25 أبريل,2024

المـزمل والمـدثر

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (يا أيها المزمل* قم الّيل إلا قليلاً* نصفه أو انقص منه قليلاً)[1]

يتفق المفسرون من الفريقين على أن المقصود بالمتزمل في هذه الآيات الشريفة هو النبي الأكرم محمد(ص)، وإنما يختلفون في منشأ تزمله(ع)، والداعي الذي دعاه إلى أن يكون متزملاً، فذكر كل واحد منهم سبباً لذلك، سوف نشير إليها.

ومثل ذلك يجري أيضاً في السورة الأخرى وهي سورة المدثر، وهو قوله تعالى:- (يا أيها المدثر* قم فأنذر* وربك فكبر)[2] فإن المفسرين يتفقون أيضاً على أن المقصود بالمدثر في الآيات الشريفة هو المصطفى محمد(ص)، إلا أنهم يختلفون أيضاً في الموجب لكونه متدثراً، ومتى كان تدثره حتى خوطب بهذا الخطاب.

ولا يخفى أن معرفة الموجب لكونه(ص) متزملاً ومتدثراً، يعين على تحديد وقت نزول السورة، ضرورة أن أكثر المفسرين يصرّون على أن هاتين السورتين نزلتا في أوائل السور النازلة عليه(ص)، بل حتى قال بعضهم أنهما أول ما نزل عليه من القرآن حتى قبل سورة العلق، وقال آخرون أنهما نزلت عليه بعد نزول سورة العلق، ومن الطبيعي أن معرفة منشأ تزمله(ص) يعين كثيراً على تحديد وقت نزول هاتين السورتين من جهة، كما يعين على الموضوع المتضمن في هذا الخطاب في دعوته(ص) لترك التزمل، فلاحظ.

وعلى أي حال، نحتاج بداية أن نعرض للأقوال الموجودة في كلمات المفسرين، ومن ثمّ ينظر في ما يدل عليها، أو لا أقل ما يساعد الدليل عليه، حتى يتضح لنا المقبول منها من غير المقبول.

أقوال المفسرين:

عند الرجوع لكلمات المفسرين، نجد تعدداً في الآراء في المنشأ والموجب لكونه(ص) متزملاً، وقد عدّت عدة أقوال:

منها: ما نسب لابن عباس من أنه قال: إن أول ما جاءه جبرائيل(ع) خافه وظن أن به مساً من الجن، فرجع من الجبل مرتعداً وقال: زملوني، زملوني، فبينا هو كذلك إذا جاء جبرائيل وناداه، وقال: يا أيها المزمل.

وقد علل هذا القول بأنه(ص) لما كان مستقبلاً لأمر غريب لم يألفه طيلة حياته السابقة، وقع في شيء من الخوف والفزع بسبب هذا الحدث، فعاد إلى أهله مرتجفاً بدنه، وفؤاده، وهو يقول: زملوني، زملوني، خوفاً منه لهيبة الوحي وثقله.

ومنها: ما ذكره الكلبي، من أنه إنما كان(ص) متزملاً بثيابه للتهيؤ للصلاة، وهو اختيار الفراء.

ومنها: أنه (ص) كان نائماً بالليل متزملاً في قطيفة، فنودي بما يهجن تلك الحالة، التي كان عليها من التزمل في قطيفته، واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن[3]. وقيل: يا أيها النائم المتزمل بثوبه، قم واشتغل بالعبودية.

ومنها: أنه كان(ص) متزملاً في مرط لخديجة مستأنساً بها، فقيل له:- (يا أيها المزمل* قم الليل…الخ…)كأنه قيل: اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية.

ومنها: ما قاله عكرمة: يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً، أي حمله، والزمل الحمل، وازدمله احتمله[4].

ومنها: ما جاء في الدر المنثور، عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة، فقالوا: سموا هذا الرجل اسماً نصدر الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، قالوا: يفرق بين الحبيب وحبيبه، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي(ص) فتزمل في ثيابه وتدثر فيها[5].

