29 مارس,2024

العقوبة الإلهية (كلمة الجمعة)

اطبع المقالة اطبع المقالة

يعرف العقاب في القانون الوضعي بأنه إيقاع الجزاء على من يرتكب الجريمة، والغاية من ذلك هي حماية الهيئة الاجتماعية، بمعنى حماية المجتمع من الشخص المعاقب بإيقاع العقاب عليه.
وقد قسم هؤلاء الحماية إلى قسمين:

الأول: حماية خاصة: وتستهدف شخص المعاقب نفسه، من خلال إيقاع العقوبة عليه، ولذلك صور، فقد يكون إيقاعها بردعه عما ارتكب، أو بإيقاع الألم عليه، وقد يصل الأمر إلى استئصاله بإخراجه من الدنيا.

الثاني: حماية عامة: وهي التي يهدف فيها إلى حماية أفراد المجتمع من فعل نفس الجرم مرة ثانية، فموضوعها هو الجرم، وما ينبغي أن يوضع عليه من عقوبة تكون رادعة لأفراد المجتمع أن يأتوا بها.

والظاهر عدم اختلاف حقيقة العقاب في القانون الإسلامي عن حقيقته في القانون الوضعي، فإن هدف الشريعة من العقوبة هو حماية المجتمع بحماية أفراده. نعم يتصور الاختلاف بينهما في فلسفة العقاب، ذلك أن فلسفته في القانون الوضعي اتخذت مناحي متعددة، وقد جمعها جميعاً وزيادة القانون الإسلامي.

فلسفة العقوبة في القانون الوضعي:

عند الحديث عن العقوبات، يطرح سؤال، حاصله: ما هو الهدف من سنها وجعلها، أو قل: ما هي فلسفة العقوبة، ولماذا يعاقب المقننون ويضعون قانون العقاب؟
إن ما ينبغي التنويه إليه أن هناك فرقاً بين فلسفة العقوبة وبين حقيقتها، فلا ينبغي الخلط بينهما، والسؤال المذكور، ينصب على طلب الإحاطة بفلسفة العقوبة.
ويقصد بفلسفة العقوبة، مبانيها وأهدافها، ولذا عندما يكون السؤال عن فلسفتها، فهو في الحقيقة سؤال عن الهدف الذي دعى إلى جعلها وتشريعها، والدواعي التي أوجبت وضعها وتقنينها.

وكيف ما كان، فقد تضمنت القوانين الوضعية عدة نظريات تحدثت عن فلسفة العقوبة، وبيان الدواعي والأهداف من وضعها وتقنينها، نشير إلى بعضها:

نظرية الفائدة الاجتماعية:
وقد يعبرّ عنها أحياناً، بنظرية الدفاع الاجتماعي، ولعل أول من ألتـزم بهذه النظرية هو جان جاك روسو لكونها تمثل مفردة من نظريته الأساس (العقد الاجتماعي)، وحاصل، ما ذكر بياناً لهذه النظرية، أنه بعد ما ثبت عدم قدرة الإنسان أن يعيش منفرداً ومستقلاً، وبانت حاجته أن يعيش في وسط جماعة، فلابد وأن يكون لهذه الجماعة قانون يحكمها، وهذا يعني أن هناك عقداً بين أفراد المجتمع، فإذا ارتكب أحد منهم جرماً، فقد نقض ذلك العقد، فيسلبه فعله المذكور عضوية المجتمع، فيبعد منه، لأنه قد أصبح عدواً له، وهذه هي العقوبة التي توقع عليه.
ومن بعد روسو تبنى هذه النظرية مجموعة من الفلاسفة أيضاً، وعمدوا إلى تطويرها، مع محافظتهم على الصورة الأساس للنظرية.

ومن الواضح جداً، أن الهدف الأساس من فرض العقوبة في النظرية المذكورة، هو مصلحة المجتمع، والفائدة التي تعود عليه، لأنه لو لم يقدم على معاقبة المجرم، فإن ذلك سوف يؤدي إلى زعزعته، واختلال نظامه وفقدان أمنه.، فمن أجل الفائدة الاجتماعية، لزم أن يكون هناك نظام للعقوبات، يعاقب به كل من يخل بالأنظمة والعهود والمعاقدات المتفق عليها.

