28 مارس,2024

النور المحمدي

اطبع المقالة اطبع المقالة

النور المحمدي

 

من الطرق الرئيسية التي يمكن التعرف من خلالها على شخصية النبي الأكرم محمد(ص)، الإحاطة بالمقامات الخاصة به، ومن تلك المقامات وجوده النوري، وأسبقيته في الوجود على بقية الموجودات حيث لم يسبقه شيء منها في الوجود، بل كان نوره(ص) هو أول المخلوقات، فلم يخلق أحد قبله.

ولا ريب في أن الأسبقية هناك في عالم الملكوت تدل على الأشرفية والأفضلية ما يعني أنه(ص) أشرف وأفضل الموجودات، لأن مقتضى الرتب الوجودية أن يكون السابق أفضل من اللاحق.

وقد اتفق الفريقان على أسبقية وجوده النوري(ص) على بقية الموجودات، وقد دلت على ذلك نصوص من الفريقين، إلا أنه رغبة في الاختصار، سوف نقصر البحث على خصوص ما جاء في مصادر الشيعة الإمامية، ويمكن لمن أراد الإحاطة بما تضمنته مصادر الجمهور الرجوع إلى مصادرهم التي تضمنت ذلك.

 

أول المخلوقات:

فمن تلك النصوص، ما جاء في الكافي، بسنده، عن مرازم عن أبي عبد الله(ع) قال: قال الله تبارك وتعالى: يا محمد إني خلقتك وعلياً نوراً يعني روحاً بلا بدن قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري فلم تزل تهللني وتمجدني، ثم جمعت روحيكما فجعلتهما واحدة فكانت تمجدني وتقدسني وتهللني، ثم قسمتها ثنتين وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة محمد واحد، وعلي واحد، والحسن والحسين ثنتان، ثم خلق الله فاطمة من نور ابتدأها روحاً بلا بدن، ثم مسحنا بيمنه فأفضى نوره فينا[1].

ومنها: ما رواه أبو حمزة، قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: أوحى الله تعالى إلى محمد(ص) إني خلقتك ولم تك شيئاً نفخت فيك من روحي كرامة مني أكرمتك بها حين أوجبت لك الطاعة على خلقي جميعاً، فمن أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني، وأوجبت ذلك في علي وفي نسله، ممن اختصصته منهم لنفسي[2].

ومنها: ما رواه محمد بن سنان، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(ع) فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً بوحدانيته ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، ثم قال: يا محمد هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد[3].

ومنها: ما رواه المفضل، قال: قلت لأبي عبد الله(ع): كيف كنتم حيث كنتم في الأظلة؟ فقال: يا مفضل كنا عند ربنا ليس عنده أحد غيرنا، في ظلة خضراء، نسبحه ونقدسه، ونهلله ونمجده وما من ملك مقرب ولا ذي روح غيرنا حتى بدا له في خلق الأشياء، فخلق ما شاء كيف شاء من الملائكة وغيرهم، ثم أنهى علم ذلك إلينا[4].

ومنها: ما رواه أحمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب(ع)، عن أبي عبد الله(ع)، قال: إن الله كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان وخلق نور الانوار الذي نورت منه الأنوار وأجرى فيه من نوره الذي نورت منه الأنوار وهو النور الذي خلق منه محمداً وعلياً، فلم يزالا نورين أولين، إذ لا شيء كوّن قبلهما، فلم يزالا يجريان طاهرين مطهرين في الأصلاب الطاهرة حتى افترقا في أطهر طاهرين في عبد الله وأبي طالب(ع)[5].

ومنها: ما رواه جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر(ع): يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمداً(ص) وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله، قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور أبدان نورانية بلا أرواح وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس، فبه كان يعبد الله، وعترته ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم السجود والتسبيح والتهليل ويصلون الصلوات ويحجون ويصومون[6].

ولا حاجة لملاحظة أسناد النصوص المذكورة، ذلك أن كثرتها واستفاضتها بعد نقلها في مصادر متعددة توجب الوثوق والاطمئنان بصدورها، فضلاً عن أنها منقولة في كتب الفريقين كما سمعت. وهي دالة على أن أول المخلوقات قبل السماوات والأرض والملائكة، هو النبي الأكرم محمد(ص)، إذ خلقه الله سبحانه وتعالى نوراً فكان نوره الشريف هو أول الموجودات، وهذا يدل على أن له(ص) وجودين، وجوداً نورياً لاهوتياً، ووجوداً جسمياً ناسوتياً، ووجوده النوري نابع من نور الله عز وجل، المسمى بنور الأنوار.

