29 مارس,2024

بشرية الإمامة(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

بشرية الإمامة(1)

 

لم يزل الحديث حول خلافة النبي(ص) مستمراً بين الباحثين والمفكرين، ويأخذ صوراً متعددة، فمرة يكون الحديث حول تعيـين مصداقه الخارجي، بتحديد من هو الخليفة بعد رسول الله(ص)، وأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، أو أحد الصحابة، ومرة أخرى يكون الحديث عن أصل عملية الاستخلاف، وأن رسول الله(ص)، قد بلّغ أمراً من الله تعالى بنصب أحد من بعده، وأصدر بذلك نصاً شرعياً على ذلك أو لا.

وربما دعى البعض إلى إغلاق الحديث حول مسألة الإمامة والخلافة بعد رسول الله(ص)، كونه يؤدي إلى وجودة الفرقة والتناحر بين المسلمين، ويزيد من شقة الخلاف والشقاق بينهم.

 

ويمنعه أمران:

الأول: الحاجة إلى البحث عن الحقائق والوقوف عليها، لأنه الطريق الذي يميز من خلاله الحقيقة من الخرافة، والصدق من الكذب، والحق من الباطل.

الثاني: إن الذي يوجب التناحر والشقاق بين المسلين ليس البحث الحر الذي يقوم على الأسس العلمية الرصينة، والذي يستند إلى الأدلة والبراهين، وإنما يوجب ذلك التعصب الأعمى، والقول بغير علم، والعناد والمكابرة.

أما البحث الموضوعي الذي يكون سبباً لمعرفة الحقائق دون إقصاء للآخر، ولا تعد عليه، فإنه يزيد من الألفة والمحبة، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يطالب أن يعرض كل صاحب حجته، قال تعالى:- (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)[1]، لأن ذلك يقود إلى الصواب[2].

وقد عمد بعض الباحثين إلى طرق باب جديد للبحث في مسألة الإمامة، أوجب وصوله إلى نتائج تتفق مع النتائج التي تبنتها مدرسة السنة والجماعة، وهو بشرية الإمامة، حيث أصر على التعامل مع الإمام على أنه بشر، وبناء على هذا فقد نفى عنه أموراً أساسية تعتقدها مدرسة أهل البيت(ع)، وتمثلت تلك الأمور في أربعة أشياء أساسية:

 

الأول: إنه لم ينصب الله سبحانه وتعالى خليفة بعد النبي الأكرم محمد(ص).

الثاني: إنه لم ينص النبي(ص) على الخليفة من بعده.

الثالث: إن علم الأئمة الأطهار علم كسبي، وليس علماً لدنياً، مستفاداً من الغيب، بل هو من خلال تعليم بعضهم بعضاً.

الرابع: إنهم بشر عاديون غير معصومين، يمكن أن يصدر منهم الخطأ في أي وقت، نعم صدور الخطأ منهم أقل من صدوره من غيرهم[3].

 

ومن هنا قرر بأن مفهوم الإمامة قد خضع عند الشيعة إلى تغيـيرات في ما يتعلق بصفات الإمام، ومحاور الإمامة، فإن هذين الأمرين لم يكونا في العصر الأول من الاسم كما هما عليه اليوم في الوسط الشيعي. قال: إن الإمام كان يعرف في القرنين الأول والثاني بصفات تختلف عن الصفات التي أخذ يعرف بها في القرنين الثالث والرابع، وما بعدهما، فالذي كان سائداً في القرنين الأولين ليس سوى العمل بالقرآن، وإقامة الحق والعدل، وتهذيب النفس، وإقامة الدين وعقل الدراية في قبال عقل الرواية، والأفضلية العملية، ولم يكن هناك أي كلام حول النصب الإلهي والنص الشرعي، والعصمة، وعلم الغيب كأوصاف للإمام ومحاور الإمامة، وإن هذه الأوصاف الأربعة إنما طرحت من قبل متكلمي الشيعة في القرن الثالث والرابع، ثم اعتبرت بالتدريج في عداد محاور الإمامة الشيعية لتصبح من بديهيات ومسلمات المذهب.

 

وحاصل ما ذكره، انكار وجود نصب من الله سبحانه وتعالى للأئمة الأطهار، وعدم صدور نص شرعي من النبي(ص) على ذلك، كما أن الإمام لا يتصف بصفة العصمة، ولا يعلم الغيب. وقد كان مصدر إثبات هذه الأمور الأربعة العصور المتأخرة من قبل متكلمي الشيعة، وإلا فإن الفترة الزمنية الأولى كانت خالية من ذلك.

