حركات الإنسان وسكناته.

ثانياً:يجعل له عقاباً في الدنيا وهو قطع يده،وعذاباً في الآخرة أشد
وأنكى.

النقطة الثانية:بيان أن الذنب مرض وبيان كيفية علاجه:

اتفقت كلمات العديد من علماء النفس اليوم على أنه لا يوجد إنسان
شرير،ومجرم بالفطرة،يقول الدكتور كارل الفرنسي:

لا يوجد في البشر مجرم بفطرته كما يقول بروزو،بل الحقيقة هي أن كثيراً من
المجرمين أناس طبيعيون وعاديون،بل لبعضهم ذكاء خارق للعادة،بحيث عجز علماء
الاجتماع عن مقابلة هؤلاء والسيطرة عليهم في السجون[6].

وهذه النظرية العلمية،لها سابقة في النصوص الإسلامية ترجع إلى قبل أربعة
عشر قرناً من الزمن،فهذا القرآن يصف جماعة المنافقين في نفاقهم وآذاهم
وأحقادهم بأنهم مرضى،قال تعالى:- (في قلوبهم مرض)[7]،ويصف ذوي النفوس الضعيفة
التي تنساق وراء شهواتها بأنهم مرضى،قال عز من قائل:- (فلا تخضعن بالقول
فيطمع الذي في قلبه مرض)[8].

ومثل ذلك النصوص،يقول علي(ع):لا وجع للقلب أوجع من
الذنب[9]،وقال(ع):الذنوب داء،والدواء الاستغفار،والشفاء أن لا تعود[10].

وعلى هذا ليست الذنوب إلا أمراضاً نفسية قابلة للعلاج.

وقد حاول علماء النفس علاج هذا المرض،من خلال إقامة الجلسات الإستجوابية
المطولة مع المريض،فيعرض الطبيب عليه مجموعة من الأسئلة،ويقوم المريض
بالإجابة عنها.

إلا أن علماء النفس أنفسهم ذكروا أن هذا الطريقة لا تخلو عن مجموعة نقائص
عظيمة،بل تكاد تكون غير مجدية في بعض المواضع،وأهم نقائصها:

أولاً:ليس بمقدور جميع الناس مراجعة الأطباء النفسانيين،إما لأن ذلك
يستدعي صرف وقت وجهد كبـيرين،أو لكونه يحتاج نفقات مالية كثيرة.

على أن كثيراً من المرضى النفسانيـين لا يحسون أنهم بحاجة إلى علاج،وذلك
لعدة أسباب كما هو معلوم.

ثانياً:إن المشاهد خارجاً هو عجز الأطباء النفسانيـين عن الغور في أعماق
المرضى،فضلاً عن علاج مرضهم.

ثالثاً:إن الأطباء النفسانيـين،فضلاً عن بقية الناس معرضون للإصابة بهذه
الأمراض.

رابعاً:إن بعض الأمراض يصعب إزالتها من نفس مرتكبها كمرض القتل،أو هتك
العرض،إذ يعجز الأطباء عن إلغاء تأنيب الضمير نتيجة اقتـراف هذا العمل.

ولنتسائل في البداية،ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الوقوع في هذا المرض؟…

الأسباب في ذلك كثيرة،وتختلف من ذنب لآخر،ومن حالة إلى أخرى،ولنقتصر على
ما هو الرئيسي منها:

1-فقدان الإيمان بالله سبحانه،حيث أثبتت الإحصائيات الغربية أن أكثر
الجرائم الحاصلة،وقعت ممن ينقصهم الإيمان الحقيقي بالله وبالقيم الإنسانية
العليا،بمعنى أنه لا يملكون الإيمان بوجود رقابة غيبية ترصد جميع ما يصدر منهم
من حركات وسكنات.

2-الجهل بفائدة القيم والتعاليم الأخلاقية والدينية،وعدم معرفة دورها في
إصلاح النفس وسعادة المجتمع،ويتفرع على ذلك الجهل بخطر الذنوب وأثرها في
شقاء الفرد وانهيار المجتمع.

3-فقدان التـربية الصالحة،وهو من أبرز عوامل الجريمة والانحراف،فقد نجد
شخصاً مؤمناً بالله،عارفاً بخطر الذنوب وآثارها على الفرد والمجتمع،لكن
لفقدانه التـربية الصالحة التي هي أهم مقومات الصمود أمام مغريات الحياة
وإلحاح الشهوات يقع في المعاصي والذنوب.

فلا يكفي الإطلاع على مفاهيم الإسلام ومعرفتها لردع الفرد عن المعاصي،بل
نحتاج مضافاً إلى ذلك التـربي بأخلاقه وقيمه.

والتـربية الصالحة هي العملية الهادفة التي تـترجم قضية الإيمان بالله
تعالى،والعقيدة الإسلامية إلى سلوك مثالي ونظيف.

ثم بعد الإحاطة بأسباب الوقوع في هذا المرض،نتعرض لبيان كيفية علاج
الإسلام له،فنقول:

لقد نهج الدين الإسلامي في علاجه لهذا المرض طريقين تربويـين:

الأول:الطريق الوقائي.