مدرسة العدالة المطلقة:

وقد تبناها مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الدينين والأخلاقيـين، وهي التي تقرر أن الهدف من العقوبة هو تنفيذ العدالة المطلقة. وقد أكد هذا المعنى كانت، ورفض أن يكون الهدف منها هو الفائدة الاجتماعية، واستشهد لذلك بما إذا كون جماعة مجتمعاً في جزيرة نائية، وبعد مدة من الزمن قرروا تركها والعودة إلى أماكنهم الأصل، وقبل أن يخرجوا منها ارتكب أحدهم جرماً، فهل يعاقب والحال هذه، أم لا؟

فإن قيل: أن الهدف من جعل العقوبة هو مصلحة المجتمع وفائدته، فلا معنى لمعاقبته، لأن المفروض أن المجتمع قد انهار بقرار الهجرة عن الجزيرة، وإن قيل، بأنه لا معنى لمعاقبته، فلماذا سنت وشرعت العقوبات إذاً؟!

من هنا قرر كانت، أن الغاية التي جعلت العقوبة من أجلها ليست الفائدة التي تعود على المجتمع، بل الغاية هو تطبيق العدالة المطلقة، وهذا لا ربط له ببقاء المجتمع، أو انهياره وانتهائه.

نظرية الوقاية والإرعاب:

وتقوم هذه النظرية على عنصرين، لهما دخالة في تحقيق الهدف الذي جعلت العقوبة من أجله:

الأول: هو عنصر الوقاية، وهذا يكون من خلال إيجاد الموانع التي تحول بين الفرد وبين الإقدام على الجريمة، كالتربية الصالحة مثلاً، أو رفع المستوى المعرفي والثقافي ببيان الآثار السلبية المترتبة على الجرائم، وما شابه ذلك.

الثاني: عنصر الإرعاب، ويكون ذلك بإنزال العقوبة على كل من يرتكب الجريمة، ويخرج على القوانين المقررة، وهذا العمل كفيل أن يخلق حالة من الخوف عند أفراد المجتمع تحول بينهم وبين الإقدام على الجريمة مرة أخرى.

ويقرر أصحاب هذه النظرية، أن فقدان عنصر الإرعاب سبب رئيس لحصول الجريمة وانتشارها، بل هو يساعد على زيادة عدد الفاعلين لها ممن لم تصدر منهم من قبل.

نظرية الإصلاح وتربية المجرمين:

وتتبناها مدرسة الدفاع الاجتماعي، وهي تعتقد أن أولى واجبات الدولة في تنفيذ العقوبات هو الإصلاح وتربية المجرمين. وقد قربوا حصول الإصلاح من خلال ما يوجده العقاب من صدمة روحية أليمة في نفس المجرم، يدرك من خلالها خطأه، ويقرر عدم العود إليه مستقبلاً لإصلاحه نفسه.

وقد تحصل مما تقدم، تعدد الأهداف والدواعي التي جعلت العقوبة من أجلها، وهذا يكشف عن تعدد فلسفتها، وأنه لا يمكن جمعها في نظرية واحدة، إلا أن الملاحظ أن النظريات المذكورة ليست جامعة مانعة، لأن كل واحدة منها تسوغ جانباً، إلا أنها تفتقر إلى جوانب أخرى، فنظرية الإرعاب مثلاً، إنما هي نظرية صورية وليست واقعية، ذلك أن الواقع الخارجي يكذبها، فإننا نجد ازدياد عدد المجرمين وكثرت الجريمة، حتى مع وضع قانون العقوبات.

فلسفة العقوبة في القانون الإسلامي:

وأما فلسفة العقوبة في القانون الإسلامي، فقد يتوهم عدم اعتناء الشارع المقدس بوضع قانون جزائي يكفل حفظ النظام، وإرساء دعائم الأمن والعدالة بين أفراد المجتمع، لأن الإسلام إنما هو دين عبادة.

وهذا توهم فاسد، ذلك أن مقتضى شمولية الدين، يستدعي وجود النظام الجزائي المتكفل بترسية قواعد الأمن والأمان، وإقامة العدالة بين الأفراد، ووضع عقوبات تطال كل من يتعدى على تلك النظم، ويقوم بمخالفتها.
وقد تضمن القانون الإسلامي نوعين من العقوبة:

الأول: العقوبة الأخروية:

وهو الأكثر أهمية، ويكون عندما يحشر الناس بعد الموت في محكمة العدل الإلهي، وقد أشير إليه في العديد من الآيات الشريفة، قال تعالى:- (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً)[1]، ولا نود الحديث عن تفاصيل هذه العقوبة، وما يجري في تلك المحكمة العادلة، وكيف تقدم الأدلة والبراهين لإثبات الحجة على العبد، وإلزامه بما صدر عنه، وقطع كافة سبل الإنكار عليه.

