18 أبريل,2024

عدم اعتبار الرجوع ليومه في القصر في المسافة الملفقة

اطبع المقالة اطبع المقالة

[size=6][/size]
[font=arial]المعروف أنه لا فرق في الحكم بلزوم التقصير بين كون المسافة المقطوعة مسافة امتدادية، أم مسافة تلفيقية، إذ الحكم في كليهما واحد، سواء بنينا على أن هناك موضوعين مستقلين للحكم بلزوم التقصير، أم بنينا على أن الموضوع واحد له مصداقان، أحدهما المسافة الامتدادية، والآخر هو المسافة التلفيقية، وقد كان ذلك ما لو قصد الرجوع من يومه أو ليلته [/font]في المسافة التلفيقية، بمعنى أنه قطع بعض المسافة، وأراد العود في نفس اليوم، أو في ليلة ذلك اليوم، بحيث كان المجموع عندها ثمانية فراسخ.

إنما الكلام فيما لو لم يقصد العود من يومه، أو ليلته، ولم يكن هناك ما يوجب التمام بمعنى عدم واجد قاطع يقطع من تحقق السفر الشرعي، فما هي وظيفته؟…

في المسألة أقوال:

أولها: التخيـير بين القصر والتمام، وهذا هو المشهور بين القدماء كما عرفت.

ثانيها: التخيـير بين القصر والتمام إذا كان مريداً الرجوع ليومه، والتمام لو لم يرد الرجوع ليومه، وهو مختار الشيخ(ره) في التهذيـبين والمبسوط.

ثالثها: التخيـير بين القصر والتمام، إذا أراد الرجوع ليومه في خصوص الصلاة دون الصوم، وهو مختار المفيد وسلار ووالد الصدوق.

رابعها: تعين التمام عليه، كما هو المعروف عن المرتضى وابن إدريس والفاضلين في بعض كتبهما.

خامسها: تعين القصر عليه، مما يجعل حكم المسافة التلفيقية، حكم المسافة الامتدادية، وهو مختار ابن أبي عقيل العماني.

هذا وينبغي قبل التعرض للنصوص الإشارة لمقتضى القاعدة، حيث قد عرفت منا فيما تقدم أن الأصل يقضي عند الشك في تحقق موجب التقصير هو البناء على التمام، مما يعني أنه لو لم يتم دليل معتبر على لزوم التقصير في المقام كان الوظيفة قاضية بالحكم بالتمام، وكذا لو كان هناك دليلان لكنهما تعارضا ولم يوجد ما يوجب ترجيح أحدهما على الآخر مما أوجب ذلك تساقطهما، فلا ريب في البناء حينئذٍ على أصالة التمام أيضاً كما لا يخفى.

وبالجملة، أصالة التمام محققة ما لم يوجد ما يوجب رفع اليد عنها، والبناء على القصر، فلاحظ.

وأما بالنسبة للنصوص، فهي:

منها: صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله(ع) أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ قال: بريد ذاهباً وبريد جائياً[19].

ومنها: صحيحة زرارة بن أعين قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن التقصير، فقال: بريد ذاهب وبريد جائي[20].

ومنها: ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن التقصير، قال: في بريد، قلت: بريد؟ قال: إنه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً، فقد شغل يومه[21].

ومنها: خبر سليما بن حفص المروزي قال: قال الفقيه(ع): التقصير في الصلاة بريدان، أو بريد ذاهباً وجائياً[22].

أقول: قوله: أو بريد ذاهباً وجائياً، ليس المراد منه أن المسافة المقطوعة في الذهاب والعودة بريد واحد، بل الظاهر أن المراد منه أن المسافة المقطوعة بريدان، عمدة ما كان حذف كلمة بريد الثانية، اعتماد على ظهورها لوجود ما يدل عليها وهي كلمة بريد الأولى، وهذا مألوف عند أهل اللغة كما لا يخفى.

هذا وقد في سند الخبر المذكور سليمان بن حفص المروزي، وهو لم يوثق إلا بناءاً على القبول بكبرى كامل الزيارات، إلا أنه قد عرفت منا في البحوث الرجالية عدم نهوض الكبرى المذكورة، وبالتالي تكون الرواية غير معتبرة.

