- موقع سماحة العلامة الشيخ محمد العبيدان القطيفي - https://www.alobaidan.org -

القراءات القرآنية

القراءات القرآنية

 

ينحصر طريق ثبوت القرآن الكريم عند المسلمين في خصوص طريق التواتر، خصوصاً وأن دواعي نقله متوفرة، وهذا يعني أن ما نقل منه بطريق الآحاد لا يكون قرآناً.

وهنا تبرز مسألة القراءات القرآنية سواء قلنا أنها سبع أم عشر، إذ لا ريب في وجود الاختلاف فيها، ما يوجب إما الالتـزام بتواترها جميعاً فيوجب ذلك الاختلاف في القرآن الكريم، أو البناء على كونها جميعها آحاد، فلا يثبت أن القرآن الكريم قد ثبت بالتواتر.

وطريق علاج هذه المسألة يستدعي البحث حول القراءات، وعن تواترها وعدمه، وعن حجيتها، وعدمه.

وقبل الحديث عن ذلك، نشير إجمالاً للحديث حول ظواهر الكتاب العزيز، زاده الله عزة وشرفاً.

 

ظواهر الكتاب العزيز:

وقع الخلاف بين أعلامنا في حجية ظواهر الكتاب العزيز، فانقسموا إلى فريقين:

الأول: ما اختارته المدرسة الإخبارية سواء في الجملة، أم بالجملة، من البناء على عدم حجية ظواهر الكتاب العزيز، إلا ما كان من آياته مفسراً من قبل المعصوم(ع)، وما لم يكن كذلك، فلا يجوز التمسك بظواهره.

الثاني: ما عليه المدرسة الأصولية من البناء على حجيتها مطلقاً، سواء كان هناك نص روائي صادر عن المعصوم(ع)، بياناً لها أم لا.

 

حجية ظواهر الكتاب:

والمقصود من حجية ظواهر القرآن الكريم، هو معرفة مراده سبحانه وتعالى من خلال ملاحظة أمور لها دخالة في فهمه، وهي:

1-حكم العقل في مورده.

2-مراجعة آيات أخرى تصلح أن تكون قرينة على المراد.

3-ملاحظة النصوص الصادرة عن المعصومين(ع) في بيان مجملات القرآن وعموماته، ومطلقاته.

وبعبارة أخرى، إن المقصود من حجية ظواهره، أن يستكشف مراد الله تعالى من صميم القرآن بنفسه مع غض الطرف عما ورد حوله من سائر الحجج، وإلا كان اختلالاً.

ويساعد على ما قلناه، أنه سبحانه وتعالى قد أخبر أن واحدة من مهام النبي الأكرم(ص) بيان القرآن الكريم للناس، قال تعالى:- (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)[1] [1].

 

أدلة الإخباريـين:

وكيف ما كان، فقد تمسك الإخباريون لما اختاروه من منع حجية ظواهر الكتاب العزيز، بمجموعة من الأدلة:

منها: النصوص التي تضمنت أن القرآن الكريم لا يفهمه إلا خصوص من خوطب به:

فعن بعض أصحاب أبي عبد الله(ع)-في حديث-: إن أبا عبد الله(ع) قال لأبي حنيفة: أنت فقيه العراق؟ قال: نعم، قال: فبم تفتيهم؟ قال: بكتاب الله وسنة نبيه(ص)، قال: يا أبا حنيفة! تعرف كتاب الله حق معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: نعم، قال: يا أبا حنيفة! لقد ادعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا محمد(ص)، وما ورثك الله من كتابه حرفاً[2] [2]. فإن قوله(ع) لأبي حنيفة: لقد ادعيت علماً، يثبت أنه لا يحيط بعلوم القرآن وما فيه من الناسخ، ومعرفته حق معرفته إلا خصوص المعصوم(ع)، بل قد صرح(ع) بذلك، حيث قال: ما جعل الله ذلك إلا عند هل الكتاب الذي أنزل عليهم، فإنه صريح في عدم الإحاطة بالقرآن، وفهمه إلا لخصوص المعصوم(ع) دون من سواه.

ومنها: ما رواه زيد الشحام، قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر(ع)، فقال: يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون، فقال أبو جعفر(ع): بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة: نعم، فقال له أبو جعفر(ع): فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت، وأنا أسألك-إلى أن قال أبو جعفر(ع): ويحك يا قتادة! إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسرته من الرجال، فقد هلكت وأهلكت، ويحك يا قتادة! إنما يعرف القرآن من خوطب به[3] [3]. وهو صريح في اختصاص فهم القرآن الكريم بخصوص من خوطب به، ومن المعلوم أن المخاطب بها هو النبي الأكرم محمد(ص)، والأئمة الأطهار(ع) من بعده.

