19 أبريل,2024

البناء على القبور

اطبع المقالة اطبع المقالة

البناء على القبور

 

لا تدخل مسألة البناء على القبور في التوحيد والشرك، فليست ملاكاً لأي منهما، بل هي مسألة فقهية يدور حكمها بين الإباحة أو الاستحباب، أو الكراهة، أو غير ذلك، وفقاً لما يدل عليه الدليل.

وهذا يعني عدم صحة تكفير مسلم ووصفه بالمبتدع والمشرك لمجرد قيامه بهذا العمل، بسبب اختلاف الفقهاء في المسائل الفقهية.

ولما كانت مسألة البناء على القبور من المسائل الفقهية، فإنه يجري فيها ما يجري في غيرها من المسائل. ويتفق جميع فقهاء المسلمين على جواز البناء على قبور الأنبياء والأولياء.

وقد شذّ عن قولهم جماعة ادعوا حرمة البناء عليها، والمنع من مشروعيته، وأخذوا يكفرون كل من قال بمشروعية ذلك، فضلاً عن بنائه على استحبابه، وصاروا ينسبونهم إلى الشرك، والكفر، وغير ذلك.

وكيما تتجلى الحقيقة، وتظهر، لابد أن يعمد إلى ملاحظة ما استند إليه كل فريق منهما، والعمد إلى محاكمته، رغبة في الوصول للصواب منهما.

مشروعية البناء على القبور:

استند القائلون بمشروعية البناء عليها مضافاً إلى أصالة الإباحة، كأصل فقهي معتمد، إلى أدلة:

منها: الكتاب العزيز:

ويتمسك منه بآيتين تدلان على ذلك:

الأولى: قوله تعالى:- (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)[1]، وقد تضمنت الآية الشريفة بحوثاً ثلاثة:

الأول: تحديد متعلق الظرف في قوله تعالى:- (في بيوت أذن الله أن ترفع)، وفيه احتمالات:

أحدهما: أن يكون متعلق الظرف هو ما قبله، أعني قوله تعالى:- (كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة)[2]، وعليه يكون معنى الآية المشكاة في بيوت.

ثانيهما: أن يكون متعلقه فعلاً مقدراً يدل عليه لفظ(يسبح).

ثالثها: أن يكون متعلقه شيئاً آخر.

الثاني: تحديد المراد من البيوت التي ذكرت في الآية المباركة.

الثالث: بيان المقصود من رفع البيوت.

ولا يذهب عليك، أن ما يرتبط بمحل البحث هو خصوص الأمرين الثاني والثالث، دون الأول، فإنه لا ربط له. وعليه، يقع البحث فيهما.

بيان معنى البيوت في الآية:

أما الأول منهما، وهو تحديد المقصود من البيوت المذكورة في الآية الشريفة، فقد اختلف المفسرون فيها، وذكرت أقوال في ذلك:

منها: أن المقصود بالبيوت في الآية المباركة، هي المساجد الأربعة.

ومنها: أن يكون المقصود منها مطلق المساجد.

والفرق بين القولين واضح، إذ أن الثاني منهما أوسع دائرة من حيث الشمولية من القول الأول، لأنه قد حدد المورد في القول الأول في خصوص المساجد الأربعة.

ومنها: أن المقصود بالبيوت في الآية الشريفة، هو بيوت النبي الأكرم محمد(ص).

ومنها: الالتزام في تحديد المقصود بها بالجمع بين الأقوال الثلاثة السابقة، فيلتـزم أن البيوت شاملة لمطلق المساجد بما فيها المساجد الأربعة، ولبيوت النبي الأكرم محمد(ص) أيضاً.

ويعتمد القبول بالقولين الأولين على صحة إطلاق لفظ البيت على المسجد، وهو وإن صح بحسب المعنى اللغوي، إلا أن هناك موانع تمنع من البناء عليه، وهي:

1-إن إطلاق لفظ البيت على المسجد إطلاق شاذ، ومن المعلوم أنه لا يصح تفسير القرآن الكريم بالشاذ. فإن البيت في القرآن الكريم يختلف عن المسجد، فالمسجد الحرام غير بيت الله الحرام.

2-إن هناك فرقاً بين البيت والمسجد، لأن البيت مما يحتاج سقفاً، وليس المسجد كذلك، فقد يكون مسقوفاً، وقد لا يكون كذلك. فهذا المسجد الحرام لا سقف له، بينما هناك مساجد أخرى يوجد لها سقف.

