25 أبريل,2024

الولاية التكوينية لأهل البيت (5)

اطبع المقالة اطبع المقالة

لا زال كلامنا مستمراً في بيان حقيقة الولاية التكوينية، وكنا قد ذكرنا فيما تقدم أن هناك عدة احتمالات ذكرها الأعلام في شرح وبيان حقيقة الولاية التكوينية، وذكرنا منها ثلاثة احتمالات، لكنها لم تصلح لبيان حقيقة الولاية التكوينية، لعدم انسجامها لبيان ذلك.

قدرة طبيعية للمعصوم:

الاحتمال الرابع، هو أن حقيقة الولاية التكوينية عبارة عن قدرة طبيعية للمعصوم، تكون موجودة عنده يمكنه من خلالها أن يتصرف في الكون وأموره بأي نحو شاء، وذلك لتفويض الله سبحانه له ذلك في كل الأوقات والأزمنة.

ومن الواضح أن هذا التعريف يشمل أن الولاية التكوينية نحواً من أنحاء التفويض، لكن لا على نحو الإطلاق، بل مضافاً إلى ثبوت التفويض من الله سبحانه وتعالى للمعصوم، نحتاج إلى وجود تلك القدرة عنده.

وبعبارة أخرى، إن لوجود القدرة على التصرف عند المعصوم(ع) مدخلية في حقيقة الولاية التكوينية، ومنه يتضح اختلاف التعريف المذكور عن تعريفها بأنها مجرد التفويض، فلاحظ.

ويمكننا إيضاح ذلك من خلال البيان التالي[1]:

لا ريب ولا إشكال في أنه لا مؤثر في الكون والوجود إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أنه العلة الحقيقية التي تنـتهي إليها كافة التأثيرات، كما أنه القدرة الذاتية المطلقة. فكل ما يكون في الكون من تأثير أو خلق، أو إيجاد وإعدام، وتغيـير أو تبديل، فإنه يرجع إليه سبحانه وتعالى.

نعم قد اقتضت الحكمة الإلهية، وفقاً لحكمٍ أن يجعل بعض الأسباب مؤثرة، كما يجعل لبعض العلل عليّة، وأن يجعل بينه وبين خلقه وسائط، فجعل في طول إرادته وقدرته قدرات أُخر تستمد من فيضه وقدرته، تؤثر في الأشياء إما بنحو التوليد، أو الإعداد، أو الواسطية في الفيض، أو المظهرية للقدرة والإرادة الإلهية.

وهذا لا يوجد فيه أي مانع أو محذور عقلي من قريب أو بعيد، وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي سبب الأسباب وأعطاها قدرتها على التأثير، كما أنه لا يوجد مانع عقلي أو شرعي من أن يجعل الله سبحانه وتعالى في طول إرادته وبمسببيته قانوناً أو سبباً يؤثر في الأشياء.

وبناءاً على ما ذكرناه، ذكروا أن الأدلة العقلية والنقلية، قد قامت على وجود ثلاث قدرات تؤثر في عالم التكوين، بعضها مادي طبيعي، وهي واحدة، والأخريان معنويتان غيـبيتان. وقد جعلها الباري سبحانه وتعالى وسائط لتنفيذ إرادته، وإظهار قدرته ومشيئته.

قدرات التأثير في عالم التكوين:

وتلك القدرات الثلاث هي:

الأولى: القوانين الطبيعية التي تحكم الكون وتخضعه للوازمها، كالجاذبية، والنار والهواء والماء، وكل ما له تأثير في الأشياء من علل الطبيعة وأسبابها.

وقد دل على مؤثرية هذه القدرة المادية الطبيعية في عالم التكوين، دليل العقل، بل الوجدان، مضافاً إلى أن الأدلة النقلية متواترة في إثبات ذلك، والبناء على صحته.

الثانية: الملائكة، وقد أشار القرآن الكريم إلى مؤثريتهم في الكون في قوله تعالى:- (والنازعات غرقاً* والناشطات نشطاً*والسابحات سبحاً*فالسابقات سبقاً*فالمدبرات أمراً)[2]. جاء في تفسير الميزان: الملائكة وسائط بينه تعالى وبين الأِشياء بدءاً وعوداً على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أنهم أسباب للحوادث فوق الأٍسباب المادية في العالم المشهود قبل حلول الموت والانتقال إلى نشأة الآخرة وبعده.

وأما وساطتهم في تدبير الأمور في هذه النشأة فيدل عليها ما في مفتـتح هذه السورة من إطلاق قوله:- (والنازعات غرقاً* والناشطات نشطاً*والسابحات سبحاً* فالسابقات سبقاً* فالمدبرات أمرا).