كيف يفسر القرآن:

هذا وقبل التعرض لمناقشة الأقوال السابقة، نود أن نشير إلى الأسلوب المتبع في تفسير القرآن الكريم، وهو الاستناد إلى ظواهر الألفاظ، وفقاً لما قرر في علم الأصول من حجية ظواهره، خلافاً لجملة من مشائخنا الإخباريـين، على تفصيل مذكور هناك، وهذا يعني أنه عند تفسير أي آية من الآيات الشريفة، يعمد إلى ما هو المستفاد من ظاهرها، وذلك باستنطاق اللفظ وفقاً لما هو المستفاد من ظاهره، وطبقاً لذلك يقرر ما هو المقصود منه. نعم قد يعمد إلى رفع اليد عن الظاهر، وذلك نتيجة وجود قرينة مقالية مانعة من حمل اللفظ على ظاهره، وعادة ما تكون القرينة المقالية الموجبة لصرف اللفظ عن ظاهره، إما آية مباركة واردة في القرآن الكريم، فتكون مفسرة للمقصود من الآية، وهذا ما يسمى بالمنهج القرآني في تفسير القرآن، وهو الذي يعتمد على تفسير القرآن بالقرآن، وقد تكون القرينة عبارة عن رواية وردت عن أحد المعصومين(ع)، وعندها سوف يكون التفسير تفسير بالأثر والنصوص.

ولا تنحصر القرينة في خصوص القرينة المقالية، بل ربما تكون قرينة حالية، وهي ما يسمى بوحدة السياق، أو سبب النـزول، فإنهما أمران عقلائيان يمنعان من انعقاد ظهور للفظ في ما هو الظاهر منه.

وبالجملة، فالأصل أن يحمل اللفظ على ظاهره، ولا ترفع اليد عن ظاهر اللفظ بحمله على خلاف الظاهر، أو على غير ما هو ظاهر فيه إلا مع وجود القرينة الموجبة لذلك، وإلا فلا.

وعادة ما يعمد لمعرفة المعنى الظاهر من اللفظ بالرجوع لكلمات أهل اللغة لتحديد المقصود منه، وموارد استعمالاته، فلا تغفل.

عود على بدء:

ثم بعدما عرفنا المنهج المتبع في تفسير الآيات الشريفة، ينبغي أن نعود لملاحظة الأقوال التي قدمنا ذكرها والتي تضمنت استعراض المنشأ والسبب لكونه(ص) متـزملاً بثيابه، أو لكونه متدثراً، ولنرى هل أن شيئاً منها يصلح أن يكون مستنداً وتفسيراً للآية الشريفة، بمعنى أنه ينسجم وظاهر اللفظ من جهة، أو أن هناك قرينة مقالية أو حالية، تساعد على حمل اللفظ على هذا المعنى، أم أن الموجود إنما هو مجموعة من التأويلات غير المستندة إلى دليل من قريب أو بعيد، بل ربما كانت من صغريات التفسير بالرأي المنهي عنه والممنوع منه في النصوص الشريفة.

على أننا لو أردنا مناقشة الأقوال المذكورة كلاً على حدة، فإننا سوف نجدها مبتلاة بإشكالات عدة تمنع من الاستناد إليها، فمثلاً القول بأنه(ص) إنما قال ذلك نتيجة ما كان يلاقيه من استهزاء قريش، وتكذيب، فتأثر(ص) بالجانب الإعلامي المخطط له من قبل قريش في التصدي لدعوته المباركة، فعمد إلى التزمل والنوم، فهو مضافاً إلى كونه لا يليق بساحة النبي محمد(ص)، وهو الذي تكبد وتحمل المشاق، وعانى ما عانى في سبيل نشر الدعوة، ويكفي أن نقرأ ما لاقاه عندما حوصر في شعب أبي طالب، أو ما لاقاه من سفهاء قريش بعد وفاة حامية الإسلام أبي طالب(ع)، لنعرف أنه(ص) ما كان ليتأثر أثناء دعوته الشريفة بما كانت تحوكه الأيدي القرشية للحيلولة دون انتشارها.