ومنها: ما رواه الفضل بن شاذان-وهو مما يمكن البناء على اعتباره-عن الرضا(ع) في كتابه إلى المأمون قال: إنما وجبت الجمعة على من يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك، لأن ما تقصر فيه الصلاة بريدان، ذاهباً، أو بريد ذاهباً وبريد جائياً، والبريد أربعة فراسخ، فوجبت الجمعة على من هو نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، وذلك لأنه يجئ فرسخين، ويذهب فرسخين، وذلك أربعة فراسخ، وهو نصف طريق المسافر[23].

ولا يخفى أن الروايات التي ذكرناها لا يوجد عين ولا أثر من اعتبار القيد الوارد في كلمات بعض الأصحاب من اعتبار كون المسافة الموجبة للتقصير ما إذا كانت في يوم واحد أو يوم وليلته.، بل لا يوجد حتى إشارة فيها إلى ذلك.

هذا ويمكن أن يوجه مدعى المشهور في اعتبار كونه ليوم واحد أو ليوم وليلته بالتالي:

قد عرفت منا فيما تقدم أن هناك طوائف تعرضت للحديث عن المسافة الشرعية الموجبة للتقصير، وهي:

الأولى: النصوص التي حددت المسافة بثمانية فراسخ، وقد عرفت أن الظاهر منها الثمانية الامتدادية.

الثانية: النصوص التي حددت المسافة بالأربعة فراسخ، بناءاً على أنها ليست ظاهرة في خصوص الامتدادية، بل هي مشيرة إلى حكم الذهاب فقط، وساكتة عن الرجوع مما يوجب إطلاقاً فيها.

الثالثة: النصوص التي حددت المسافة بأربعة فراسخ ذهاباً وإياباً.

ولما كانت الطائفتان الأوليان متباينـتين بحسب المفهوم كما قدمنا، جاءت الطائفة الثالثة شارحة للطائفة الثانية ومقيدة لإطلاقها، فيقال عندها بأن الأربعة فراسخ ليست بمفردها موجبة للتقصير، بل إذا كانت ذهاباً وإياباً.

هذا ولا يخفى أن الطائفة الثالثة لا إطلاق لها، ضرورة أنها في مقام الشرح، وليست في مقام البيان، فعندها يشك في سعة الموضوع وضيقه، فيقتصر على القدر المتيقن، وهو ما إذا كان الرجوع ليومه وليلته، لأنه من صغريات المخصص الدائر بين الأقل والأكثر، وفي الزائد نجرى حكم العام، وقد عرفت فيما مضى أنه التمام على كل مكلف.

ولا يخفى أن ما ذكر يكون صحيحاً لو بنينا على أن هنا عنوانين مستقلين موجبان للحكم بالتقصير:

الأول: الثمانية فراسخ الامتدادية.

الثاني: الثمانية فراسخ التلفيقية المكونة من أربعة ذهاباً وأربعة إياباً.

مع أنه قد عرفت مما مضى أن الموجب للحكم بالتقصير هو عنوان واحد، وهو عبارة عن تحقق المسافة الشرعية المقدرة بالثمانية فراسخ بأي نحو تحققت، وبأي كيفية كانت.

ولما لم يثبت اشتراط اتصال المسافة في يوم في المسافة الامتدادية، فكذلك يكون الكلام أيضاً في المسافة التلفيقية.

هذا ويشهد لما ذكرناه من عدم اعتبار العود ليومه في المسافة، ولو كانت مسافة تلفيقية، أمور:

أولها: الإطلاق المستفاد من النصوص المستفيضة والدالة على أن التقصير في بريد، بناءاً على أنها شاملة للعود، وكذا النصوص التي تضمنت أن أدنى التقصير في بريد، إذ لم يقيد فيها الرجوع أصلاً، بل قد عرفت فيما تقدم أنها مطلقة من هذه الجهة، نعم بمقتضى النصوص الدالة على أن التقصير في بريد ذاهباً وبريد جائياً، يحكم بلزوم الرجوع. لكنه ليس في يومه أو ليلته، حيث أن الأمر عندها يدور بين التقيـيد بالأقل، وهو الرجوع مطلقاً، وبين التقيـيد بالأكثر وهو الرجوع ليومه وليلته، فيكتفى عندها بالتقيـيد بالأقل، وينفى الأكثر بأصالة عدم التقيـيد.