وكذا قوله تعالى:- (جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع)الظاهر بإطلاقه في أنهم خلقوا وشأنهم أن يتوسطوا بينه تعالى وبين خلقه ويرسلوا لإنفاذ أمره.

فلا شغل للملائكة إلا التوسط بينه تعالى وبين خلقه بإنفاذ أمره فيهم، وليس ذلك على سبيل الاتفاق بأن يجري الله سبحانه أمراً بأيديهم، ثم يجري مثله لا بتوسيطهم، فلا اختلاف ولا تخلف في سنـته.

ومن الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاماً، وأمر العالي منهم السافل بشيء من التدبير، فإنه في الحقيقة توسط من المتبوع بينه تعالى وبين تابعه في إيصال أمر الله تعالى، كتوسط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة:- (وما منا إلا له مقام معلوم)، وقال:- (مطاع ثم مكين)، وقال:- (حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق).

ولا ينافي هذا الذي ذكر من توسطهم بينه تعالى وبين الحوادث، أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث استناداً إلى أسبابها القريـبة المادية، فإن السببية طولية، لا عرضية، أي أن السبب القريب سبب لحادث والسبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى، وكونه السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبية، فإن السببية طولية كما سمعت لا عرضية، ولا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعية القريـبة، وقد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعية كما صدق استنادها إلى الملائكة.

ولا منافاة أيضاً بين ما تقدم من أن شأن الملائكة هو التوسط في التدبير وبين ما يظهر من كلامه تعالى أن بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى وتسبيحه والسجود له، وذلك لجواز أن تكون عبادتهم وسجودهم وتسبيحهم عن عملهم في التدبير وامتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزة بالتوسط[3].

وعلى أي حال، فقد تعرض القرآن الكريم إلى بيان أن الملائكة علل في التأثير، وأن لهم قدرة في التصرف في الأمور الكونية بحيث يكونوا أسباباً في حصول أمور ما، فقد ورد في القرآن الكريم ما يشير إلى أن لهم تأثيراً في إرسال الرياح والسحاب، وأن لهم تأثيراً في إنزال المطر، وإنزال الرزق، كما أن بعضهم وكل بقبض الأرواح.

الثالثة: المصطفى الحبيب محمد(ص)، وأهل بيته الأطهار(ع)، إذ أن مقتضى ثبوت التصرف في الأمور الكونية يستلزم بطريق أولى ثبوته لهم(ع)، وذلك لأنهم(ص) أكمل وأفضل وأعلى رتبة من الملائكة، بل هم حجج الله تعالى على الملائكة أيضاً كما هم حجج الله سبحانه على الخلق، كما أن الملائكة قد سخروا لخدمتهم، والاتصال بهم والتعلم منهم.

والحاصل، إن من المسلمات أن الكمال متى ما ثبت للداني، فإنه يثبت للعالي بطريق أولى.

وعلى هذا، فكما أن الملائكة مجاري الفيض الإلهي، ووسائط في الخلق والتدبير، أي تقع في سلسلة الأسباب والعلل لعالم الخلق والوجود، فيصل الفيض الإلهي إلى الموجودات بوساطتهم حدوثاً وبقاءاً، فكذلك الأمر بالنسبة للمعصومين(ع)، أي أنهم واسطة في الفعل والتنفيذ، ووصول الفيض الإلهي إلى خلقه. فإن الله تعالى قد أعطاهم قدرة على التأثير في الأشياء والتصرف في شؤونها، فهم أسباب ووسائل لقضاء حوائج العباد في الدنيا كما أنهم الشفعاء في الآخرة.

هذا ولا يخفى أن ظهور بعض المناقب والمقامات من معصوم دون آخر لا يوجب امتيازاً له، ضرورة أنهم(ع) جميعاً شركاء في الواسطية، وكذا في جميع الفضائل والمناقب. بمعنى أن ظهور قضاء الحوائج على يد أحدهم أو شفاء المرضى على يد آخر لا يوجب امتيازاً له على البقية، لما هو الثابت من أن هناك ترابطاً وتأثيراً بين الأشياء المادية، فكذلك الأمر في الأمور المعنوية.

وعلى أي حال، مما يؤكد ما ذكرناه من ثبوت قدرة التصرف لهم(ع) في الأمور الكونية، بل يثبته بشكل واضح ما جاء في الزيارة الجامعة في قوله(ع): بكم فتح الله، وبكم يخـتم، وبكم ينـزل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبكم ينفس الهم ويكشف الضر.