يمنعه أنه لا يوجد عليه شاهد من حديث مروي عن أحد المعصومين(ع)، ولا آية من الآيات الشريفة، كما أن المعنى الظاهري للفظ لا يساعد على ذلك، إذ الخبر مجرد رواية مروية عن جابر حدّث بها، واحتمال الكذب فيها على جابر كبير جداً، وبالتالي الشك في أصل النسبة، كما لا يخفى.

وأضعف من ذلك ما جاء عن الزمخشري خصوصاً سوء الأدب الصادر منه مع النبي(ص) عندما يقرر أنه خوطب بما يهجن فعاله، لأنه كان كمن لا يهمه أمر، ولا يعنيه شأن، فإن القارئ للقرآن الكريم يرى مدى الأدب القرآني الذي تعامل به الباري سبحانه وتعالى مع نبيه وحبيبه محمد(ص)، فلم يرد في القرآن الكريم أي خطاب يتضمن تقريعاً، بل ولا شدة، حتى قيل: أن أشدّ ما خوطب به النبي(ص)، هو في آية البلاغ عند قوله تعالى:- (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)، ومن الواضح جداً أن هذا اللحن من الخطاب لا يتضمن تقريعاً أو تهديداً بقدر ما يشير إلى بيان الآثار المترتبة كنتائج على ما تقوم به، فكأنه تعالى يقول: إن بلغت ولاية علي(ع)، فقد أتممت بلاغ الرسالة، وإن لم تفعل ذلك فكأن جميع الجهود المبذولة منك في إبلاغها لم تحصل لما يترتب على ذلك من ضياع، وانحراف بعد رحلتك عن عالم الدنيا.

ومع ذلك، أين هذا الخطاب مع المخاطبة بالاستهجان، وخطاب التنكيل لكونه(ص) لا يهمه أمر، ولا يعنيه شأن.

بل قد قيل أنه(ص) لم يخاطب باسمه نداءً، وإن ذلك من خصائصه دون سائر الرسل، إكراماً له وتشريفاً.

على أن الرجوع للتأريخ يكشف خلاف ما قاله الزمخشري، فإن الرجوع لسورة طه، يعطينا حقيقة اعتناء النبي(ص) بشأن الرسالة، وكيفية الاهتمام بها، قال تعالى:- (طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)[6].

وأما القول بأن منشأ تزمله(ص) كان خوفه من الملك عندما نزل عليه الوحي من السماء فقصد خديجة، مرتجفاً فؤاده، قائلاً: زملوني، زملوني، وما أعقب ذلك من أنها كانت تخبره أنه يقري الضيف، ويفعل محاسن الأخلاق، ومكارمها، وأنه يصل الرحم، وأن ربه لن يخزيه، وأنها كانت تكشف عن رأسها فيذهب ما كان يراه يعني الملك، فإذا غطته عاد، فموجبات رفضه واضحة، فهو مضافاً لمخالفته للقرآن الكريم، حيث يقول تعالى:- (ولقد رآه بالأفق المبين* وما هو على الغيب بضنين* وما هو بقول شيطان رجيم)[7]. إذ مقتضى الخبر المذكور أنه(ص) كان يشك في نبوته، وصحة رسالته، واتصاله بالسماء، وأنه من عند الله سبحانه وتعالى، بينما نجد الآيات الشريفة تقرر أمراً خلاف ذلك تماماً، كما لا يخفى.

ثانياً: مع كل ما نكنه من الاحترام لسيدتنا ومولاتنا خديجة(ع)، إلا أنها لم تبلغ شيئاً مما بلغه النبي محمد(ص) في المعرفة والدراية، والإحاطة، حتى أنها صارت تهدأ روعه وتسكن قلبه، وتعلمه أن ربه رحيم به، عادل في حكمه، لأنه يملك الخصال الحميدة.

ثالثاً: ومن هو ورقة بن نوفل الذي قصدته خديجة لكي تأخذ منه ما يعلّمها أن زوجها نبي هذه الأمة، حتى قيل أن ورقة لما لقي النبي(ص) طلب منه أن يقص عليه ما رآه فلما أخبره، قال له هذا الناموس الأكبر الذي يأتي الأنبياء، أو يعقل أن يكون النبي المرسل هو آخر ما يعلم بشأن رسالته حتى أحتاج إلى ورقة بن نوفل وهو الشخصية الواقعة مثاراً للجدل بين المؤرخين، وجوداً وعدماً، ليعلمه بنبوته وأنه رسول آخر الزمان.