ثانيها: الإطلاق المستفاد من النصوص الدالة لعى وجوب التقصير إذا كانت المسافة بريد ذاهباً وبريد جائياً، فإنها لم تقيد بكون الذهاب والإياب في يوم واحد، أو يوم وليلته، فلاحظ.

ثالثها: النصوص الدالة على لزوم القصر على أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفات، ولا يخفى أنه لا خصوصية لعرفات، وإنما هو مصداق لقاعدة كلية. والنصوص المشار إليها هي:

منها: صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله(ع) قال: إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجاً قصروا، وإذا زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتموا[24].

ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) قال: إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا، وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا[25].

ومنها: صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله(ع) قال: أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم ثم رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا[26].

ومنها: صحيحة معاوية بن عمار أنه قال لأبي عبد الله(ع): إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات. فقال: ويلهم(ويحهم)وأي سفر أشد منه؟ لا تتم[27].

ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنـزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى منى حتى ينفر[28].

ودلالتها على المدعى واضحة جداً، لأن الحجاج يخرجون إلى عرفات يوم التروية، ويعودون إلى مكة يوم العيد، أو اليوم الثاني منه، مما يعني أن سفرهم يومين أو أكثر. بل حتى لو جعلنا خروجهم إلى عرفات يوم التاسع من ذي الحجة صباحاً، وعادوا إلى مكة يوم العيد صباحاً، أو ضحى لكانت المدة الزمنية المستغرقة في الخروج والعودة أكثر من يوم، حتى لو قلنا أنه ليومه وليلته، فإنه لا يثبت رجوعهم فيه.

هذا ويؤيد كون هذه النصوص بصدد إفادة قاعدة كلية، وليست ناظرة لخصوص عرفات، رواية إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن(ع) عن قوم خرجوا في سفر، فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا من الصلاة، فلما صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ تخلف عنهم رجل لا يستقيم سفرهم إلا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أياماً لا يدرون هل يمضمون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ قال: إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم، أقاموا أو انصرفوا، وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فيتموا الصلاة، أقاموا أو انصرفوا، فإذا مضوا فليقصروا.

وهل تدري كيف صار هكذا؟ قلت: لا أدري. قال: لأن التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقل من ذلك، فلما كانوا قد ساروا بريداً وأردوا أن ينصرفوا كانوا قد ساروا سفر التقصير. فإن كانوا ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: بلى، إنما قصروا في ذلك الموضع لأنهم لم يشكوا في مسيرهم، وأن السير يجدّ بهم، فلما جاءت العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا[29].

وإنما جعلناها مؤيداً، ولم نجعلها شاهداً ودليلاً الضعف السند الموجود فيها بكلا طريقيها، بسبب محمد بن أسلم في طريق الصدوق، ومحمد بن أسلم وصباح الحذاء في طريق الكليني.

وبالجملة، فإنها دالة على أن الوظيفية في المسافة التلفيقية المتكونة من الذهاب أربعة فراسخ والرجوع مثلها هي القصر، حتى لو لم يرجع ليومه، ما دام لم يتحقق منه ما يوجب قطع سفره.

هذا وقد يقال: إن نصوص الخروج لعرفات معرض عنها من قبل الأصحاب، لعدم التـزامهم بمضمونها من الحكم بالقصر، وقد عرفت في محله أن الإعراض، إن لم يكن كاسراً للرواية ومسقطاً لها عن الحجية، فلا ريب في كشفه عن وجود خلل فيها يمنع من دخولها دائرة الحجية، أو يدعو إلى التأمل فيها قبل الاعتماد عليها.