والحاصل، إن المستفاد من كلام الإمام(ع) في الخبرين أنه ليس مقصود الباري سبحانه وتعالى تفهم مطالب القرآن كما هو الموجود في المحاورات العرفية، بل غرضه أنه لا يفهم القرآن الكريم إلا بضميمة أهل الذكر(ع).

 

وقد تعددت الإجابة عن ذلك، نشير لشيء مما تضمنته كلمات الأعلام(رض):

الأول: بمنع صدورها، لعدم تماميتها سنداً، فإن الخبر الأول مرسل، لعدم ذكر الراوي المباشر عن الإمام(ع)، فإن الموجود عن بعض أصحاب أبي عبد الله(ع). وقد اشتمل الخبر الثاني على محمد بن سنان، وهو موضع كلام بين الأعلام، وقد نص على ضعفه في كلمات جملة منهم.

بل قد بنى بعض الأكابر(ره) على أنها موضوعة، وأنها مشتملة على ما لا يمكن الالتـزام به، لأنها تعطي للمعصومين(ع) مقاماً يخرجهم عن حدود البشرية، وقد أوضح(ره) ما ذكره، بأن المتأمل في أحوال اصحاب الأئمة الأطهار(ع) يجدهم ينقسمون إلى اتجاهين:

الأول: الاتجاه الذي يتعاطى مع الأمور على حسب ظواهرها، فيحمل كل ما جاء في الشريعة المقدسة على ظاهره، ما لم يكن هناك ما يمنع من ذلك، وقد مثل هذا الاتجاه جملة من الفقهاء، كزرارة، ومحمد بن مسلم، وأبي بصير، وبريد العجلي، وأضرابهم.

الثاني: الاتجاه الباطني، وهم الذين كانوا يعمدون إلى تلغيز الأمور، وإبهامها، فيجعلون المفهوم لا مفهوم، وقد ساعد وجود هذا الاتجاه إلى نشؤء تيار الغلو في المعصومين(ع)، وولد في أحضانه، وبسبب عدم وجود مدارك واضحة لهم اتجهوا إلى تأويل القرآن، واستخراج بطون له، وقد مثله مجموعة من أصحاب الأئمة(ع)، مثل:

1-سعد بن طريف الواقع في سند بعض هذه النصوص، فقد كان يقول: إن الفحشاء رجل، والمنكر رجل، والصلاة تتكلم:- (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر).

2-جابر بن يزيد الجعفي.

3- محمد بن سنان، وغيرهم.

 

وقد اقتصر نقل هذه النصوص على أصحاب الاتجاه الثاني، دون أصحاب الاتجاه الأول، والذي يمثله كبار أصحاب الأئمة الأطهار(ع). وهذا يوجب التشكيك في صدورها، ويقوي احتمال وضعها، خصوصاً وأنها ضعيفة الأسناد، كما سمعت[4] [4].

وقد تدفع المناقشة المذكورة بكونها صغروية، لأن المدرسة الإخبارية تعتقد بصدور كل ما تضمنته الكتب الأربعة، وهذا يعني توفر أصالة الصدور في الخبرين المذكورين.

 

الثاني: من خلال منع دلالتها، وذلك بحملها على بعض المحامل المخالفة لما فهمته المدرسة الأخبارية منها، ونشير لبعض ما تضمنته كلمات الأعلام:

أحدها: ما جاء في كلام بعض الأعيان، وحاصله: إن النصوص المذكورة معارضة للسنة القطعية التي دلت على مرجعية القرآن الكريم للمسلمين، وإحالتهم إليه. وكذا الروايات الآمرة بعرض النصوص على مطلق الكتاب.

ثانيها: ما ذكره بعضهم، من أن المعرفة نوعان، معرفة إجمالية، ومعرفة تفصيلية، ومن الواضح أن المعرفة المنفية في هذه النصوص، لا يقصد بها المعرفة الإجمالية، فإن ذلك متاح لكل أحد، بل المنفي فيها هو خصوص المعرفة التفصيلية، والتي لا تتسنى إلا لخصوص الأئمة الأطهار(ع)، دون من سواهم، فإنهم(ع) هم الذين يملكون الإحاطة بعموم القرآن ومطلقه، وناسخه ومنسوخه، ومتى نزلت كل آية من آياته، وفيمن نزلت، وأين نزلت، وهكذا.

ثالثها: إن المقصود من التعبير الوارد في النصوص بـ(خوطب به)، ليس ما فهمته المدرسة الإخبارية، من حصر فهم القرآن الكريم في خصوص المعصوم(ع)، وإنما يقصد به، الإشارة إلى أهل الحق، ومطلق من يريد اتباعه في مقابل من يتبع الهوى، وعليه تكون هذه النصوص نظير قوله تعالى:- (هدى للمتقين)[5] [5].