ومع التسليم بكون ورقة شخصية وجودية، فإن المؤرخين لم ينقلوا له صدارة قيادية، لا في الانتساب للحنيفية، ولا في المسيحية، كما نسب إليها، بل هو من الشخصيات البعيدة جداً عن الجانب الريادي في هذا المجال، فكيف يملك هذه القدرة والإحاطة والمعرفة، إن هذا كله يراد منه الحط من شأن رسول الله(ص).

رابعاً: إن ما هو الثابت عندنا تاريخياً من أنه(ص) كان متعبداً في غار حراء، وأنه كان يختلي بربه في كل عام مدة من الزمان، يتعبد فيها، ويتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، مانع من القبول بهذه الرأي والتفسير، وهذا القول، وذلك لأننا نعتقد أنه(ص) كان في غار حراء يتعبد على وفق رسالته ونبوته هو(ص)، وما كان متعبداً على وفق رسالة أحد غيره، وذلك لما ثبت عندنا من النصوص الشريفة، أنه(ص) كان في البداية محدثا، ومن ثمّ صار نبياً، فكان طيلة فترة تعبده في غار حراء على وفق نبوته يعبد الله سبحانه، حتى جاءه جبرائيل آمراً إياه أن يصدع بالرسالة، وأنه يعمد إلى إبلاغه، فهو كان على معرفة ودراية بجبرائيل، وإحاطة كاملة به، لأنه كان يأتيه طيلة فترة نبوته، بل وقبل ذلك عندما كان محدثاً، فكيف يصيبه هذا الهلع والفزع، والخوف بالصورة التي يصفها هذا القول!!!.

ويؤكد ما ذكرنا ما رواه الطبرسي في إعلام الورى، حيث جاء فيه: وكان بين الجبال يرعى غنماً لأبي طالب، فنظر إلى شخص، يقول له: يا رسول الله! فقال له: من أنت؟ قال: جبرائيل، أرسلني الله إليك ليتخذك رسولاً-إلى أن قال-ونزل جبرائيل وأنزل معه ماء من السماءـ وقال: يا محمد! قم وتوضأ للصلاة، وعلمه جبرائيل الوضوء، وغسل الوجه واليدين من المرفق، ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه السجود والركوع. فلما تم له(ص) أربعون سنة أمره بالصلاة وعلمه حدودها، ولم ينـزل عليه أوقاتها، فكان رسول الله(ص) يصلي ركعتين ركعتين في كل وقت. وكان علي بن أبي طالب يألفه ويكون معه في مجيئه وذهابه ولا يفارقه، فدخل علي(ع) إلى رسول الله(ص) وهو يصلي، فلما نظر إليه يصلي، قال: يا أبا القاسم! ما هذه؟ قال: الصلاة التي أمرني ربي بها، فدعاه إلى الإسلام، فأسلم وصلى معه، وأسلمت خديجة. فكان لا يصلي إلا رسول الله وعلي وخديجة[8].

هذا ولو قيل: كيف عرف النبي محمد(ص) أن النازل عليه، هو الأمين جبرائيل(ع)؟

قلنا: بأنه قد أشار الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) إلى أن ذلك حصل بالتوفيق، فقد روى محمد بن مسلم ومحمد بن مروان، عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: ما علم رسول الله(ص) أن جبرائيل(ع) من قبل الله إلا بالتوفيق[9].