والإنصاف، أن الإعراض متحقق في البين، مما لا إشكال فيه، كما أنه قد ذكرنا في محله أنه إن لم يكن سالباً للحجية، فلا ريب في كونه يكشف عن شيء يدعو للتأمل قبل قبولها.

إلا أن الكلام في أن هذا الإعراض، هل هو إعراض عن أصل الخبر، أم أنه إعراض عن مضمونه، بمعنى أن المقام من الأمور الاجتهادية الناجمة عن عدم وضوح الظهور، لاحتمال الخصوصية وعدم استفادة قاعدة كلية في المقام، ولا ريب في أنه لو كان منشأ الإعراض ما ذكرنا لم يكن ذلك موجباً لسقوط الخبر عن الحجية، كما هو مفصل في محله.

نعم لو كان ظهور النصوص من الوضوح بمكان، ومع ذلك أعرضوا عن دلالته على المدعى، فلا ريب في سلب الحجية منه حينئذٍ، ضرورة أن منشأ حجية الظهور هو السيرة العقلائية، كيف وقد أعرضوا هؤلاء الأعلام وهم من أبرز العقلاء عن ظهور النص، فيستكشف عدم حجيته، فلاحظ.

والحاصل، لو سلمنا وجود الإعراض في البين كما هو غير بعيد، إلا أنه لا يمنع من الحجية لما عرفت، فلاحظ.

هذا وقد يستشكل في دلالة أخبار عرفات على المدعى، بأن يقال: إن مفادها هو عين مفاد النصوص التي سبقت منا حكايتها عن الشيخ الكليني، بمعنى أنها ظاهرة في أن موضوع القصر هو طي أربعة فراسخ، دونما نظر منها إلى الرجوع، فتكون دالة على ذلك، ويكون مفادها هو مفاد تلك النصوص[30].

وقد عرفت الكلام حول تلك النصوص، ومدعى إمكانية الجواب عنها من عدمه، ومدى معارضتها للنصوص، وعليه يجري فيها ما ذكرناه هناك، فلا حاجة للإعادة.

هذا وقد أجاب السيد الفقيه البروجردي(قده) عنها، بالتالي:

أما رواية الحلبي، والأوليان من روايات معاوية، فيحتمل أن يكون المراد بأهل مكة فيها، أهل بواديها، بحيث يكون من مقرهم إلى عرفات ثمانية فراسخ، فلا يكون سفرهم تلفيقياً.

لا يقال: إن هذا الاحتمال مخالف لظاهر النصوص المذكورة.

فإنه يقال: إن هناك قرينة في النصوص توجب صرف ظاهرها عما هي عليه، والقرينة هي، أنه قد علق الإتمام فيها على دخول المنازل، إذ لو كان سكان نفس البلد لم يصح تعليق الإتمام على زيارة البيت ودخول المنازل، بل وجب الإتمام بمحض الوصول إلى حد الترخص[31].

ومن الواضح إمكانية الإجابة عن هذه القرينة، بما سوف يأتي منا من عدم اعتبار حد الترخص في الرجوع وفاقاً لابن بابويه، ولذا تنبه(ره) إلى ذلك، فأشار إلى أنه قد يدفع ما ذكرناه من القرينة، بعدم اعتبار حد الترخص، وبقاء القصر إلى أن يصل المسافر إلى منـزله كما اختاره ابن بابويه[32].

بل يمكن أن يقال: بأن المراد من دخولهم منازلهم، الإشارة إلى وصولهم إلى حد الترخص، وهو بلوغهم مكة، وبالتالي تنتفي القرينة المشار إليها في كلامه(ره) بطريق آخر، وقد أشار(قده) إلى ذلك بقوله: أن يقال: بأن المراد بدخولهم في منازلهم وصولهم إلى مكة[33].

تنبيـه:

لقائل أن يقول بالتالي:

إنه لا إطلاق في روايات البريد، بل هي ناصة على أن المسافة الشرعية الموجبة للتقصير هي أربعة فراسخ كما هو مختار الكليني(ره) وقد عرفت منا سابقاً الإصرار على أنها لا إطلاق لها.