3-إن مراجعة آيات سورة النور، والتأمل فيها يفيد وجود مغايرة بين مفهومي المسجد والبيت، فقد تضمنت آيات السورة المباركة استعمال لفظ البيوت مقابل المسجد، وهذا يمنع أن يفسر البيت بالمسجد. فلاحظ قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون* فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم* ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)[3]، وكذا قوله سبحانه:- (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون)[4].

وبالجملة، إن ملاحظة لفظة البيوت الوارد ذكرها في هذه الآياتـ مانع من تفسير لفظة البيوت في الآية محل البحث بالمساجد.

4-لقد تضمنت النصوص الشريفة المروية عن رسول الله(ص) تفسير البيوت الوارد ذكرها في الآية المباركة ببيوت الأنبياء(ع)، وبيت علي وفاطمة(ع)، فقد روي أنه سأله رجل بعدما قرأ قوله تعالى:- (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)، يا رسول الله، أي بيوت هذه؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها؟ يعني بيت علي وفاطمة، قال: نعم، من أفاضلها[5].

ومع ورود هذه القرائن المانعة من حمل لفظ المسجد على البيت، وتفسير البيت الوارد ذكره في الآية به، يتعين أن يكون المقصود منه في الآية الشريفة هو بيوت الأنبياء، وبيوت النبي(ص)، وبيت أمير المؤمنين والسيدة الزهراء(ع)، وما ضاهها، بمقتضى القسمة الحاصرة، إذ قد عرفت في مطلع البحث أن هناك أقوالاً بين المفسرين في تحديد المقصود من البيوت، وأنها تدور بين تفسيرها بالمساجد مطلقاً، أو خصوص المساجد الأربعة، أو بيوت الأنبياء، التي منها بيت النبي الأكرم(ص) بلا ريب، ومع عدم القبول بكون المقصود بها المساجد، يتعين أن يكون المقصود بها إذاً بيوت الأنبياء(ع).

ولو قيل: ما هو السبب والموجب أن تذكر هذه البيوتات، وتخص بالذكر دون بقية البيوت الأخرى؟

قلنا: أن ذلك بلحاظ من تخصهم، ويكونوا فيها، فإنها تخص رجالاً يسبحون الله تعالى ليلاً ونهاراً، وغدواً وآصالاً.

معنى رفعها:

وأما الثاني منهما، وهو بيان معنى رفعها، فإن من يرجع إلى كلمات المفسرين يجدهم قد ذكروا أمرين:

الأول: حمل اللفظ على معناه العرفي، وما هو الظاهر منه، أعني البناء، فيكون المقصود من الرفع في الآية الشريفة، هو البناء، وعليه يكون معنى الآية الشريفة، بناء البيوت. ويساعد على هذا المعنى قوله تعالى:- (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت)[6]، فإن المقصود من الرفع في الآية الشريفة، هو البناء، لأنهما كانا بصدد بناء الكعبة المعظمة. وأيضاً قوله تعالى:- (ءأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها* رفع سمكها فسواها)[7]، فإن المقصود من الرفع الوارد في الآية هو البناء.

الثاني: أن يكون المقصود من رفعها، تعظيمها، والرفع من قدرها ومنـزلتها عند الناس.

وأكثر مفسري الجمهور على أن المقصود من الرفع في الآية المباركة، هو المعنى الأول، أعني البناء.

إلا أن ملاحظة ما تقدم تمنع من القبول بالأمر الأول، فيستنتج من الآية المباركة أمران:

1-ليس المقصود من رفع البيوت إنشاؤها، لأن المفروض أنها كانت قائمة مبنية، وإنما يقصد برفعها صيانتها، وحفظها من الاندثار والخراب.

2-من المعلوم تفاوت البيوت المذكورة، فليست جميعها سواء، فإن بعضها أصبحت بعد رحيل أهلها أمكنة خالية، إلا أن قسماً كبيراً منها تحول إلى مقابر دفن فيها أهلها، فقد دفن النبي محمد(ص) في بيته، وقيل أن السيدة الزهراء(ع) مدفونة في بيتها أيضاً، وكذا جعل منـزل الإمامين العسكريـين(ع) في سامراء موضعاً لقبريهما.

ومقتضى ذلك لزوم رعاية تلك البيوت والحفاظ عليها مع أنها مشتملة على القبور المباركة لأصحابها، وهذا يعني أن ما يقوم به فريق غير قليل من المسلمين من التقديس والاحترام لتلك البيوتات لأنها مراقد طاهرة لأصحابها يوافقه القرآن الكريم، ويدل عليه.