نتيجة مهمة:

هذا والإنصاف، أن التأمل في كلمات المفسرين، ومحاولة استنطاق الظاهر القرآني للآية الشريفة يفيد أن المقصود من المزمل فيها لا يخلو عند أحد محتملين:

الأول: أن يكون المقصود منه هو المدثر بثيابه، فيكون المقصود من كونه(ص) متزملاً، يعني أنه كان مدثراً بثيابه. نعم لا يلزم أن يكون منشأ إدثاره بثيابه أنه كان خائفاً من الوحي لما نزل عليه، كما لا يزم منه أنه كان نائماً غير آبه، ولا مبالٍ، كمن لا يعنيه أمر، ولا يهمه، كما ورد في كلمات الزمخشري، وإنما الظاهر أن الإشارة إلى كونه مزملاً وقت نزول الوحي كأنه يهدف من خلاله بيان أنه ليس للوحي وقت محدد في النـزول على الرسول، كما ليس له مكان خاص، ولا كيفية معينة، فكما يمكن للوحي أن يـنزل على الرسول وهو مستيقظ في الحرم، أو المسجد، أو بين أصحابه، فإنه يمكن أن ينـزل عليه وهو بين أفراد أسرته، وفي خلوته، وهو نائم، وهكذا.

ولو قيل: ما هو الموجب لنـزول الوحي على رسول الله(ص)، في أوقات وحالات مختلفة، ومتعددة؟…

قلنا: من المحتمل أن في ذلك تأكيداً لصدق دعوى النبوة والرسالة، بحيث يتمحص المؤمنون المصدقون من غيرهم، فإن المصدقين برسالته، لا يفرقون أكان نزول الوحي بين أظهرهم، أم كان الوحي الملقى إليه نزل عليه في خلوته، وهكذا.

وبالجملة، فيكون المقصود من المزمل، هو المتدثر، والملتف بثيابه على نفسه، وفي حالة نوم.

ولا يذهب عليك أنه وفقاً لهذا المحتمل، سوف يكون الخطاب القرآني والحال هذه خطاباً متضمناً لكل معاني الود والتلطف والمحبة بالمخاطب، فالمخاطب يتودد للمخاطب، ويعمد إلى خطابه بأسلوب هادئ، يكشف عن مدى الحب والرابطة المتينة بينهما، فتدبر.

ويؤكد ما ذكرنا، بل يدل عليه، ما ذكره البرسوي تعقيباً على الآية محل البحث، قال: وفي خطابه بهذا الاسم-أي المزمل-فائدتان:

أحدهما: الملاطفة، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي لعلي لما رآه نائماً قد لصق بجنبه التراب: قم أبا تراب، إشعاراً بأنه غير عاتب عليه، وملاطفة له، وكذلك قوله(ص) لحذيفة: قم يا نومان، وكان نائماً، فقول الله تعالى له:- (يا أيها المزمل)تأنيس وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب.

الفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمل راقد ليله لينتبه إلى قيام الليل، وذكر الله فيه[10].

هذا ويحتمل أن يكون منشأ تدثره وتزمله بثيابه مضافاً لما ذكرناه، كونه ينام شيئاً من الليل ثم يستيقظ ليوصل ما تبقى من الليل بالنهار حتى وقت صلاة الفجر، فجاءه الخطاب القرآني، بأنه ليس المطلوب منك قيام الليل بأكمله، وإنما المطلوب منك قيام بعض الليل، فلاحظ قوله تعالى:- (قم الليل إلا قليلاً* نصفه أو انقص منه قليلاً)[11].

الثاني: أن يكون المقصود من المزمل، هو المعنى الذي أشير إليه في كلمات عكرمة، من أنه المحتمل لأعباء النبوة والرسالة.

القول المختار:

هذا وطبقاً لما تقدم يمكن القول بأن القول المتصور قبوله وصحة الاستناد إليه هو القول بأن المقصود من المتزمل المتحمل، وهو المحتمل الثاني من المحتملين المتصورين في المقام، وهو مختار عكرمة، كما عرفت، بقرينة ملاحظة المعنى اللغوي لهذه الكلمة، ومن الطبيعي أن هذا المعنى يتوافق كثيراً مع الظهور العرفي للفظ، فضلاً عن أنه يساعده السياق الواقع في السورة المباركة، إذ أن الآية التي تليها مباشرة هي قوله تعالى:- (قم الليل إلا قليلاً)، فإن الحديث عن بيان مسؤولية ملقاة وتحمل لتكليف سماوي يراد منه أدائه، والظاهر أن الإشارة إلى قيام الليل على أنه نحو من أنحاء التغذية الروحية للاستعانة به على المشاق والمصاعب التي يلاقيها المتحمل لهذا العبأ الكبير.