كما أن روايات الذهاب بريداً والرجوع مثله، أيضاً لا إطلاق لها، إذ أنها ناظرة بمقتضى الواقع الخارجي إلى خصوص الذهاب والعود ليومه أو ليلته، فعندها تتشكل قرينة حالية تمنع من انعقاد إطلاق فيها.

وقد عرفت أن رواية إسحاق ضعيفة سنداً، وأما روايات الخروج لعرفات فإنها مختصة بعرفات لخصوصية فيها.

فلا ريب حينئذٍ من الالتـزام بما عليه المشهور من اشتراط العود ليومه وليلته لكي يحكم بوجوب القصر، والوجه في ذلك يعود لكوننا نشك في أن شرط وجوب القصر هل هو المسافة الملفقة من أربعة فراسخ ذهاباً وإياباً مطلقاً، أم هو مع الرجوع ليومه وليلته؟…

ومن الواضح أن هذا شك في مخصص عموم التمام، إذ قد عرفت فيما مضى أن العموم عندنا هو: كل مكلف يتم صلاته.

والمتيقن من التخصيص، هو ما إذا كان الرجوع ليومه وليلته، ويـبقى الباقي داخلاً تحت العام، فيلزمه التمام، وعليه يتم ما ذهب إليه المشهور.

هذا وقد يستدل لمختار المشهور من خلال التعليل الوارد في صحيح محمد بن مسلم من أنه: قد شغل يومه، يقيد إطلاق النصوص التي دلت على أنه لا يعتبر الرجوع ليومه، لأنه منصوص العلة، إذ أنه لا ينطبق عليه أنه شغل يومه إلا إذا رجع ليومه.

وفيه: أنه قد عرفت فيما مضى أن شغل اليوم عبارة أخرى عن تحقق المسافة الامتدادية المعبر عنها بالثمانية فراسخ، ولذا قلنا هناك بأنه لا يلزمه أن يشغل يومه، وإنما هو ملزم بقطع مسافة مقدرة بكونها ثمانية فراسخ، والمعبر عنه بشغل اليوم، ومنه يتضح أنه لما لم يلزم أن يكون شاغلاً ليومه ليتحقق القصر منه في المسافة الامتدادية، فكذا لا يلزمه ذلك في المسافة التلفيقية.

هذا وقد يتمسك إلى ما عليه المشهور من اعتبار الرجوع ليومه، بصحيح أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إني كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخاً في الماء، فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة، ثم بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدر أصلي في رجوعي بتقصير أم بتمام، وكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً، فكان عليك حين رجعت أن تصلي بالتقصير، لأنك كنت مسافراً إلى أن تصير إلى منـزلك[34].

وتقريب الاستدلال بها على المدعى أن يقال:

إن اليوم في الصحيح هو مجموع الليل والنهار، ومورد السؤال هو ما إذا ذهب في النهار، وبدا له الرجوع في الليل، فما هي وظيفته حينئذٍ؟…

وقد أجابه(ع) بالقصر إذا كان قد سار بريداً، فعندها يستفاد من الصحيح المذكور جملة شرطية مفادها: من بدا له الرجوع في الليل بعد أن سار في النهار بريداً، فعليه القصر. ومفهوم هذه الجملة الشرطية، أنه إذا لم يرجع في الليل، فلا يسوغ له التقصير.

والإنصاف، أن التقريب المذكور حسن في نفسه، إلا أنه لا يمكن القبول به، ضرورة أن التقيـيد بالرجوع في الليل الذي هو مصب الاستدلال، قد ورد في كلام السائل، ولم يرد في كلام الإمام(ع)، والوارد في كلامه(ع) إنما هو التقيـيد بأصل الرجوع، قال(ع): إن كنت قد سرت في يومك الذي خرجت فيه بريداً، فكان عليك حين رجعت. ولم يتضمن كلامه(ع) الإشارة إلى التقيـيد بالرجوع في ليلته.

ويؤيد ما ذكرناه ما جاء بعد ذلك في النص، قال(ع): وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريداً، فإن عليك أن تقضي كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام.