نعم يبقى عدم وضوح دلالة الآية الشريفة على البناء جديداً على المراقد الطاهرة للقبور المقدسة، وهذا وإن لم يستفد من الآية صراحة، إلا أن مقتضى عدم الفصل بين البناء، والتجديد بالمنع عن الاندثار، هو البناء على مشروعيته، كما أنه يمكن القول بمشروعيته بلحاظ أن ملاك مشروعية التقديس والحفاظ عليها عن الاندثار، إنما هو تكريمها، وأداء حقها، وهذا يجري أيضاً في التشيـيد والبناء عليها.

الثانية: قوله تعالى:- (وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً)[8].

وخلاصة ما تعرضه قصة أصحاب الكهف، كما يظهر من السورة، أنه بعدما أبرز الله سبحانه وتعالى الآية التي كان يحتاجها الناس في ذلك الزمان، للتصديق بالمعاد، وعاد مبعوث أهل الكهف من المدينة إلى أصحابه، دعوا الله تعالى أن يعيدهم إلى ما كانوا فيه، وقد أرشد الله أهل المدينة إليهم بعدما أجاب دعوتهم، فاتفق القوم على تكريمهم، إلا أنهم اختلفوا في طريقة التكريم، فذكرت طريقتان:

الأولى: اغلاق فتحة الكهف، حتى يحافظ عليهم، ولا يعبث أحد بهم، ويقصد موضعهم من يشاء من الناس، وهذا يظهر من قوله تعالى:- (ابنوا عليهم بنياناً).

الثانية: أن يبنى عليهم مسجداً يكون موضعاً للعبادة والتقديس والتقرب إلى الله تعالى فيه، يتعبد الناس فيه ببركاتهم، وهو ما جاء على لسان فرقة من الحاضرين، بقولهم:- (لنتخذن عليهم مسجداً).

وقد تضمنت كلمات المفسرين الحديث عن الفريقين أصحاب المقترحين، وأن الفريق الثاني منهما من أهل التوحيد، ويستكشف ذلك من طلبه بناء مسجد، وهم يمثلون الأكثرية الساحقة، ومنهم الملك، كما يظهر ذلك من قوله تعالى:- (وقال الذين غلبوا على أمرهم)، لتفسيره بالملك.

لا يقال: إن المشركين قد عمدوا إلى عمارة البيت الحرام في مكة المكرمة، وهذا يعني أن للمشرك علاقة بالمساجد أيضاً، فلا يلزم أن يكون الاقتراح المذكور صادراً من مسلم، بل يمكن أن يكون صادراً من مشرك أو كافر ما دام لهما علاقة بالمساجد.

فإنه يقال: إن المشركين لم يعمدوا إلى عمارة البيت الحرام في مكة المكرمة من أجل ذات البيت، وإيمانهم به، بل لأنه كان يمثل سبب كيان وعظمة وسلطة لهم ووجود في أوساط العرب وبين القبائل، فكانوا يفتخرون بوجوده بينهم، وهذا دعاهم للمحافظة عليه وحمايته وعمارته.

وعلى أي حال، لا يهم في البين تحديد من هو صاحب المقترح، وأنه المسلمون أو غيرهم، وكم كان عددهم في تلك الفترة الزمنية، فإن هذه التفاصيل يمكن طلبها من ذات قصة أصحاب الكهف. وإنما الذي يهم هو كيفية تعامل القرآن الكريم مع المقترحين الذين قدما، وهل أنه عمد إلى نقدهما ورفضهما، أو نقد أحدهما ورفضه؟

إن الملاحظ أن القرآن الكريم، قد ذكر كلا المقترحين من دون نقد لأي منهما أو رده، وليس متصوراً أن يصدر من الموجودين على باب الكهف باطل، ويحكيه القرآن الكريم، ويسكت عن بيان بطلانه، ودفعه، لأن ذلك يتنافى وغرضه، فلو كان الباطل الصادر منهم يوجب الانحراف والشرك مستقبلاً فلا يمكن أن يمرّ عليه من دون إشارة إلى ما فيه من خلل ومنع.

مع أن التأمل في دلالة الآية الشريفة يعطي للقارئ أن القرآن الكريم بصدد مدح هؤلاء الذين جاءوا يتجمهرون عند باب الكهف، وعمدوا إلى التفكير والتخطيط لكيفية تكريم هؤلاء الأولياء وأداء حقهم.