ولا ريب أن ما ذكر لا يعدو كونه دعوى تحتاج برهاناً وإثباتاً، فما لم يتحقق ذلك، كان ذلك موجباً لردها، شأنها شأن بقية الأقوال الأخرى، ولهذا سوف نقيم جملة من القرائن، كل واحدة منها تصلح منبهاً على صحة ما قلناه، فضلاً عن أن ضم بعضها لبعض يفيد تمامية المدعى، فلاحظ.

المعنى اللغوي:

إن أول ما ينبغي الإحاطة به هو معرفة المقصود من كلمة المتـزمل، فما هو المقصود منه في كلمات أهل اللغة؟…

وحتى لا يخرج البحث عن مساره الطبيعي، سوف أشير إلى مصدرين تضمنا الإشارة إلى أن المقصود من التزمل، بمعنى الحمل، أو التحمل، فلاحظ ما ذكره الفيومي في المصباح: زملته: تزميلاً، فتزمل، مثل لففته به فتلفف به، وزملت الشيء حملته ومنه قيل للبعير زاملة، الهاء للمبالغة، لأنه يحمل متاع المسافر[12]. ودلالة العبارة واضحة في أن التـزمل تعني الحمل، كما لا يخفى.

وجاء في كتاب المنجد: زمل زملاً الشيء، حمله، إزدمل الحمل، حمله بمرة واحدة، الزمل الحمل[13].

وعبارته لا تختلف عن عبارته سابقه، على أن دلالتها على المدعى أكثر صراحة من دلالة سابقتها، كما أن هذا المعنى أيضاً يستفاد مما جاء في لسان العرب، فيمكن الرجوع له في مادة زمل.

وبالجملة، فالمستفاد من كلمات أهل اللغة أن المقصود من زمل، بمعنى تحمل، أو احتمل، وهذا يعني أن هناك تحملاً أو احتمالاً من قبل النبي محمد(ص)، ويساعد هذا المعنى ما جاء في الآيات الشريفة بعد ذلك، حيث يقول سبحانه:- (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)[14]، خصوصاً بملاحظة جملة من كلمات المفسرين والتي تضمنت تفسير الثقل الوارد في الآية بالثقل المادي، فإنه يساعد كثيراً على المدعى.

أول ما نزل من القرآن:

والقرينة الثانية، هي أن الأقوال السابقة استمدت التفسير الذي تبنته من خلال الاستناد إلى أمر وهو وقت نزول السورة المباركة، فمثلاً من ربطها بخوفه(ص) من الوحي جعل نزول سورة المزمل، وكذا سورة المدثر، إما أول ما نزل عليه(ص)، أو بعد نزول سورة العلق مباشرة، وهذا يعني أنهما في عداد أوائل السورة النازلة عليه(ص). وكذا أيضاً القول بأنه تزمله بثيابه هماً وغماً من التيار الإعلامي المضاد من قبل المشركين، وهكذا.

وهذان القولان يحتاجان إلى إثبات أمرين، وهما:

الأول: إثبات وقت نزول هاتين السورتين.

الثاني: أن القرآن الكريم كان ينـزل على رسول الله(ص) في فترة الدعوة السرية، قبل تحقق الإعلان عن الرسالة المحمدية على العلن من خلال إبلاغ العشيرة، والصدع بالدعوة لقريش.

وقت نزول هاتين السورتين:

أما بالنسبة للأمر الأول، فلابد من ملاحظة النصوص التي تتحدث عن نزول القرآن الكريم، وما يوجد عندنا من النصوص المذكورة في المقام هو الخبر المنقول من التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري(ع)، فقد روي عنه(ع) أنه قال وهو يصف بعثة النبي(ص): حتى استكمل سن الأربعين، ووجد الله قلبه الكريم أفضل القلوب وأجلها-إلى قال-ونظر إلى الروح الأمين جبرائيل المطوق بالنور طاووس الملائكة، هبط إليه وأخذ بضبعه وهزه، وقال: يا محمد! أقرأ، قال: ما أقرأ؟ قال: يا محمد!:- (إقرأ باسم ربك الذي خلق)-إلى أن قال-وقد نزل محمد من الجبل وقد غشيه من عظمة الله وجلال أبهته ما ركبه الحمى الناقضة، وقد اشتد عليه ما كان يخافه من تكذيب قريش إياه، ونسبته إلى الجنون[15].