وقد يستدل للمشهور أيضاً باعتبار الرجوع ليومه بما ذكره غير واحد من الأصحاب من عبارة الفقه الرضوي: التقصير واجب إذا كان السفر ثمانية فراسخ، وإن كان سفرك بريداً واحداً وأردت أن ترجع من يومك قصرت، لأن ذهابك ومجيئك بريدان، وإن عزمت على المقام، وكان سفرك بريداً واحداً، ثم تجدد لك الرجوع من يومك فلا تقصر.

ودلالته على المدعى من خلال المفهوم واضحة، إذ أن مفاده أنه لو لم يرد الرجوع ليومه، فلا تقصير عليه.

ولا ريب في أن الاستناد للخبر المذكور، يتوقف على ثبوت أمرين:

الأول: صحة نسبة الكتاب للإمام الرضا(ع)، أو لأحد أصحابه، أو لفقيه من الفقهاء.

الثاني: دخول الأخبار الواردة فيه دائرة الحجية، إما من خلال إحراز السند كاملاً، ويكون معتبراً، أو من خلال شهادة عامة من مؤلفه باعتبار جميع مرويات كتابه، أو إحراز جبر المشهور للرواية المستدل بها في كل مورد مورد.

هذا وقد ذكرنا في الفوائد الرجالية، عدم صحة نسبة الكتاب للإمام الرضا(ع)، فليراجع التفصيل هناك.

وأما بالنسبة للأمر الثاني، فلم يحرز استناد المشهور لخصوص هذا النص، إذ ربما استندوا لغيره من النصوص مما ذكرناه، بحيث أدعي ظهوره في مدعاهم، وبالتالي لا وجه للقول بحصول الجبر، فلاحظ.

هذا ولو رفعنا اليد عما ذكرناه، فمع ذلك لا يصلح الحديث المذكور للاستدلال به على المدعى، ضرورة أن ملاحظة تمام الحديث يثبت ذلك، إذ أنه يتضمن شرطية أخرى يستفاد منها وجوب القصر تخيـيراً، قال: وإن سافرت إلى موضع مقدار أربعة فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار إن شئت تممت وإن شئت قصرت. وهناك شرطية أخرى: إن كان سفرك دون أربعة فراسخ، فالتمام عليك واجب.

هذا ومقتضى الأخذ بظاهر القضية الشرطية الأولى الدالة على ترتب جواز القصر عليها، وأخذنا بمفهومه، فالنتيجة هي عدم جواز القصر في غيرها، وقد عرفت أن مفادها وجوب القصر تعيـيناً، فمفهومها عدم الوجوب التعيـيني في غير هذه الصورة، ولا ريب في أن عدم الوجوب التعيـيني يلائم الوجوب التخيـيري، مما يعني أن الشرطية لا تدل على جواز القصر كما هي دعوى المستدل.

هذا وقد ذكر بعض الأعاظم(قده) مجموعة من النصوص يمكن من خلالها الاستدلال للمشهور من اعتبار الرجوع ليومه، وأجاب عنها:

منها: موثقة عمار قال: سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ، أو ستة فراسخ، ويأتي قرية فينـزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى، أو ستة فراسخ، لا يجوز ذلك، ثم ينـزل في ذلك الموضع، قال: لا يكون مسافراً حتى يسير من منـزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتم صلاته[35].

وتقريب الاستدلال بها أن يقال: لا ريب في أن العادة قاضية في عود الشخص الخارج لحاجة ما دون العشرة، وعدم قصده للإقامة، ومقتضى الإطلاق لزوم التمام، سواء رجع ليومه أم لغير يومه، والمتيقن خروجه عن الإطلاق بمقتضى النصوص المتقدمة هو الأول، ما إذا رجع ليومه، فيبقى الثاني، وهو ما إذا لم يرجع ليومه مشمولاً للإطلاق، فتكون وظيفته التمام، فيثبت مدعى المشهور.