الثاني:الطريق العلاجي.

أما الطريق الوقائي:

وهو الطريق الذي يعتمد على تهيئة الأجواء التـربوية الصالحة للفرد
والمجتمع،وإبعادهما عن جميع أسباب الانحراف.

وقد حدد الدين الإسلامي هذا الطريق في محوريين:

1-تربية الدوافع الذاتية عند الإنسان:

وتقوية الرادع الداخلي الذي يصده عن اقتـراف المعاصي،ويتم ذلك من خلال
تقوية مشاعر الإيمان بالله تعالى،واليوم الآخر في وجدانه وضميره.

إذ أن الإحساس الدائم بالرقابة الإلهية والرقباء الآخرين،والخوف من حساب
الله وعقابه الصارم يوم القيامة،من أهم العوامل الصادة للإنسان عن السقوط
في مغريات الشهوات المنحرفة.

2-تهيئة الأجواء التـربوية الصالحة للفرد المسلم:

داخل الأسرة والمجتمع والمدرسة،فمتى كان أبناء المجتمع ملتـزمين بمبادئ
الإسلام التـربوية وقيمه الأخلاقية،كانوا أبعد الناس عن أجواء الرذيلة
وأسباب المعصية.

وأما الطريق الوقائي:

وهو العلاج الموضوع للإنسان بعد إصابته بالمرض،وهو يعتمد على أمرين:

1-العقاب الإلهي:

في الدنيا قبل الآخرة،كقلة الرزق ونـزول البلاء،وموت الفجأة،وغير ذلك من
الموارد.

2-العقاب الاجتماعي:

وهو ما يلقاه المذنبون من رقابة اجتماعية صارمة في المجتمع الإسلامي
المتقيد بالتعاليم الإسلامية والقيم الأخلاقية.

والرقابة الاجتماعية مسؤولية شرعية يتحملها كل فرد من أبناء المجتمع،فمتى
وجد بينهم من يعمل المعاصي ويقتـرف السيئات وجب عليهم نهيه وزجره عن ذلك
بشتى الأساليب لردعه عما هو عليه،قال(ص):من رأى منكم منكراً فليغيره
بيده،فإن لم يستطع فبلسانه،فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

وهذه المسؤولية تشمل مواجهة المنكر في المراكز الاجتماعية،كالبيت والمدرسة
والمجتمع.

النقطة الثالثة:الآثار السلبية للذنوب:

إن الأشياء التي اعتبرها الإسلام ذنوباً،واعتبرها علم النفس أمراضاً،ثبت
بالتجربة والبرهان أثرها السيئ على الفرد والمجتمع،وأنها تدعو إلى شقاء
الإنسان وفساده.

وعلى أي حال فللذنوب أثر كبير جداً في تلويث النفس وإصابتها بالمرض،كما أن
الإكثار من ارتكابها يستدعي قسوة وظلمة،وهذا يؤدي بالإنسان إلى الجرأة على
اقتـراف ابشع الجرائم.

كما أن الذنوب تسلب الخشوع من قلب الإنسان،ولها أثر كبير في إبعاد الفرد
عن الأعمال الصالحة والعبادة،جاء رجل لأمير المؤمنين(ع)وقال له:إني قد حرمت
الصلاة بالليل،فقال(ع):أنت رجل قد قيدتك ذنوبك.

وروي عن الإمام الصادق(ع)أنه قال:يقول الله تعالى:إن أدنى ما أصنع بالعبد
إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي.

وجاء عنه )ع)أيضاً قوله:إن الرجل ليكذب الكذبة فيحرم بها صلاة الليل،فإذا
حرم صلاة الليل حرم بها الرزق.

ومن آثار الذنوب السلبية،أنها تمنع الدعاء،فعن الإمام الباقر(ع):إن العبد
يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطئ،فيذنب
العبد ذنباً،فيقول الله تعالى للملك:لا تقض حاجته واحرمه إياها،فإنه تعرض
لسخطي واستوجب الحرمان مني.

وهي مدعاة أيضاً لزوال النعم،فعن الإمام الصادق(ع):ما أنعم الله على عبد
نعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنباً يستحق بذلك السلب،وجاء عنه(ع)أيضاً:الذنب
يحرم العبد الرزق.

ومن آثار الذنوب نـزول البلاء على الفرد،بل نزول البلاء على المجتمعات

——————————————————————————–

[1] سورة الإنعام الآية رقم 120.

[2] لسان العرب مادة ذنب،أساس البلاغة مادة ذنب.

[3] غرر الحكم ص 664.

[4] سورة الروم الآية رقم 41.

[5] سورة الشورى الآية رقم 30.

[6] الإنسان ذلك المجهول ص 150.

[7] سورة البقرة الآية رقم 10.

[8] سورة الأحزاب الآية رقم 32.

[9] بحار الأنوار ج 73 ص 342.

[10] غرر الحكم ص 79.