والمستفاد من هذا النص هو أن أول ما نزل عليه(ص) من القرآن الكريم هو سورة العلق، وظاهره أن نزول السورة المباركة كان في مبتدأ البعثة النبوية الشريفة كما لا يخفى.

إلا أن الأمر ينحصر في خصوص هذا الخبر، فلا يوجد بأيدينا خبر سواه، على أن هذا الخبر نفسه من حيث القبول مورد خلاف بين أعلامنا، وذلك للتأمل عندهم في صحة نسبة التفسير للإمام الحسن العسكري(ع)، وإحدى موجبات المنع من صحة النسبة مجهولية راوي التفسير، وعدم ثبوت وثاقتهما، فلاحظ. هذا فضلاً عن اشتماله على ما لا يمكن الالتـزام به، كما هو مقرر في محله.

نعم هناك رواية مروية عن الإمام الباقر(ع) رواها أبو الجارود في قوله سبحانه:- (ما ودعك ربك وما قلى)قال: ذلك أن أول سورة نزلت كانت:- (اقرأ باسم ربك الذي خلق)ثم أبطأ جبرائيل عن رسول الله(ص)، فقالت خديجة: لعل ربك قد تركك فلا يرسل إليك؟ فأنزل الله تبارك وتعالى:- (ما ودعك ربك وما قلى)[16].

وفي الكافي بسنده عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: أول ما نزل على رسول الله(ص):- (بسم الله الرحمن الرحيم إقرأ باسم ربك الذي خلق)[17]. ومثله روى الصدوق في عيون أخبار الرضا(ع)[18].

هذا ولو تأملنا هذه النصوص، فسنجد أنها لا تشير إلى أن نزول سورة العلق كان في مبتدأ البعثة الشريفة، نعم يستفاد منها أن سورة العلق هي أول سورة نزلت، لكن ذلك لا يعني أنها نزلت في بداية البعثة الشريفة.

لا يقال: إن مقتضى بعثته(ص) يستدعي وجود معجزة عنده تثبت صحة مدعاه في كونه نبياً مرسلاً من قبل السماء؟…

فإنه يقال: بأن ما ذكر صحيح حال كونه بصدد التبليغ والدعوة، لا ما إذا كان يعيش حالة من السرية والكتمان، فإنه يكفيه أن تكون له بعض المعجزات الأخرى الموجودة، فتأمل.

والحاصل، لا يوجد عندنا ما يثبت أن نزول سورة العلق كان في بداية البعثة إلا خصوص الخبر المنقول من التفسير المنسوب للإمام العسكري(ع)، وقد عرفت حاله، فلاحظ.

على أن للمفسرين كلاماً في فترة فتور الوحي وانقطاعه، وهي قد تساعد على عدم كون نزول السورتين المزمل والمدثر في أوائل البعثة الشريفة بالصورة المذكورة.

والمتحصل من جميع ما تقدم، أنه لم يحرز كون السورتين قد نزلتا خلال هذه المدة الزمنية، خصوصاً وأن النصوص لا تدل على شيء من ذلك، بل حتى الرجوع للنصوص الواردة من قبل العامة لا تساعد على أكثر مما تقدمت الإشارة إليه. نعم للعلامة الشيخ معرفة(ره) كلام في كتابه التمهيد، يتضمن أن أول ما نزل على النبي محمد(ص) هو سورة الفاتحة، وجعل شاهده على ذلك أنها سميت بفاتحة الكتاب، فليراجع[19].