وقد كان(ص) يعبد الله الله تعالى ويهلله ويسبحه ويحمده في وجوده النوري، وقد تعلمت الملائكة منه ذلك، وقد كان هذا الوجود النوري له(ص) سبباً وواسطة في خلق جميع الممكنات.

 

أسئلة حول دلالة النصوص:

ثم إنه قد تذكر بعض الموانع من القبول بالنصوص المذكورة، نشير لبعضها:

منها: كيف يجمع بين النصوص محل البحث والنصوص التي تضمنت أن أول ما خلق الله سبحانه وتعالى الماء، وجاء في بعضها أن أول ما خلق الله عز وجل القلم، وفي بعضها أن أول المخلوقات هو العقل؟ فعن أبي عبد الله(ع) أنه قال: إن الله خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيـين عن يمين العرش من نوره.

وقد أجاب عن ذلك العلامة المجلسي(ره) بجوابين:

الأول: إن الأولية المذكورة في النصوص من المفاهيم المشككة، فتكون الأولية لكل شيء بحسبه، فالأولية للماء تكون بالنسبة إلى العناصر والأفلاك، وأولية القلم تكون بالنسبة إلى جنسه من الملائكة، وأولية نور النبي محمد(ص)، وروحه هي الأولية الحقيقية[7].

الثاني: البناء على عدم تعدد الموجود الأول، وذلك لأن جميع هذه المفاهيم التي تضمنتها النصوص تشير لمراد وشيء واحد، فالعقل والنور وما شابه ذلك، كلها تشير إلى النور المحمدي للنبي الأكرم محمد(ص)[8].

ومنها: إن مقتضى كون نوره(ص) نابعاً ومنتـزعاً من نور الله سبحانه وتعالى، يلزم منه القول بالاتحاد أو السنخية.

ولا يرد المانع المذكور، ذلك لأنه مبني على تحديد النسبة المتصورة بين وجود الباري سبحانه وتعالى وبين سائر الموجودات، ولما كان الصحيح في ذلك أن النسبة بينهما هي نسبة الفاعلية والخالقية والمخلوقية والمنشأ، وأن بينهما كمال البينونة فهو سبحانه وتعالى واجب يعني مطلق، وما سواه ليس كذلك، كما نصت على ذلك الأدلة بقسميها العقلية والنقلية، فمن النقلي قوله سبحانه في كتابه المجيد:- (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)[9]، ومن النصوص ما جاء في نهج البلاغة، عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها[10].

 

وأما دليل العقل، فيمكن تقريبه بلحاظ أن الواجب هو الغناء المطلق، وهو لا يجتمع مع الممكن الذي هو محض الفقر والاحتياج، لأنه لا يمكن أن يكون الشيء الواحد غنياً وفقيراً في نفس الوقت، وواجباً وممكناً. نعم يمكن الالتـزام بذلك في أحد موردين:

أحدهما: البناء على جواز اجتماع المتناقضين.

ثانيهما: الالتـزام بانتفاء أحد الوصفين عن الموصوفين، ولا إشكال في أن سلب صفة الإمكان عن المخلوق خلاف ضرورة العقل والنقل، فيلزم من ذلك التسليم بأن المخلوق لا يكون إلا ممكناً فقط. ولا يكون مشتركاً مع الخالق سبحانه حتى في الصفات الكمالية فضلاً عن غيرها.

ومنه يتضح عدم تمامية شيء من الأقوال المذكورة في تحديد النسبة بينهما في الخلاف الحاصل ين الفلاسفة والمتكلمين على أقوال:

أحدها: إن النسبة بينهما هي نسبة العينية والتطور، وأن المخلوق هو نفس الخالق، وإنما الفرق بينهما في التعين وعدمه، وعلى ذلك يقال: بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء منها وهو القول بالاتحاد.

ثانيها: أن تكون النسبة بينهما نسبة السنخية، والمماثلة، وأن أعلى المراتب هي مرتبة الألوهية وفي سائر المخلوقات بمراتبها النازلة كل بحسب استعداده.

ثالثها: أن النسبة بينهما هي نسبة العلية التامة والمعلولية، فالله سبحانه وتعالى علة تامة وسائر الموجودات معلولات.

لما يترتب عليها من محاذير ومفاسد، ليس هذا مورد ذكرها، فلتطلب من محلها.

والحاصل، إن الإشكال المذكور ليس وارداً، لأن منشأه تهم أن مصدر النور الذي قد خلق منه المصطفى الحبيب(ص)، من صفات الذات، وليس من صفات الفعل، فيلزم من ذلك إشكال الاتحاد كما توهم، وليس الأمر كذلك، ذلك أن النور المخلوق منه النبي(ص) من صفات الفعل، وهي غير الذات المقدسة، فلا يأتي إشكال الاتحاد.