الثاني: العقوبة الدنيوية:

وهي التي تكون في عالم الدنيا، وقبل أن يخرج الإنسان إلى عالم الآخرة، وقد يتوهم الكثيرون حصر العقاب الإلهي في خصوص عالم الآخرة، ويغفلون عن وجود عقوبة في هذا العالم، وربما يعود ذلك إلى غفلتهم عنها، أو عدم شعورهم بها حين حصولها ونزولها.

وعلى أي حال، فإن هذا النوع من العقوبة ينقسم إلى نوعين:

أحدهما: العقوبة التشريعية: وهو ما تضمنته الشريعة الإسلامية من أنظمة مقررة للعقوبات، يستنبطها الفقهاء من مصادرها المقررة، كعقوبة القصاص في القتل، وقطع اليد، والجلد، وغير ذلك.
ثانيهما: العقوبة التكوينية: وهي ما تكون وفق قانون العلة والمعلول، والسبب والمسبب، وما ترتبط به.

وقد أشير إلى هذا النوع من العقوبات في القرآن الكريم، فقال سبحانه وتعالى:- (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)[2]. وقال عز وجل:- (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها)[3]. وقال الحق أيضاً:- (فتلك بيوتهم خاوية على بما ظلموا)[4]
ولم تقتصر صور العقوبات التكوينية التي عرضها القرآن الكريم في خصوص فناء الأمم وهلاكها، بل أشار إلى صور أخرى، فذكر الأزمات الاقتصادية، والضائقات المادية، وكذا الأزمات الروحية، قال تعالى:- (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)[5]. بل يستفاد من بعضها أن أحد صورها حرمان الإنسان من الرحمة الإلهية، جراء صدور موجبات العقوبة التكوينية، كما يظهر ذلك في قصة بني اسرائيل.

وقد أكدت الآيات الشريفة في عدة آيات أن أحد موجبات العقوبات التكوينية الظلم، وأشارت إلى أنه لا يختص بظلم الآخرين والتعدي عليهم، بل إن الظلم الموجب لحصول العقوبة التكوينية، يشمل ظلم الإنسان نفسه، فالفسق والفجور، والانحراف عن المسار الإنساني الصحيح ظلم لا يرتضيه القرآن الكريم.

ثم إنه بعد عرض أنواع العقوبة في الشريعة الإسلامية، نشير إلى فلسفتها، ويظهر هذا من تحديد فلسفة الدين، ولو بصورة مجملة، فإن المستفاد مما ورد في ذلك أن الدين الإسلامي دين الرحمة، وهذا يعني أن أبرز العناوين المطروحة في فلسفته هو عنوان الرحمة، فيلزم أن يكون كل ما يرتبط بهذا الدين من تشريعات داخل هذا الإطار، أعني اطار الرحمة، ومنصباً فيه، وعليه يمكن القول بأن فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية لا تخرج عن هذا الإطار، وهو اطار الرحمة. لأن الغاية الأساس التي يهدف الشارع المقدس إلى تحقيقها من العقوبة هي إصلاح المجرم.

نعم قد لا يتصور البعض أن العقوبة التي تتضمن إيلاماً وأذى يقع على المجرم، تكون رحمة به، أو رحمة إليه، لأن وجود الإيلام والأذى يتنافى وعنوان الرحمة، ويمنع وصفها بهذه الصفة.
وهذا التعجب يزول عند ملاحظة المنشأ الذي تقوم عليه التشريعات السماوية، والأحكام التي وضعت في الشريعة السمحاء، فإن التشريعات جعلت على أساس معيار محدد يتمثل في قانون المصالح والمفاسد الواقعية، بمعنى أنه لا يوجد حكم شرعي إلزامي، سواء في جانب الفعل والإتيان، أم كان في جانب الترك، إلا وله مصلحة أو مفسدة واقعية، فالأمر بشيء كالصلاة مثلاً، يعود لوجود مصلحة واقعية مترتبة على هذا الفعل، كما أن النهي عن شرب الخمر مثلاً، يعود لوجود مفسدة واقعية دعت إلى ذلك، وهكذا.