وبالجملة، فإن المعصومين(ع)، لهم قدرة تكويناً على التصرف في الأمور الطبيعية المادية، كما أن لهم قدرة على التصرف في الأمور المعنوية، فهم سبيل إلى إزالة هم المهموم، وكشف المكروب، وشفاء المريض، كل ذلك بإذن من الله سبحانه وتعالى.

أقسام الولاية التكوينية:

ثم إنه بعد الفراغ عن بيان معنى الولاية التكوينية والإشارة إلى منشأ هذه الولاية التكوينية، ينبغي الالتفات إلى أن ما سبق ذكره من أقسام للولاية التكوينية لله سبحانه وتعالى، فهي ثابتة لهم(ع)، ونعني بتلك الأقسام:

1-ولاية الإيجاد.

2-ولاية الإبقاء.

3-ولاية الإنماء.

4-ولاية الجزاء.

ولاية الإيجاد:

وقد دلت النصوص مضافاً إلى حكم العقل أن زمام العالم حدوثاً وإيجاداً بيدهم(ع)، وأنهم واسطة في التكوين بإذن الله تعالى، بهم يخلق الله الأشياء، ويوجدها حدوثاً، كما أن زمام الإماتة بيد عزرائيل.

ولاية الإبقاء:

ولا إشكال في أن بقاء الكون الذي هم الواسطة في وجوده، يتوقف على وجودهم وبقائهم(ع)، ولذا لولا الحجة(عج) لساخت الأرض بأهلها.

ولاية الإنماء:

بمعنى أن لهم(ع) ولاية في شؤون الكون من حيث الزيادة الكمالية أو النقيصة وشؤونهما.

ولاية الجزاء:

وقد تضافرت النصوص وقام الإجماع على أن إياب الخلق وحسابهم عليهم(ع)

سؤال وجواب:

هذا ووفقاً لما ذكرناه في بيان حقيقة الولاية التكوينية، وأنها قدرة على التصرف في الكون وفقاً لتفويض من الله سبحانه وتعالى للمعصوم، وبالتالي أشرنا إلى أن هذا يوجب ثبوت قدرة للمعصوم على التصرف في الكون، وأنه واسطة في الفيض الإلهي، يأتي السؤال التالي:

لماذا اقتضت الحكمة الإلهية وجود وسائط بين الباري سبحانه وتعالى، وبين خلقه، وأنه عز وجل أعطى بعض المخلوقين أمر تدبير الكون وإدارة شؤونه، مع أنه عز وجل إذا أراد شيئاً فيقول له كن فيكون.

وجواب هذا السؤال، يتضح من خلال الالتفات إلى أن الكون من الموجودات الممكنة الوجود، وهذا يعني أنه مهما بلغ من السعة، فلن يمكنه استيعاب الفيض الإلهي مباشرة ومن دون وسائط، وذلك للفرق بين فيض الله تعالى، وبين الكون، وذلك لأن الكون محدود، وفيض الله عز وجل لا حدود له، فيكف يستوعب المحدود اللا محدود.

مضافاً إلى أن الحكمة الإلهية والتدبير الرباني وعدله، قد اقتضوا وجود وسائط في الفيض الإلهي، فلا يكون الفيض من دون وجودهم، وأن تلك الوسائط مجعولة في أول سلسلة العلل، فيصل الفيض الإلهي إليهم مباشرة، ومنهم يتوزع إلى كافة أفراد الكون، والسبب في ذلك يرجع لكون الفيض الإلهي لما كان قوياً وشديداً، فهو بحاجة إلى محل يكون قابلاً لتحمله، لأنه لو و صل للمحل الذي لا قابلية فيه، لكان ظلماً له، لأنه قد أعطي ما لا طاقة عليه، كما أنه أعطي ما لا يستحقه، ولا ريب في أنه سبحانه وتعالى منـزه عن الظلم، وبالتالي استدعى العدل الإلهي، وجود وسائط بينه سبحانه وتعالى وبين الكون.

ولما كان الأنبياء والأوصياء والأولياء أصحاب قابلية لتلقي الفيض الإلهي مع قوته وشدته، وذلك بسبب امتلاكهم قلوباً صافية وأرواحاً زكية، كما أنهم بشر، جعلوا وسائط للفيض الإلهي في هذا الكون.

——————————————————————————–

[1] المظاهر الإلهية في الولاية التكوينية ج 1 ص 212.

[2] سورة النازعات الآيات رقم 1-5.

[3] تفسير الميزان ج 20 ص 182-184.