 

ومنها: إن أحاديث النور المحمدي معارضة ببعض الآيات القرآنية، التي تضمنت أن الله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض، قال تعالى:- (الله نور السماوات والأرض)[11]، فقد تضمنت نسبة النور لله سبحانه وتعالى، وقد تضمنت النصوص الشريفة الواردة عن أهل البيت(ع) أن كل ما خالف كتاب ربنا لم نقله.

ويدفعه، أن المعارضة الموجبة لرفع اليد عن النص، ما كانت بنحو التباين، لا ما كانت بنحو العموم والخصوص المطلق كما هو في المقام، لأن نصوص النور المحمدي تصلح أن تكون موضحة ومفسرة للآية الشريفة، أو مبينة لمصداق من مصاديقها.

ومنها: إنه لا يظهر من نصوص النور المحمدي أي فضل للنبي الأكرم(ص)، بل وأهل بيته الطاهرين(ع)، بلحاظ خلقهم من نور الله تعالى، لأن النصوص قد دلت على أن المؤمن مخلوق من نور الله سبحانه وتعالى، وأنه ينظر بنور الله، فعن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن(ع) قال: يا سليمان إن الله خلق المؤمن من نوره، وصبغهم في رحمته، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية[12].

وعن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: والله شيعتنا من نور الله خلقوا، وإليه يعودون[13].

 

ولا مانع من الالـتزام بأن يكون المؤمن مخلوقاً من نور الله سبحانه وتعالى، كما أن النبي الأكرم محمد(ص) مخلوق من نوره عز وجل، إلا أن ذلك لا يعني عدم التفاضل بينهما، بحيث يتصور مساواتهما في الفضل بسبب اتحادهما في مادة الخلق، فيشتركان في الخصوصيات والآثار، لأن النور من الحقائق المشككة ذات المراتب المتفاوتة، وهو وإن اتحد في الحقيقة إلا أن كل رتبة منه لها خصوصية تخالف خصوصية الرتبة الأخرى، وكلما اشتدت رتبة النور اشتدت الآثار، ويتأكد ذلك بملاحظة ما قرر في محله من أن الآثار في الحقائق المشككة من لوازم الوجود، وليست من لوازم الماهية.

وعليه، لا مانع من الالتـزام بالاتحاد في الوجود النوري، لكن تبقى الخصوصيات الإلهية ملازمة لوجود النبي(ص)، وآله الطاهرين(ع)، بسبب علو رتبتهم النورية، وشدة إشراقهم.

ثم إن هذا كله، بعد التسليم بأن المقصود من المؤمن في النصوص التي تضمنت ذلك معناه الخاص، وهو الموالي لمحمد وآله(ص)، أما لو بني على أن المقصود به مصداقه الأكمل، وهو المعصوم(ع)، فلن يكون في البين أدنى منافاة بين النصوص، لأنها متحدة من حيث المعنى والنتيجة كما هو واضح.

 

ومنها: إن القول بثبوت نصوص النور المحمدي، وما يلازم ذلك من آثار، وما يترتب عليها من نتائج، يوجب الوقوع في الغلو، ويؤدي للالتزام به، ومن الواضح جداً أنه قد نصت الروايات العديدة الصادرة عن المعصومين(ع)، وبألسنة مختلفة في النهي عن ذلك.

وهذا الإشكال يندفع من خلال ملاحظة معنى الغلو وحدوده، وما يعتبر في حقيقته، وما يلحق ذلك من نتائج، وقد تعرضنا لذلك في محاضرة مفصلة، يمكن الرجوع إليها[14].

 

 

[1] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة ح 3 ص 440.

[2] المصدر السابق ح 4.

[3] المصدر السابق ح 5 ص 441.

[4] المصدر السابق ح 7.

[5] المصدر السابق ح 9 ص 441.

[6] المصدر السابق ح 10 ص 442.

[7] بحار الأنوار ج 54 كتاب السماء والعالم ص 308.

[8] بحار الأنوار ج 54 كتاب السماء والعالم ص 309.

[9] سورة العنكبوت الآية رقم 19.

[10] نهج البلاغة الخطبة الأولى.

[11] سورة النور الآية رقم 35.

[12] بصائر الدرجات ح 1 ص 100.

[13] المصدر السابق ح 2.

[14] من مصادر البحث النبي الأعظم(ص) ووجوده النوري، الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 4.