وهذا يكشف عن أن كلا المقترحين المقدمين من قبل هؤلاء كانا مرضيـين عند الباري سبحانه وتعالى، ومحمودين لديه، كما يظهر ذلك من خلال الإقرار القرآني بعدم الردع عنهما، وهذا يشير إلى أن مثل هذا العمل لا يمس التوحيد من قريب أو بعيد، ولا يخدش كرامته، ولا يسئ إليها.

ومع ضم هذه النتيجة المستفادة من الحدث المذكور في قصة أصحاب الكهف، إلى أن القرآن الكريم قد نزل كتاب هداية وإصلاح وصلاح للأمة، وأن ما تضمنته آياته المباركة من عرض لحياة الأمم السابقة ووقائع شؤونها، غايته الاعتبار به في هذه الأمة، والاستفادة منه، فسوف تكون النتيجة البناء على مشروعية تكريم الأولياء، والحفاظ عليهم، بعمارة قبورهم ومراقدهم الطاهرة.

سيرة المسلمين:

ومنها: سيرة المسلمين، فإنها أحد الأدلة التي يستند إليها في إثبات مشروعية البناء على القبور، وعدم وجود ما يمنع من ذلك. ويساعد على ما ذكرنا ملاحظة بلدان الإسلام والمسلمين، فإنه لا يوجد بلد إسلامي لا يتضمن قبوراً مشيدة لعلماء وأولياء، حتى أنك تجد أن قبور أئمة المذاهب الأربعة مشيدة وعليها قباب معمولة. مع أنها قد بنيت في وقت كانت تلك البلدان زاخرة بالعلماء وأهل الفتوى، فلو كان في ذلك شيء يخالف الشرع الدين، لاتخذوا من ذلك موقفاً ومنعوا من إقامتها وبنائها.

أصالة الإباحة في الأشياء:

ومنها: أن الأصل في الأشياء هو الإباحة والحلية، وتطبيق هذا الأصل محكوم بعدم ورود نهي من الشارع المقدس، ومع مجئ النهي لا يبق مجرى إليه. ولوضوح هذا الأصل وأنه من المسلمات وأنه الأصل في الأشياء، نجد أن القرآن الكريم يعمد عادة إلى بيان المحرمات، ولا يعرض لبيان المحللات اتكالاً على الأصل المذكور، فلاحظ قوله تعالى:- (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين)[9]. وأوضح منها قوله تعالى:- (قل لا أجد في ما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به)[10]، لأن المستفاد منها أن ما يحتاج البيان هو المحرمات، وليس المباحات، ولذا أشار(ص) إلى أنه ما دام لم يرد شيء في الوحي يفيد حرمة أمر ما، فإنه محكوم بالحلية والإباحة.

ويترتب على هذا أنه لا يصح العقاب على أي فعل من الأفعال، إلا بعد أن يبين حكمه، فلو كان محرماً لزم النص عليه، وما لم يرد فيه نص، فهو محكوم بالحلية والإباحة، ولا يكون فاعله مستحقاً للعقاب.

ومنه يتضح، أنه لما لم يرد في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة ما يدل على عدم مشروعية البناء على القبور، وقصدها، فإن مقتضى هذا الأصل البناء على حليته، وعدم استحقاق الفاعلين له أية عقوبة.

مستند المانعين من المشروعية:

وقد استند القائلون بعدم مشروعية البناء على القبور إلى نصوص عمدتها رواية أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله(ص)-إلى أن قال-أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً إلا سويته. أي لا تبقي قبراً عالياً مرتفعاً عن الأرض، إلا سويته بالأرض، وهذا يكشف عن عدم مشروعية البناء على القبور، لأنه لو كان مشروعاً لم يكن هناك موجب للأمر بهدمها وإزالتها.

وحتى يصح الاستدلال بالخبر المذكور، لابد من توفر أمرين:

الأول: أن يكون سنده معتبراً ليس فيه ما يمنع من الاستناد إليه.

الثاني: أن تكون دلالته تامة على المطلوب.

أما الأول منهما، فقد صرح علماء الرجال باشتمال السند على مجموعة من الضعفاء، وهم: وكيع، وسفيان النوري، وحبيب بن أبي ثابت، وأبو وائل الأسدي.

فوكيع ممن ورد في حقه المدح والذم. وأما سفيان، فقد قال عنه الذهبي بأنه كان يدلس عن الضعفاء، ومثله قال ابن حجر.