 

ومنها: المنع من التفسير بالرأي:

وهو يتشكل من قياس منطقي من الشكل الأول، كبراه، أنه قد تضمنت النصوص الكثيرة النهي عن تفسير القرآن الكريم بالرأي، فعن رسول الله(ص) أنه قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ[6] [6].

ومنها: من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.

ومنها: ما عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: ومن فسر آية من كتاب الله فقد كفر[7] [7].

ومنها: ما عن أبي جعفر(ع) قال: ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تنـزل أولها في شيء، وأوسطها في شيء، وآخرها في شيء، ثم قال:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)، من ميلاد الجاهلية[8] [8].

وأما الصغرى، فإن حمل ألفاظ القرآن الكريم على ظواهرها، هو نوع من أنواع التفسير للقرآن الكريم بالرأي، الذي قد عرفت أنه منهي عنه فتكون النتيجة، هي النهي عن حمل ألفاظ القرآن الكريم على ظواهرها.

ويندفع الاستدلال المذكور:

أولاً: بملاحظة المقصود من مفهوم التفسير، فإنه يعرّف بأنه: كشف القناع وإزالة المستور، وليس منه حمل اللفظ على ظاهره، لأنه ليس مستوراً حتى يكشف.

ومع التسليم بأن حمل اللفظ على ظاهره من التفسير، إلا أنه يمنع صدق عنوان التفسير بالرأي عليه حتى تشمله النصوص الناهية عن ذلك، بل هو تفسير بما يفهمه العرف من اللفظ، وبحسب ما تدل عليه القرائن المتصلة والمنفصلة.

 

معنى الرأي:

ثانياً: بعدم انطباق مفهوم التفسير بالرأي على حمل ألفاظ القرآن الكريم على ظواهرها، وذلك لوجود محتملات ثلاثة في التفسير بالرأي المنهي عنه في النصوص:

الأول: أن يكون المقصود منه الموقف الفكري المسبق النابع من التقاليد أو الأهواء أو الانظار الذوقية ونحوها، فيكون التفسير بالرأي عبارة عن محاولة تطويع الآيات القرآنية لهذا الموقف الفكري المسبق. ولهذا نماذج كثيرة يجدها المتابع على مر التأريخ نشير لبعضها:

منها: ما تمسك به بعض القوميـين لإثبات مذهبهم، وهو قوله تعالى:- (وإنه لذكر لك ولقومك)[9] [9].

ومنها: ما جعله بعض الرأسماليـين حجة لمذهبهم، وهو قوله تعالى:- (فلكم رؤوس أموالكم)[10] [10]، وقوله تعالى:- (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق)[11] [11].

ومنها: ما تمسك به بعض الاشتراكيـين، وهو قوله تعالى:- (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)[12] [12].

الثاني: أن يقصد منه الاعتبارات الظنية الراجحة، فيكون التفسير بالرأي عبارة عن: حمل اللفظ على خلاف ظاهره، وحمل المشترك على أحد احتماليه، وحمل المجمل أو المتشابه على محتملين، كل ذلك تبعاً للظنون، أو الترجيحات الذوقية.

وقد انتشر هذا الأمر في عصر الإمامين الباقر والصادق(ع) على يد أتباع مدرسة الرأي، فقد كان أصحاب هذا الاتجاه يستندون لاعتبارات ظنية من قياس واستحسان وتخمين في تفسير القرآن الكريم، بل في تحديد الموقف تجاه الدين ككل.

الثالث: أن يكون المقصود منه ما يعم حمل اللفظ على ظاهره.

ولا ريب في عدم عدّ الثالث منها من التفسير بالرأي، لأنه تفسير وفق الفهم العرفي، وهذا يجعل التفسير في الرأي ظاهراً في المعنيـين الأول والثاني، أو في أحدهما[13] [13].

ثالثاً: بعد التسليم بصدق عنوان التفسير بالرأي على حمل الألفاظ القرآنية على ظاهرها، ليكون ذلك مشمولاً بالنصوص الناهية عن تفسير القرآن بذلك، الموجب لرفع اليد عن العمل بالظواهر القرآنية، إلا أن ذلك معارض بالنصوص الآمرة بالتمسك بالقرآن الكريم، والداعية إلى الرجوع إليه.

ومع البناء على استقرار المعارضة، وعدم إمكانية ترجح إحدى الطائفتين على الأخرى، سوف تسقط الطائفتان عن الحجية، وسوف يرجع بعدها للسيرة العقلائية المنعقدة على حجية الظواهر مطلقاً من دون فرق بين كونها ظواهر قرآنية أو غيرها.

 

شمول المتشابه للظواهر:

ومنها: إن المتشابه شامل للظواهر، قال تعالى:- (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)