 

نظريتان في الإمامة:

وبناء على هذا ذكر أن هناك نظريتين مختلفتين حول أصل الإمامة:

 

الأولى: نظرية الأئمة المعصومين:

وقد ذكر وجود القائلين بها في عصر الأئمة الأطهار(ع)، وقد ازداد عددهم في المراحل المتأخرة من عصر الأئمة(ع)، حتى أصبحت هذه النظرية في عصر الغيبة نظرية تنافس الاتجاه البشري للإمامة، ولم تكن هذه النظرية غالبة في المجتمع الشيعي حتى أواخر القرن الرابع. نعم قد سادت الفكر الشيعي منذ مطلع القرن الخامس إلى يومنا هذا حتى عدت من ضروريات المذهب وسماته الذاتية[4].

 

مفاد نظرية الأئمة المعصومين:

ومفاد هذه النظرية، أن الأئمة الأطهار(ع) يختلفون عن علماء الدين اختلافاً ذاتياً من خلال صفتين:

الأولى: إن الأئمة الأطهار(ع) قد خلقوا من طبيعة مغايرة لما خلق منه بقية العلماء.

الثانية: إن الأئمة(ع) يشبون النبي(ص) في الفضائل ومكارم الأخلاق، ولا يختلفون عنه إلا بالوحي. نعم هم ملهمون ومحدثون.

وبسبب توفر هذه الفضائل الذاتية عند أهل البيت(ع)، أمر النبي(ص) المسلمين باتباعهم(ع).

وبعبارة ثانية، لقد كان لما يملكه الأئمة الأطهار(ع) من خصوصيات لا يمتلكها غيرهم، مدخلية في أمر النبي(ص) المسلمين باتباعهم[5].

 

مقومات نظرية الأئمة المعصومين:

وتقوم نظرية الأئمة المعصومين(ع) على أركان ثلاثة أساسية:

الأول: وهو النصب لهم من قبل الله تعالى، والنص الشرعي عليهم من قبل النبي الأكرم محمد(ص)، فهم بمنـزلة النبي(ص)، منصوبون من قبل الله تعالى للإمامة، وقد قدم رسول الله(ص) هذا التنصيب الإلهي إلى المسلمين في إطار النص الشرعي، ومن خالف ذلك فقد انحرف عن الصراط المستقيم.

الثاني: إن علم الأئمة الأطهار(ع) علم لدني، وليس علماً اكتسابياً، وأنهم يعلمون الغيب بإذن الله سبحانه وتعالى، وليس علمهم من طريق الرأي والاجتهاد، ولا يتطرق لعلمهم الخطأ.

الثالث: إنهم معصومون كالنبي(ص) من المعاصي والخطأ مطلقاً، فلا يرتكبون معصية صغيرة ولا كبيرة، ولا يصدر منهم ذلك عمداً ولا سهواً[6].

 

الثانية: نظرية العلماء الأبرار:

وهي التي أراد أن يثبتها ليصل إلى النتيجة التي توخاها مما ذكره، لأن مقتضى هذه النظرية البناء على بشرية الأئمة الأطهار(ع)، وإثبات أنهم لا يختلفون عن غيرهم في شيء أصلاً، وأن ما يثبته الشيعة لهم من أمور ليس ثابتاً.

وأول ما ابتدأ بذكره، تأريخ هذه النظرية، فأشار إلى أنها كانت موجودة حتى أواخر القرن الرابع الهجري، بل هناك وثائق تؤكد بقاء البعض على هذه الرؤية حتى منتصف القرن الخامس.

وقد انحصر تمثيل التشيع فيها في القرن الثالث[7] فلم يكن هناك رؤية غيرها، بل لقد ذهب للقول بها الكثير في عصر الأئمة، حيث كان يقول بها جملة من حوارييهم، ورواة أحاديثهم، وشيعتهم[8].

 

مفاد نظرية العلماء الأبرار:

ومفاد هذه النظرية هذه النظرية، أن الشيعة كانوا في تلك الفترة الزمنية يتعاملون مع أهل البيت(ع) على أنهم زعماء الدين من الناحية العلمية والعملية، وأن طاعتهم واجبة عليهم، ويعتبرون رواية الأئمة عن الإسلام النبوي أكثر الروايات واقعية وأقربها إلى اسلام رسول الله(ص)، ولذلك دعا النبي(ص) المسلمين إلى اتباعهم ومشايعتهم[9].