وقال ابن حبان في شأن حبيب بن أبي ثابت، أنه كان مدلساً، ومثله قال ابن خزيمة في صحيحه، وأما ابن حجر، فقد ذكر أنه كان كثير الإرسال والتدليس.

وأما أبو وائل الأسدي فقد كان منحرفاً عن أمير المؤمنين(ع)، وكان يقول أنه كان علي(ع) أحب إلى قلبه، ثم صار عثمان أحب إليه.

والحاصل، إن سند الرواية لو لم يكن ضعيفاً بوجود من سمعت، فلا أقل من أنهم مختلف فيهم بين التوثيق والتضعيف، لأنه كما ورد في حقهم المدح، فقد ورد فيهم الذم أيضاً، وعندها لا مناص من التساقط.

على أنه لو رفعنا اليد عما تقدم، فإن هناك ما يوجب الريب في الخبر المذكور ،لأنه لم يذكر في كتب الصحاح لراويه وهو أبو الهياج إلا خصوص هذه الرواية.

وبعد اللتيا واللتي، كيف يمكن أن ترفع اليد عن السيرة المستمرة للمسلمين والمتجذرة في الاعماق برواية واحدة هذا هو حال سندها، بل كيف يعارض الكتاب الكريم بمثل هكذا خبر.

وأما الدلالة، وهو ثاني الأمرين، فقد قرر منعها على المطلوب، بملاحظة اللفظين الواردين في الخبر، وهما: قبراً مشرفاً، وإلا سويته. لأن اللفظ الأول منهما يحتمل معنيـين:

أحدهما: مطلق العلو.

ثانيهما: العلو الخاص.

ولا مجال لتعيـين أحدهما في المقام، لأنه يحتاج إلى قرينة وهي مفقودة، وهذا يجعل الخبر مجملاً من هذه الناحية، ما يمنع من الاستناد إليه في مقام الاستدلال.

وأما اللفظ الثاني، أعني: إلا سويته، فإن المساواة التي تكون لشيء بشيء آخر، لها استعمالان:

الأول: المساواة للشيء بلحاظ الطول.

الثاني: المساواة للشيء بلحاظ العرض.

ولا يخفى أنه يوجد فرق بين المعنيـين بلحاظ المعنى اللغوي، فلو كان المقصود من المساواة، هي المساواة في الطول، فإنه يتعدى إلى مفعولين. أما لو كان المقصود منها المساواة في العرض، فإنما يتعدى إلى مفعول واحد.

وعند العودة إلى الحديث نجد أنه قد تعدى إلى مفعول واحد، وهذا يعني أن المقصود منه المساواة للشيء بلحاظ العرض، وهو المعنى الثاني للمساواة وهو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه وبسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته بالأرض، وهذا هو ما فهمه شراح الحديث كالقرطبي وابن حجر وغيرهما. فقد قال القرطبي: قال علماؤنا: ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة[11].

وبناءً على هذا سوف يكون الحديث المذكور أجنبياً تماماً عن المدعى، ولا ربط له بما هو محل البحث كما هو ظاهر، هذا كله بعد رفع اليد عن الإجمال الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.

على أن ما يراد اثباته بالحديث يخالف ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة، لأن المندوب عندهم هو ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر[12].

ثم إنه لو رفعت اليد عن المناقشة السندية للخبر، وأغمضت العين عن المناقشة الدلالية فيه، فإنه لا ينفع لإثبات المطلوب، لأن أقصى ما يستفاد منه هو تخريب القبر ومساواته بالأرض، لكنه لا يدل على هدم البناء الواقع عليه، وإزالته.

ومنه يتضح غرابة الاستناد لمثل هذا الحديث من أجل تخريب القباب المشيدة وهدمها التي هي مظاهر الود لأصحابها[13].

[1] سورة النور الآية رقم 36.

[2] سورة النور الآية رقم

[3] سورة النور الآيات رقم 27-29.

[4] سورة النور الآية رقم 61.

[5] تفسير البرهان ج 5 ص 398، نقلاً عن تفسير الثعلبي، الدر المنثور ج 6 ص 203.

[6] سورة البقرة الآية رقم

[7] سورة

[8] سورة الكهف الآية رقم 21.

[9] سورة الأنعام الآية رقم 119.

[10] سورة الأنعام الآية رقم 145.

[11] تفسير القرطبي ج 2 تفسير سورة الكهف.

[12] الفقه على المذاهب الربعة ج 1 ص 42.

[13] في ظلال التوحيد ص 330-385(بتصرف).