28 مارس,2024

المرجعية ريادة وقيادة

اطبع المقالة اطبع المقالة

المرجعية منصب له قدسية خاصة عند المكلفين، فهو يأتي بعد منصبي النبوة والإمامة من حيث الاحترام، يملك المتصدي لهذا المنصب مكانة خاصة واحتراماً جماً عندهم، وهم ينطلقون في تقديسهم للمنصب وصاحبه من رؤية شرعية اكتسبها المرجع من النصوص التي أرجعت لهذا العنوان، كالتوقيع الصادر من الناحية المقدسة: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله.

ومع ما لهذا المنصب وصاحبه من قدسية ومكانة محترمة، تبقى بعض التساؤلات التي تثار حولهما، فمما يثار دائماً، السؤال عن عملها، وكيفية قيامها بذلك، فيقال: ماذا تعمل المرجعية، وكيف تعمل؟

وقد تضمن السؤالان الذين ذكرنا، البحث عن بيان الوظيفة التي تقوم بها المرجعية من خلال السؤال عن عملها، والبحث عن الجانب التنظيمي لها في عملية الإدارة والعمل.

ومن الواضح عدم انحصار التساؤلات في خصوص هذين السؤالين، بل هناك أسئلة أخرى تكرر دائماً، وتعرض، إلا أنه ليس البناء على استقراء جميع ما يطرح في هذا الجانب، وإنما الإشارة إلى بعضها، ومنه يتضح الجواب عن الكثير مما يطرح.

حقيقة المرجعية:

ولا يذهب عليك، أنه يلزم قبل العمد للحديث حول الوظيفة والبعد التنظيمي للمرجعية، من تحديد المقصود من هذا الكيان ببيان حقيقته وتوضيح مفهومه، فإن ذلك يعين كثيراً على معرفة الوظائف والأعمال التي يقوم بها المتولي لهذا المنصب، ما يساعد على تحديد المهام التي تناط به، بحيث لا يطلب منه ما لا يكون من صميم عمله.

إن الرجوع للأدلة الشرعية اللفظية، سواء الآيات الشريفة، أم الروايات المباركة، يفيد خلوها جميعاً عن التعرض لهذا المفهوم بهيئته التركيبية، أو أحد مشتقاته، نعم قد ورد ذلك في خصوص رواية جاءت في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري(ع)، قال: من كان من الفقهاء صائناً لندينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه.

فإن التعبير بالتقليد، يفيد أن هناك شخصاً يرجع إليه، ويتبع في قوله وما يصدر عنه، بأي معنى فسر التقليد به.

نعم ضعف الرواية المذكورة سنداً لعدم إحراز نسبة التفسير المذكور للإمام(ع) يمنع من الاستناد إليها، وبالتالي سوف تخلو الأدلة الشرعية اللفظية من التعرض لهذا المفهوم، وبيان حقيقته، وعليه، سوف يكون تحديده وبيان المقصود منه ناشئاً من المناشئ العقلائية، كبقية المفاهيم التي أمضاها الشارع المقدس.

وبناءً على هذا، سوف يلتـزم في تحديد المقصود من المرجعية الدينية، وبيان مفهومها، من خلال الرجوع لما تبانى عليه العقلاء في عرضهم للمرجعيات في كافة المجالات الأخرى.
وهذا يعني وجود مرجعية في كل مجال من المجالات وفي كل مجتمع من المجتمعات، فهناك مرجعية سياسية، تعنى بالتنظيم السياسي، كما أن هناك مرجعية صحية، وظيفتها العناية بالشؤون الصحية والطبية، ومرجعية تعليمية، تقوم بالاهتمام بالبعد المعرفي والتعليمي، وهكذا، فلابد إذاً أن تكون هناك مرجعية دينية، وقد تتداخل المرجعيات، بحيث يمكن أن تقوم مرجعية واحدة بمجموعة من الأدوار، فيكن أن تكون المرجعية الدينية، مرجعية سياسية أيضاً، وهكذا.