نعم ليس شرطاً أن يدرك العقل البشري تلك المصالح والمفاسد، لأنه قد يقصر عن الإحاطة بذلك، لكن لا يعني ذلك عدم تمكنه من الصول إلى ذلك مطلقاً.
وبعبارة أخرى، إن بعض المصالح والمفاسد الواقعية يمكن للعقل البشري إدراكها، إلا أن بعضها يعجز عن الوصول إليها.

ومقامنا من هذا القبيل، ذلك أن المصلحة المترتبة على إيقاع العقوبة على المجرم ليست مختصة به، بل إن الشارع المقدس يلحظ مصلحة لجانب آخر وهو المجتمع، فإن وجود مثل هذه العقوبة يمثل عنصر حماية للمجتمع من تفشي مثل هذه الجرائم في وسطه، وتساعد على استقرار أمنه، وحفظ كيانه. فالمصلحة الحقيقية للفرد والمجتمع هما همُّ الشريعة الإسلامية، وهذان يمثلان رحمة الشريعة وفلسفته. ويمكن تقريب ذلك بالدواء بالنسبة للمريض، فإن الدواء قد يكون مراً لا يرغب المريض في تناوله، ويعتقد أنه يؤذيه، مع أنه في الواقع يفيده، ومصلحته في تناوله، فهو لا يدرك تلك المصلحة، إلا أن الطبيب المعالج أدركها فشخص له تناوله.

المناسبة بين العقوبة والجريمة:

ولأن الغاية الأساس في الشريعة الإسلامية من العقوبة هي اصلاح المجرم، وحماية المجتمع من باب الرحمة، فقد اعتبر توفر شروط في العقوبة لاتي تقوع على الشخص المعاقب:

منها: التناسب بين الجريمة والعقاب:
قد عرفت أن الداعي إلى وجود العقوبة في الشريعة الإسلامية، هي مصلحة المجرم ومصلحة المجتمع، وليست الغاية الأساس عملية التشفي أو الإضرار بالمجرم، كما لا يخفى. وهذا يستوجب أن يكون هناك تناسب بين الجرم الصادر من المجرم، وبين العقوبة التي تقع عليه، فبمقدار ما يكون صادراً عنه من جرم، يلزم أن تقع عليه العقوبة، وكذا أيضاً يلزم أن يلحظ مدى تأثير هذه الجريمة على المجتمع، ومدى ضررها على المجتمع، ويعدّ هذا الشرط من صور العدالة الإلهية، فإن ملاحظة التناسب تشير إلى ذلك.

ومنها: أن تكون العقوبة تأديبية: لما عرفت من أن الغاية هي تأمين مصالح المجتمع.

ومنها: أن يكون مقدار الجزاء بلحاظ مصلحة المجتمع:

وقد أشرت شيئاً ما إلى ذلك في الشرط الأول، عند الحديث عن التناسب بين العقوبة والجزاء، وأوكد بأنه لو كانت مصلحة المجتمع تقتضي شدة فيا لعقوبة، فإن ذلك مسوغ لكونها عقوبة شديدة، وهكذا.

ومنها: أن تكون الغاية من العقوبة التأديب والإصلاح، وليس الانتقام:

فإن ذلك مقتضى كون الدين الإسلامي دين الرحمة، أن يكون الصادر منه دائماً ينصب في هذا الجانب، ويؤكد عليه. ومجرد اختلاف نوعية التأديب شدة وضعفاً، لا تعني فقدان الرحمة، كما لا يخفى.

رفع العقوبة في بعض الموارد:

وكما تضمنت بعض الأنظمة الوضعية، كالقانون الفرنسي، والقانون المصري، أن المجرم وقبل الظفر به وانزال العقوبة عليه، لو تراجع عن جرمه، وعدل عما كان يفعله فإنه يعفى عنه، ولا يوقع عليه العقاب.

فقد اشتمل الإسلام على هذا المبدأ أيضاً، حيث اتفق علماؤنا وفقاً للنصوص أن المجرم إذا تاب قبل أن يعلم أحد بجرمه، أو قبل أن يقع في يد العدالة ويقر بما قام به من جرم، يسقط العقاب الدنيوي التشريعي عنه، فقد جاء عن أحدهما(ع) أنه سئل: في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى، فلم يعلم بذلك منه، ولم يؤخذ حتى تاب وصلح. قال: إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ[6].

نعم لو ظفر به وأقرّ على نفسه بالجرم، وتاب فقد اختلف الأصحاب في ذلك بين من يقول بسقوط العقوبة عنه، ومن يقول بعدم سقوطها، ومنشأ ذلك هو اختلاف النصوص، وتفصيل ذلك يطلب من البحث الفقهي[7].