وأجاب عنه(ره)، بأن الذي أوجب خروج المقيد وهو الراجع ليومه، بنفسه يوجب خروج الراجع لغير يومه من تحت الإطلاق، ضرورة أن المقيد للإطلاق فيمن رجع ليومه مطلق أيضاً، فيشمل ما إذا لم يكن راجعاً ليومه، وعليه تحمل الموثقة على إذا قصد الإقامة عشرة أيام، أو المتردد في المسافة، بحيث لم يكن قاصداً السفر[36].

أقول: يـبتني كلامه(ره) على أساس الالتـزام بثبوت إطلاق في روايات البريد ذاهباً، والبريد جائياً، أما لو قلنا بعدم ثبوت إطلاق فيها، فلا ريب في عدم تمامية كلامه(ره)، وصحة ما عليه المشهور من خلال التقريب المذكور.

والعجب من بعض المعاصرين(دام عزه) في جوابه عن هذه الموثقة، قال: إنه ليس في مفروض السؤال التقيـيد بالرجوع، ولا تقدير مدة النـزول والمكث في القرية بما دون العشرة، ولا كونه قاصداً ذلك من الأول، وإلا لكان مفاد الرواية مخالفة لما دل على الامتدادية أيضاً[37].

وجه العجب، أنه هو قد قرب دلالتها على مدعى المشهور بما قرب به بعض الأعاظم، وقد عرفت أن التقريب يفيد أن هناك قرينة حالية دالة على تقيد المقام بها، وهو العادة الجارية بالرجوع فكيف يقال، بأنه ليس في مفروض السؤال ما يشير إلى ذلك، إذ لا يخفى أنه لم يدعِ المستدل وجود ما يشير إلى ذلك في مفروض السؤال، بل دعواه وجود القرينة، كما ذكرنا، فلاحظ.

على أنه(دام مجده) أشار إلى التسليم بدلالة الرواية على المدعى، عمدة ما كان سوف تكون من النصوص المعارضة لما دل على المسافة الامتدادية، ولا يخفى عليك أن هذا لا يعد إشكالاً فلاحظ.

ومنها: ما رواه الشيح بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن التقصير في الصلاة، فقلت له: إن لي ضيعة قريبة من الكوفة وهي بمنـزلة القادسية من الكوفة، فربما عرضت لي حاجة انتفع بها أو يضرني القعود عنها في رمضان فاكره الخروج إليها لأني لا أدري أصوم أو أفطر، فقال لي: فأخرج فأتم الصلاة، وصم فإني قد رأيت القادسية[38].

وتقريب دلالتها بملاحظة التالي: إن المسافة بين القادسية والكوفة مقدرة كما ذكر بخمسة فراسخ، ومن البعيد أن يكون غاية السائل الرجوع ليومه من خلال قطعه للمسافة المقدرة بعشرة فراسخ، كما هو واضح، لأن مقتضى أن له حاجة يستوجب قضائها، وربما استدعى ذلك بقائه في الضيعة اليومين والأكثر، ما هو الغالب.

وعلى هذا فيكون مفاد النص، ما إذا خرج إلى ما دون المسافة، ولم يرجع ليومه، ولن يقيم عشرة أيام، وقد أجابه(ع) بأن وظيفته التمام، فيثبت مطلوب المشهور.

وقد أجاب عنها(قده) بأمرين:

الأول: ما أجاب به عن الموثقة المتقدمة.

الثاني: إنها معارضة بموثقة ابن بكير التي سبقت منا الإشارة إليها في دليل شيخنا الكليني(ره) على اعتبار المسافة الموجبة للتقصير أربعة فراسخ، وهي: سألت أبا عبد الله(ع) عن القادسية أخرج إليها، أتم الصلاة أو أقصر؟ قال: وكم هي؟ قلت: هي التي رأيت، قال: قصر[39].

حيث أنهما وردتا في موضوع واحد وهو القادسية، كما أنها مطلقة من حيث الرجوع ليومه وعدمه، فتكون معارضة للنص السابق بالإطلاق، إذ أنهما متعارضتان في إطلاق كل واحدة منهما، إذ مقتضى إطلاق السابقة يقضي التمام لمن يرد الرجوع ليومه، وإطلاق هذه يقضي القصر عليه.