الناحية التنظيمية للمرجعية:

ووفقاً لما تقدم، يمكن أن تعرّف المرجعية من الناحية التنظيمية بأنها: تكوين طبيعي في كل مجتمع تختص بالبعد الديني، فإن كل مجتمع من المجتمعات يحتاج مرجعية تتصدى لإدارة شؤونه وتدبير أموره في كافة المجالات، مثل تنظيم الدولة، وتنظيم السلطة القائدة للمجتمع، والسلطة المدبرة لأمره بالسياسة، والاقتصاد والاجتماع[1].

والحاصل، لا تخرج المرجعية بعد خلو الأدلة اللفظية الشرعية عن الإشارة إلى حقيقتها عما ذكر، من أنها أحد المفاهيم العقلائية التي يتبانى على وجود الحاجة إليها في الوسط الاجتماعي، وأنه لابد من توفرها بالمعنى الذي ذكر.

وقد تصيّد الفقهاء(رض) هذا المعنى للمرجعية من روح الفقه وجوهره والذوق الفقهي، فقد قرروا أنه لا يمكن أن يكون الشيعي من دون مرجع، بل لابد من وجود جهة متصدية لإدارة الأمور، فكانت المرجعية، فوضع هذا العنوان، وأعترف به عبر التاريخ، حتى تحول إلى مفهوم مسلّم به عند الشيعة، ولعل أول من طبق ذلك هو الشهيد الأول(ره)[2].

مرجعية الدين ومرجعية الشريعة:

ثم إنه قد يدعى وجود تفكيك بين مفهومين، ما يوجب التغاير بينهما، فيقرر أن هناك مرجعية في الدين، كما أن هناك مرجعية في الشريعة، وليس المفهوم-أعني مفهوم المرجعية-شاملاً لكليهما ليكونا في شخص واحد، بل يلزم وجود شخصين يتصديان لذلك، نعم لا يمنع أن يتوفرا في شخص واحد، إلا أن ذلك من الندرة بمكان، بحيث يجعله قريباً من الفرض غير الموجود خارجاً.

والداعي للقول بالتفكيك، والمغايرة يعود لأن مرجعية الشريعة أضيق دائرة من مرجعية الدين، ومرجعية الدين أكبر وأوسع من مرجعية الشريعة، ومنشأ هذه السعة والضيق في المفهومين هو الوظائف المناط بكليهما، فإن وظائف مرجع الشريعة أقل من وظائف مرجع الدين، توضيح ذلك:

إن دور مرجع الشريعة ينحصر في خصوص بيان الأحكام الشرعية، بعد استنباطها من مداركها المقررة، فيقتصر دوره على بيان الحكم الشرعي ولا يتجاوز ذلك، فلا يكون ملزماً بالإحاطة بالمفاهيم الفكرية، ولا يلزم أن يكون مطلعاً على الأمور الاجتماعية، وليس لازماً أن تتوفر لديه دراية بالشؤون الاقتصادية، والسياسية، وما شابه ذلك، لأن جميع ما ذكر لا يدخل في صميم مسؤولياته، ولا يعتبر ضمن اهتماماته، لأن المفروض حصر ما يطلب منه كما عرفت في خصوص بيان الحكم الشرعي وما يكون مرتبطاً به.

وهذا بخلاف مرجع الدين، فإن دائرة اهتماماته، أكبر مما ذكر، فلا تنحصر الوظيفة المناطة به في خصوص بيان الحكم الشرعي بعد استنباطه من مداركه المقررة، بل تتعدى لتشمل الإحاطة بكافة الجوانب الحياتية في كافة مجالاته، فيحتاج أن يحيط بالبعد الاقتصادي، كإحاطته بالبعد الديني، ويلزم أن يكون محيطاً بالنواحي السياسية، كما يلزم أن يملك رؤية في القضايا الفكرية والعقدية، والثقافية، ويحتاج إلى امتلاك رؤية في الشؤون الإدارية، وغير ذلك مما يكون دخيلاً في الوقاع الحياتي.