 

فرق النبي عن الإمام:

ووفقاً لهذه النظرية، لا يمكن المقارنة بين الأئمة(ع)، والنبي محمد(ص)، لوجود الاختلاف بينهم في أمور عدة، فإن النبي(ص) يتوفر على أمور ثلاثة أساسية:

الأول: أنه(ص) منصوب من قبل الله تعالى.

ثانيها: إن مصدر علومه ومعارفه(ص) متلقاة من قبل الوحي الإلهي، وهذا يعني أن علمه لدني، وليس اكتسابياً، فإنه لم يتلق التعليم من قبل أحد.

ثالثها: ثبوت العصمة له(ص)، لأن الوحي الإلهي، والسنة النبوية يحتفظان له بذلك، فهو معصوم من الخطأ مطلقاً[10].

 

ووفقاً لهذه النظرية، يتضح عدم توفر العناصر الثلاثة في الإمام:

أما العنصر الأول، فلأن تعيـين الإمام لن يكون بنصب من قبل الله سبحانه وتعالى، وإنما سوف يكون ذلك من خلال ترشيح النبي(ص) وانتخابه له كما حصل ذلك في أمير المؤمنين(ع)، وبعد ذلك ينص الإمام على من يليه ويكون بعده.

وهذا يعني أن تعيـين الإمام يكون من اختيار النبي(ص)، ومن بعده من خلال نص الإمام السابق عليه، أو باختبار وامتحان علماء الشيعة ليبرز من هو الأفضل من الناحية العلمية، ليكون متصدياً لهذا المنصب، كما حصل في الأئمة المتأخرين(ع)، كما في إمامة الإمام الكاظم(ع)، كذا إمامة الإمام الجواد(ع)، وهكذا.

 

وأما العنصر الثاني، فإن الأئمة(ع) لا يتمتعون بعلم لدني غير اكتسابي، ولا يعلمون الغيب، وإنما يحصل كل إمام منهم على المعارف الدينية عن طريق الاكتساب من الإمام السابق، ويتوصلون إلى الأحكام الشرعية بإعمال الرأي والاجتهاد والاستنباط، وهم يخطئون كسائر البشر، وإن كانوا من أقلهم خطئاً.

 

وأما العنصر الثالث، فإنهم وإن كانوا من أطهر أفراد البشرية من حيث تجنب المعاصي، لكنهم غير معصومين، لأن العصمة منحصرة في شخص النبي(ص)، فلا يختلفون عن سائر البشر، نعم هم يبتعدون عن المعاصي بسبب قوة وراء الطبيعة، فيجتنبونها بشكل بشري متعارف حتى عدوا من الأبرار. نعم يختلف الأئمة من أهل البيت، وهم العلماء الأبرار عن غيرهم في أمور:

1-درجة العلم.

2-تهذيب النفس.

3-قربهم من الله تعالى[11].

 

وقد برر القائلون بهذه النظرية انتخابه إياها، على أساس انسجامها مع الضوابط القرآنية، والسنة النبوية المعتبرة، والروايات الصادرة عن الأئمة المعصومين(ع).

 

*************************************

[1] سورة البقرة الآية رقم 111.

[2] الحقائق والدقائق ج 5 ص 15.

[3] القراءة المنسية إعادة قراءة نظرية الأئمة الأثنا عشر علماء أبرار ص 40.

[4] القراءة المنسية ص 42.

[5] القراءة المنسية ص 43.

[6] القراءة المنسية ص 43.

[7] لم يذكر الكاتب أي شاهد على مثل هذه الدعوى، وإنما جاء ذكر هذا في كلامه إطلاق المسلمات بما يوحي للقارئ أنه كذلك، مع أن الأمر على خلاف ذلك تماماً، فإن الرجوع لسيرة أصحابا لأئمة(ع) من القرن الأول، بل منذ عصر الرسول محمد(ص)، وملاحظة ما صدر عنه(ص) من نصوص عديدة في الإشارة إلى إمامة أمير المؤمنين(ع)، وخلافته يدلل على نظرية الأمة المعصومين، وليس على شيء آخر سواها.

وعلى أي حال، لا يتعدى ما ذكره الكاتب في هكذا مورد كبقية الموارد الأخرى عن كونه مجرد دعاوى لم تبرهن ولم يقم عليها دليل من قريب أو بعيد.

[8] كان المرجو من الكاتب ليكون كلامه برهانياً أن يذكر نموذجاً واحداً يثبت صحة دعواه، وخلو كلامه من الشاهد عليه يجعله مجرد دعوى غير مبرهنة.

[9] القراءة المنسية ص 40.

[10] القراءة المنسية ص 40.

[11] القراءة المنسية ص 40-41.