أنواع العقوبات التكوينية:

وبعد الفراغ عن ذكر نوعي العقوبات في الشريعة الإسلامية، وأن أحدها هي العقوبة التكوينية، وما أشير من تعدد صور عرضها في القرآن الكريم، وأن موجبات حصولها لا تنحصر في سبب واحد، بل تشمل حتى ظلم الإنسان لنفسه، يأتي سؤال، مفاده: هل تنحصر العقوبة التكوينية في البعد المادي فقط، بمعنى أن يكون ذلك من خلال الصور التي عرضت في القرآن الكريم وأشير إليها في ما سبق، من هلاك الأمم وفنائها، أو اصابتها بالقحط، أو المشكلات الاقتصادية، أو الأمراض، أو انتشار الأوبئة بينها، وأمثال، أم أن هناك نوعاً آخر من العقوبات التكوينية؟

إن المستفاد من الأدلة الشرعية هو وجود نوعين من العقوبات التكوينية:
أحدهما: العقوبات التكوينية المادية.
ثانيهما: العقوبات التكوينية المعنوية، أو الروحية.

ويظهر هذان النوعان بوضوح في دعاء كميل بن زياد، قال(ع): اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء. فإن قوله(ع): اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، يشير إلى النوع الثاني من العقوبة التكوينية، بل يمكن عدّ قوله(ع): اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، منه أيضاً، لأن من المحتمل جداً أن يكون البلاء النازل أعم من البلاء الجسدي، ليشمل حتى البلاء الروحي، كما لعله يظهر إن شاء الله تعالى.

وجاء عن الإمام أبي جعفر(ع) أنه قال: إن لله عقوبات في القلوب والأبدان، ضنك في المعيشة، ووهن في العبادة، وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب[8]. فإن الأول من الأمور الثلاثة من العقوبات المادية، وهو المعبر عنه بضنك في المعيشة، لأنه يشير إلى المشكلة الاقتصاد والقحط، وإن كان يحتمل ظهوره في العقوبة الروحية المعنوية أيضاً. إلا أن القسمين الآخرين، الثاني والثالث، واضحان جداً في العقوبة المعنوية، فإن المقصود من وهن العبادة عدم الاهتمام والاعتناء الأمور العبادية، فالكثير من الناس لا يعتنون بالدعاء ولا يهتمون به، بل لا يسعون للحضور في المجالس التي تعقد لذلك، كما أننا نجد بعضهم أنهم عندما يتواجدون في تلك المجالس، وبمجرد أن يبدأ المجلس بالدعاء، يعمدون إلى الانسحاب، والخروج منها، وهكذا.

كما أن كثيرين عندما يقدمون على الصلاة لا يعيشون حالة حضور القلب، ولا التوجه، فضلاً عن الخضوع والخشوع.
مضافاً إلى فقدان التوفيق لأداء صلاة النوافل، أو قيام صلاة الليل، أو قراءة القرآن، أو ما شابه، فإن جميع هذه المصاديق وغيرها كثير من صغريات وهن العبادة. وقد أشير إلى بعض هذه المصاديق في النصوص، فعن أبي عبد الله(ع) قال: إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وإن العمل السيء في صاحبه أسرع من السكين في اللحم[9].

وأما قسوة القلب، فإنه ليس محتاجاً لبيان وايضاح، نعم ما قد يستدعي البيان هي صور قسوة القلب، وأسباب حصوله، لأن هناك أسباباً توجب حصول هذا المرض، إلا أننا لسنا بصدد ذلك.

والحاصل، إن المقطع المذكور، وغيره من الأدلة الشرعية يفيد وجود هذين النوعين من العقوبة، وأن العقوبة التكوينية لا تنحصر في خصوص العقوبة المادية، وهذا أمر مهم يغفل عنه الكثيرون. لأن الكثير من الناس، يعتقد أن ما يصدر منه، يصدر عن إرادة خاصة منه هو، ولا يلتفت إلى أن ذلك نحواً من أنحاء العقوبة، فذلك الشخص الذي يحضر وقت الجماعة وينسحب أصدقائه من حوله متوجهين للمسجد لأداء صلاة الجماعة، ويبقى هو مكانه، أو يتوجه إلى منزله للصلاة فرادى، يعتقد أن ما اقدم عليه حرية واختيار، ولا يلتفت إلى أن هذا من أنحاء العقوبة التي عاقبه الله تعالى بها، عندما سلبه هذا التوفيق، وحرمه من هذه النعمة جراء ما فعل، ومثل ذلك من يترك مجلس الدعاء، ولا يحضره للاستماع إليه، وهكذا.
ثم إنه بعد التسليم بثبوت هذا النوع من العقوبة، أعني العقوبة المعنوية الروحية، فلنشر إلى بعض مصاديقها، فإن ذلك يوجب الحذر منها، والالتفات إليها:

منها: سلب الاطمئنان والاستقرار:
وقد تستفاد هذه العقوبة من خلال المقابلة بين آيتين، وهما قوله تعالى:- (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)[10]، فقد تضمنت حصر طريق اطمئنان القلب في خصوص ذكر الله تعالى، من دون تحديد لنوع الذكر، وأنه ذكر لفظي، أو غيره، وقوله تعالى:- (فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)[11]، فإن مقتضى مقابلتها بالآية السابقة يعطي أن حياته سوف تكون في كدر وعدم استقرار وارتياح، فيعيش حالة من الهم والحزن والقلق والاضطراب، وهكذا. فيسلب منه الاطمئنان والاستقرار.

وبالجملة، إن وجود حالة الخوف والقلق عند الإنسان، وفقدانه للاستقرار والاطمئنان نوع من أنواع العقوبات الروحية المعنوية التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها العباد.

ومنها: تأخير الإجابة:

من المعلوم أن كل من يتوجه لله سبحانه وتعالى بالدعاء، فإنه يرجو أن تجاب دعوته، إلا أن الملاحظ أن كثيراً من الداعين يدعون، ولكن لا تستجاب دعوتهم، وحاشى أن يكون الباري سبحانه وتعالى قد نقض وعده، ورجع في كلامه، وهو الذي قد وعد الإجابة لكل من دعاه، فما هو السبب في عدم الإجابة إذاً؟

إن سبب عدم الإجابة لا يخلو عن أمرين، إما أن يكون امتحاناً منه سبحانه وتعالى لعباده، فيؤخر الإجابة عنهم لأنه يرى أن مصلحتهم في ذلك، ولهذا يشير الدعاء المعروف: ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي. وإما أن يكون عقوبة وحرماناً، لأنهم لا يستحقون الإجابة، ولعل كثيراً من الداعين يندرجون في هذا القسم، فيكون تأخير الإجابة بالنسبة إليهم عقوبة، وليس امتحاناً وابتلاء، قال أبو جعفر(ع): إن العبد يسأل الله الحاجة فيكون من شأنه قضاؤها إلى أجل قريب أو إلى وقت بطئ، فيذنب العبد فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا تقض حاجته واحرمه اياها، فإنه تعرض لسخطي واستوجب الحرمان مني[12].

ومنها: سيطرة الشيطان على الإنسان:

كلنا نعلم مقدار ما يكنه الشيطان من حقد للإنسان، وأنه قد جند نفسه رغبة في إغوائه، وحرفه عن الطريق المستقيم ليكون مصيره نفس مصيره في النار، وقد حذرنا الله تعالى منه، وأمرنا أن نجتنبه، إلا أن الإنسان قد يعاقب نتيجة جرمه وفعله بأن يجعل للشيطان عليه سبيل، بل يكون تحت سيطرته وإرادته، قال تعالى:- (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا)[13].

ومنها: تسبب الخوف من الظلمة والجائرين، فعن أبي عبد الله(ع) قال: إن أحدكم ليكثر به الخوف من السلطان، وما ذلك إلا بالذنوب، فتوقوها ما استطعتم، ولا تمادوا فيها[14].

[1] سورة آل عمران الآية رقم 30.
[2] سورة آل عمران الآية رقم 137.
[3] سورة محمد الآية رقم 10.
[4] سورة النمل الآية رقم 52.
[5] سورة طه الآية رقم 124.
[6] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب حد الزنا، ح 3.
[7] مجلة المنهاج العدد 24 ص 76-100.
[8] تحف العقول ص 296.
[9] الكافي ج 2 ص 272.
[10] سورة الرعد الآية رقم 28.
[11] سورة طه الآية رقم 123.
[12] الكافي ج 2 ص 272.
[13] سورة آل عمران الآية رقم 155.
[14] المصدر السابق ص 275.