نعم وجود نصوص التلفيق داعية للتصرف في ظهور رواية عبد الرحمن بحملها على أحد أمرين:

الأول: أن تحمل على الوطن الشرعي، كما سيأتي من أنه يتم فيه.

الثاني: أن تحمل على ما لو قصد الإقامة عشرة أيام[40].

هذا ولو قيل بأن ما دل على اعتبار مختار المشهور تام، وبالتالي وصلت النوبة لمعارضة ما دل على عدم اعتبار الرجوع ليومه، فهل تصل النوبة للتمسك بأصالة التمام أم لا؟…

لا ريب أن الرجوع لأصالة التمام فرع استقرار المعارضة، وعدم وجود ما يوجب ترجيح أحد المتعارضين على الآخر.

أما لو قلنا بعدم استقرار المعارضة، لإمكانية الجمع العرفي بين الطائفتين، فلا ريب لن تصل النوبة عندها لأصالة التمام.

وهذا ما يمكن فعله، إذ يمكن الجمع بينهما بالحمل على التخيـير، إذ أن كل واحدة من الطائفتين ظاهرة في الوجوب التعيـيني، فنرفع اليد عنه، ويحمل على الوجوب التخيـيري، لأن المعارضة أساساً بين الطائفتين في المدلول الالتـزامي، وليس في المدلول المطابقي، حيث أن كل واحدة منهما دالة على الوجوب بالمدلول المطابقي، وكونه تعيـينياً من خلال المدلول الالتـزامي، فنرفع اليد عن المدلول الالتـزامي في كل واحدة منهما، فينجم من ذلك أن الوجوب تخيـيري.

ومما ذكرنا أتضح وجه القول بالتخيـير، إذ أنه يـبتني على أمرين:

أولها وجود دليل معتبر يفيد دعوى المشهور.

ثانيها: نهوضه لمعارضة ما دل على عدم اعتبار الرجوع ليومه.

وعندها يجمع بينهما جمعاً دلالياً بالحمل على الوجوب التخيـيري، فلاحظ.

نعم يمكن توجيه القول بالتخيـير من خلال طريق آخر، مفاده: أن يلتـزم بأن موجب القصر أمران: المسافة الامتدادية، والمسافة التلفيقية، وتحصل المعارضة بينهما، لكن نصوص الامتداد نص، بينما نصوص التلفيق ظاهرة، فترفع اليد عن هذا الظهور، وتحمل على التخيـير، بقرينة نصوص الامتداد النافية لوجوب القصر في غير الثمانية.

ثم إن بعض الأعاظم(قده) ذكر في آخر البحث في هذه المسألة ما نسب للشيخ وابن البراج(قده) من التفصيل بين الصوم والصلاة، بحيث أن وظيفته هي التخيـير في الصلاة بين القصر والتمام، بينما وظيفته بالنسبة للصوم، هي الصوم، ولا يسوغ له الإفطار.

[18] البدر الزاهر ص 110-112.

[19] الوسائل ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 2.

[20] المصدر السابق ح 14.

[21] المصدر السابق ح 9.

[22] المصدر السابق ح 4.

[23] الوسائل ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 15.

[24] وسائل الشيعة ب 3 من أبواب صلاة المسافر ح 8.

[25] المصدر السابق ح 7.

[26] المصدر السابق ح 4.

[27] المصدر السابق ح 1.

[28] المصدر السابق ح 3.

[29] الوسائل ب 3 من أبواب صلاة المسافر ح 10، 11.

[30] أشار له الفقيه البروجردي في كتابه البدر الزاهر ص 120.

[31] المصدر السابق ص 121.

[32] المصدر السابق.

[33] المدصر السابق.

[34] الوسائل ب 5 من أبواب صلاة المسافر ح1.

[35] الوسائل ب 4 من أبواب صلاة المسافر ح 3.

[36] مستند العروة ج 8 ص 20.

[37] سند العروة الوثقى ص 27.

[38] وسائل الشيعة ب 14 من أبواب صلاة المسافر ح 4.

[39] وسائل الشيعة ب 2 من أبواب صلاة المسافر ح 7.

[40] مستند العروة ج 8 ص 21-22.