وبعبارة موجزة، إن الفرق بينهما هو الفرق بين الشمولية والجزئية، ذلك أن مرجع الدين يعيش الشمولية المطلقة في كافة نواحيها، دون مرجع الشريعة، فإنه يكون مرتبطاً بجنبة جزئية.

والإنصاف، أن جميع من أوجد تفريقاً بين المفهومين، تحرك من زاوية ضيقة جداً في رؤيته لمنصب المرجعية، لأن نظرة بسيطة معمقة لحدود هذا المفهوم، وما يناط به من مسؤوليات كفيلة في بيان عدم الفرق بينهما، وأنهما يؤولان إلى شيء واحد، نعم ما لا ينكر أن هناك حدوداً يُختلفُ فيها من حيث التطبيق، إلا أن ذلك لا يعني فقدان أحدهما لما يكون موجوداً عند الآخر ولو بنحو الجملة، فلا يتصور أن ينحصر دور الفقيه في خصوص بيان الأحكام الشرعية، دون أن يكون محيطاً بما يدور حوله من شؤون، أو يطلع على ما يجري في محيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه، وكونه لا يبرز رأياً، أو لا يبدي قراراً في موضوع ما، لا يعني بالضرورة فقدانه الأهلية والقدرة على الإحاطة بذلك وتقرير المصير فيه، ولعل الشواهد الخارجية مساعدة على ما نقول[3]، لأن الظروف الموضوعية التي تحيط قد تمنع غالباً من التصدي، والعرض، إلا أنه متى توفرت أوجب ذلك إبراز العديد من الرؤى والأفكار.

وبالجملة، لقد أراد المتبنون للتفريق بين المفهومين اضعاف منصب المرجعية، ومحاولة تشويهه، ببيان ضيق أفقها وعدم سعته وشموليته، بحصره في بعض الجوانب دون الأخرى، مع أن الصحيح خلاف ذلك.

المرجع الديني الأعلى:

ولما كان منصب المرجعية عند الشيعة لا ينحصر في فرد واحد، بل يتعدد المتصدون للمنصب، لأن المعيار توفر مجموعة من الشرائط، فيسوغ لكل من توفرت فيه التصدي للقيام بمهام المرجعية، أستدعى ذلك أن يعطى وصف لشخصية من تلك الشخصيات المتصدية لهذا المنصب، يكون موجباً لتميزها على البقية من خلال ذلك الوصف، ولهذا عرف التعبير عن ذلك بمنصب: المرجع الديني الأعلى للطائفة.

ويستفاد من بعض الكلمات، أن هذا التعبير استحدث في عصر السيد الحكيم(قده)، عندما تبانى مجموعة من فضلاء الحوزة العلمية في النجف على إطلاق هذا المسمى عليه(ره)، وقد كان لذلك مجموعة من الظروف، لسنا بصدد ذكرها.

وهذا ينسجم كثيراً مع الغاية التي يسعى من أجلها إطلاق هذا المسمى على الشخص ووسمه به، لأن الغاية تكمن في أن يكون ممثلاً للطائفة، وإليه يرجع في تحديد الشؤون الهامة والمرتبطة بالمذهب، خصوصاً وأن هناك مجموعة من القرارات المصيرية التي يلزم البت فيها تكون مرتبطة بالطائفة والمذهب، فلابد وألا يكون ذلك أمراً مسوغاً لكل أحد، وإنما يكون منحصراً في جهة محددة، تكون مسؤولة عن ذلك.

والحاصل، إن لهذا التوصيف المذكور مسؤولية عظمى ودوراً أساسياً يوجب العناية به.