فترة الدعوة السرية:

وهذا هو الأمر الثاني، وهو هل نزل القرآن الكريم في فترة الدعوة السرية، وحال مرحلة الكتمان، أم أن القرآن الكريم لم ينـزل خلال تلك الفترة، وقد أشير لإشكال في كلمات المفسرين، فقد ذكر العلامة الطباطبائي(ره) عند تعريفه بسورة الحجر: تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي(ص) ورميه بالجنون، ورمي القرآن الكريم بأنه من أهذار الشياطين، ففيها تعزية للنبي(ص) وأمر بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطيـيب لنفسه الشريفة، وإنذار وتبشير. وتشتمل السورة على قوله تعالى:- (واصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التأريخ أن النبي(ص) اكتـتم في أول البعثة-ثلاث سنين أو أربعاً أو خمساً-لا يعلن دعوته، لاشتداد الأمر عليه، فكان لا يدعو إلا آحاداً ممن يرجو منهم الإيمان، يدعوهم خفية ويسر إليهم الدعوة، حتى أذن له ربه في ذلك وأمره أن يعلن دعوته. وتؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة: أنه(ص) كان يكتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله عليه:- (فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين) فخرج إلى الناس وأظهر الدعوة، فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية[20].

نعم احتمل بعض الباحثين أن يكون للقرآن نزول في مرحلة الدعوة السرية، استناداً إلى التناسب الكمي فيما بين ما نزل من القرآن إلى سورة الحجر، مع تلك الفترة[21].

وبالجملة، ما يمكن أن يتصور في البين على كلا الاحتمالين، أعني سواء قلنا أن القرآن نزل في المرحلة السرية، أم لم ينـزل، إلا أننا لا نجد في النصوص الشريفة ما يشير إلى كون نزول هاتين السورتين خلال تلك الفترة إلا من خلال ما ذكر في ترتيب السور القرآنية، إلا أن هذا لا يثبت أنهما نزلتا عتباً على النبي(ص) كما أدعي، إذ قد عرفت فيما تقدم رفض ذلك، فضلاً عن وجود ما يمنعه من الشواهد. إلا أننا نتأمل في أن يكون ذلك خلال فترة المرحلة السرية، ضرورة أن قوله تعالى:- (يا أيها المدثر* قم فأنذر) وهو الدعوة للإنذار يتناسب كثيرا مع قوله تعالى:- (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ومع قوله تعالى:- (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، وهو الإشارة لمرحلة الدعوة العلنية، وليست مرحلة الدعوة السرية، مما يعني أنها أجنبية تماماً عن تخيل ما ذكر في أقوال المفسرين في بيانها.

وهذا كله يؤكد ما قويناه من أن المقصود من المزمل هو المتحمل، بلحاظ ما كلف به من مسؤولية عظمى، وهي الإنذار والإعلان والتصريح بالدعوة، ودعوة الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور، وهو الهادي إلى سواء السبيل[22].

————————————————————–

[1] سورة المزمل الآيات رقم 1-3.
[2] سورة المدثر الآيات رقم 1-3.
[3] الكشاف ج 4 ص 634.
[4] التفسير الكبير ج 29-30 ص 171.
[5] الدر المنثور ج 6 ص 276.
[6] سورة طه الآيتان رقم 1-2.
[7] سورة التكوير الآيات رقم 23-25.
[8] إعلام الورى ص 36.
[9] التوحيد للشيخ الصدوق ص 242.
[10] مفردات الراغب الأصفهاني الحاشية ص 383 مادة زمل.
[11] سورة المزمل الآيتان 203.
[12] المصباح المنير مادة زمل ص 255.
[13] المنجد مادة زمل.
[14] سورة المزمل الآية رقم 5.
[15] بحار الأنوار نقلاً عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري(ع) ج 18 ص 206.
[16] تفسير القمي ج 2 ص 428.
[17] أصول الكافي ج 2 ص 628.
[18] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 6.
[19] التمهيد ج1 ص 96.
[20] الميزان في تفسير القرآن ج 12 ص 95-96.
[21] موسوعة التأريخ الإسلامي ج 1.
[22] من مصادر البحث: الميزان، التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم القمي، موسوعة التأريخ الإسلامي ج 1، كتاب التوحيد للصدوق، بحار الأنوار.