وظيفة المرجعية:

من الأمور ذات الأهمية القصوى في الوسط الديني، والتي تثار حولها الكثير من التساؤلات تحديد دور المرجعية سعة وضيقاً، من خلال بيان الحدود التي يكون نطاق دور المرجع فيها، وما لا يكون داخلاً في دائرة نطاقه، توضيح ذلك:

هل ينحصر دور المرجعية الدينية في خصوص الفتيا والقضاء، فليس للمرجع أن يتدخل في الشؤون العامة للناس من موقع الشرعية الملزمة، بل يقتصر دوره على الفقه والقضاء؟ أو أن دوره لا ينحصر في خصوص ما ذكر، لأن مقتضى المرجعية العامة التي تجعل منه مفتياً، وقاضياً، وحاكماً عاماً للناس، فينفذ حكمه في الأحكام والخصومات، يستوجب سعة دوره، وتعدد مسؤولياته؟

إن الإجابة على ذلك تعتمد على معرفة الإتجاهات الفقهية الموجودة لدى الأعلام في المقام، وعند الرجوع لكلماتهم، نجد أن في البين نظريات ثلاث، وسيجد القارئ أنها تتفق مع بعضها البعض في الجملة، فجميعها تلتزم بثبوت أمور للفقيه بمقتضى نيابته عن الإمام المعصوم(ع)، وإنما الاختلاف الحاصل بينها في حدود سعة هذه النيابة الثابتة للفقيه عن المعصوم(ع)، من حيث السعة والضيق، كما سيتضح، وكيف ما كان، فالنظريات هي:
الأولى: إن مقتضى نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم(ع)، يستدعي أن يثبت إليه جميع ما يكون ثابتاً للإمام المعصوم(ع)، إلا ما خرج بالدليل الخاص، كثبوت حق التشريع للأئمة الأطهار(ع)-على القول به-فيملك الفقيه جميع السلطات التي ثبتت للإمام(ع)، فله حق الإفتاء في القضايا الشرعية، وله حق القضاء وفصل الخصومات وحل المنازعات بين المتخاصمين، وله حق الولاية على الناس، فيلزمهم العمل على وفق أحكامه الصادرة في شؤونهم العامة والخاصة مما يكون في دائرة النظام الخاضع للسلطة الحاكمة المتصدية لإدارة شأن البلاد.

الثانية: إن ثبوت النيابة العامة للفقيه عن الإمام المعصوم(ع)، لا تستوجب أن يثبت له جميع ما يكون ثابتاً للإمام(ع)، بل هناك بعض الأمور التي يختص بها الإمام المعصوم(ع)، ويثبت للفقيه أمور أخرى غيرها.

ومع أن هذه النظرية تتفق مع النظرية الأولى في ثبوت سلطة للفقيه الجامع للشرائط بمقتضى نيابته عن الإمام المعصوم(ع)، إلا أنها تختلف عنها في الأمور التي تختص به(ع)، فلا تثبت للفقيه على أساس اختصاصها بالإمام(ع)، ولا تكون ثابتة لغيره.

وعلى أي حال، فيثبت للفقيه، سلطة الإفتاء وبيان الأحكام الشرعية المستنبطة من مداركها المقررة، وله حق القضاء وفصل الخصومات وحل المنازعات بين المتخاصمين، كما يملك الولاية على الناس بإصدار الأحكام الولائية، إلا أن دائرة ولايته تختص بالموضوعات التي تحتاج الأمة في إثباتها إلى حكم الحاكم الشرعي، كثبوت الهلال مثلاً وما شابه ذلك.

ومجرد اختصاص دائرة ولايته وحكمه على الأمة ببعض الموضوعات لا يعني فقدانه السلطة، ولزوم المتابعة، بل كما أن الفقيه في النظرية الأولى ولايته وحكمه نافذ على جميع المكلفين في كل ما يصدر عنه من أحكام ولائية، من دون فرق بين المجتهدين وغيرهم، كذلك ما يصدر من الفقيه وفقاً للنظرية الثانية يكون نافذاً على الجميع من دون استثناء.

الثالثة: البناء على انحصار سلطة الفقيه وولايته في نيابته عن المعصوم(ع) في خصوص بابي الفتيا وبيان الأحكام الشرعية، والقضاء وحل المنازعات والخصومات، فليس له أية ولاية على الناس في اصدار الأحكام الولائية، من دون فرق بين ما يكون مورد حاجة للأمة، أو ما يكون داخلاً في دائرة إدارة الشأن العام للأمة وحفظ النظام. فلا يجب اطاعته لو أصدر حكماً في موضوع من الموضوعات كثبوت الهلال مثلاً.

وبالجملة، تحصر النظرية الثالثة دور المرجعية في خصوص الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية، وليس لها ولاية أوسع من ذلك، ولا يحق لها التدخل.
ومن الواضح أن الإحاطة بالنظريات الثلاث يعين كثيراً في معالجة ما يدور في الأذهان عادة من مطالبة المرجعية بموقف ما، أو مطالبتها باتخاذ عمل ما حيال قضية معينة، وهكذا، إذ وفقاً لما تقدم، سوف يختلف الحال، لأنه لو كان الفقيه يتبنى النظرية الثالثة، فإنه لا يرى مشروعية له في التصدي واتخاذ أي مواقف من المواقف حيال أي قضية من القضايا، نعم يمكنه أن يكون مشيراً وموجهاً ناصحاً، وبكلمة، إن مقتضى النظرية الثالثة، عدم وجود شرعية تخول الفقيه أن يلزم الآخرين بالعمل على وفق مرئياته ومتبنياته، بل إن أقصى ما يمكنه القيام به هو النصح والإرشاد والتوجيه، وهذا بخلافه لو كان المتبنى من قبله النظرية الأولى، فإنه يمكنه الإلزام، وعلى الجميع كما عرفت الالتزام بما يصدر عنه، وبين النظريتين تأتي النظرية الثانية، فإنها أضيق من الأولى، وأوسع من الثالثة..

على أن هناك نظرية رابعة-إن صح التعبير-وهي أوسع دائرة من النظرية الثانية، لكنها أضيق دائرة من النظرية الأولى، بل يمكن القول أنها تحديد في الجملة للنظرية الأولى، والبناء عليها بصورة إجمالية، فإنها تقرر ثبوت الولاية المطلقة، لكنها ليست بعنوانها الواسع، بل في خصوص ما يكون موجباً لحفظ الأنظمة والقوانين، مراعاة المصالح العامة، وهذا ما يتبناه اليوم أغلب فقهائنا المعاصرين(أطال الله في أعمارهم).

وبالجملة، يتضح مما تقدم أنه ليس لأي أحد القيام بعملية النقد لمنصب المرجعية، والتهكم من أدوارها العملية، فإن كل ما يصدر من المرجع يكون وفقاً للميزان الشرعي، وبناءً على ما هو ثابت عنده وفقاً لما ما دل عليه الدليل، فلاحظ.

الارتباط بالمرجعية:

ولا يقل موضوع العلاقة بالمرجعية والارتباط بها عن موضوع وظيفة المرجعية وتحديد دائرة فاعليتها في الوسط الإسلامي، خصوصاً مع وجود سطحية في الرؤية تقوم على حصر العلاقة بالمرجعية في خصوص الارتباط الديني المتمثل في تحصيل الفتاوى الشرعية، وعدم وجود أي رابطة أخرى معها، ولهذا نجد تكرر الأسئلة التالية: ما هي حدود العلاقة بيننا وبين المرجعية؟ وهل تنحصر العلاقة معها في حدود الأحكام الشرعية، أم أن العلاقة معها أبعد من ذلك؟

لا ريب أن هناك مجموعة من الوظائف والمهام التي تناط بمنصب المرجعية، تقوم بأدائها، ويمكن حصر تلك الوظائف إجمالاً في أمور:

منها: إعطاء الفتاوى والأحكام الشرعية، وبيان الموقف العملي في كل قضية قضية، بإيضاح حكم الله تعالى فيها.

ومنها: بيان المفاهيم الإسلامية وإعطاء معاني محددة لها ينسجم وخط الشريعة التي جاء بها النبي الأكرم محمد(ص)، وبيان ما هو الحق منها وما هو الباطل، مثلاً أطروحة تجديد الدين التي ينادى بها اليوم من قبل الحداثيـين، وتحديد المقصود منها، ومدى مطابقتها لأطروحة الشريعة الإسلامية، وهل يمكن القبول بهذا المفهوم أو لا.

أو نظرية القبض والبسط الموجودة في بعض الكلمات، وكيف يمكن تحديد مدى شرعية هذا المفهوم، وإمكانية قبوله من عدمه، وغير ذلك.
ومنها: دور التبليغ، وتعتبر هذه الوظيفة من أهم الوظائف التي يلقى عبئها على عاتق المرجعية في حركتها، لأنها تمثل الجسر الرابط بين المرجع والأمة. فالمرجع داع، والمرجعية تنذر قومها بموقع الفعل والانفعال، قال تعالى:- (لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم)، ويساعد على هذا المعنى جميع الآيات الشريفة التي تحدثت عن إحدى وظائف النبي الأكرم محمد(ص) والمتمثلة في التبليغ والإنذار، مثل قوله تعالى:- (إنما أنت منذر).

ومنها: القيادة، ويقصد بها التصدي لأمور الناس وشؤونهم، وما يلازم ذلك من تبعات، وتعتبر هذه الوظيفة امتداداً لوظيفة النبي الأكرم محمد(ص) والأمة الأطهار(ع) من بعده، فقد قاموا بأعباء هذا الدور. فالمرجع مسؤول عن قيادة المجتمع[4]، والأخذ بزمام الأمور بالنسبة إليه[5].

وللسيد الشهيد الصدر(قده) كلام جميل جداً حول وظيفة المرجعية والدور الذي يناط بالمرجع، فذكر أموراً:

منها: يتولى المرجع القيام بعملية الحفاظ على كيان الشريعة السمحاء وحمايتها من كل شبهة وانحراف، ودفع كل تشكيك يطرح عليها من قبل المشككين والمنحرفين الذين يتربصون بالشريعة والإسلام السوء.

ومنها: حصر التبعية في بيان أحكام الإسلام وتعاليمه في خصوص المرجعية، فيكون المرجع هو المتصدي لبيان ذلك، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية الإسلامية، ونقصد بجعل اجتهاده المقاس الموضوعي للأمة، بجعل المعيار لاجتهاده في خصوص المجالات ذات الطابع الإسلامي، لا أن اجتهاده يطال العناصر الثابتة من التشريع في الإسلام، فيقتصر ذلك على خصوص العناصر المتحركة الزمنية أيضاً باعتباره الممثل الأعلى للأيدلوجية الإسلامية.

ومنها: قيامه بدور الرقابة والإشراف على الأمة، ويلازم هذا الإشراف تدخله في القضايا متى استدعى الأمر ذلك من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، أو دفع بعض الإنحرافات التي تبث في الوسط الإسلامي[6].

وقد جعل السد الشهيد(ره) تعيـين مرجع التقليد ذا بعد إلهي، وأن ذلك يكون من قبل الله تعالى، اعتماداً على توفر الشروط والخصائص عنده، وبناءً على المهام والوظائف الموكل إليه القيام بها، كما أن للأمة دوراً في تعيـينه أيضاً.

وهذا يعني أن وجود أي شخصية من شخصيات المرجعية، وانطلاقاً من المهام الموكلة إليها، وما تقوم به من دور في الوسط الاجتماعي الإسلامي، فيه بعدان، بعد سماوي، وبعد أرضي بشري، الأول، يتمثل في تعـيـين الله تعالى له، والثاني في انتخاب الأمة إليه[7].

دور المرجعية في حياتنا:

ومع وضوح أن العلاقة التي تربطنا بالمرجعية لا تنحصر في خصوص البعد الفقهي المتمثل في تناول الأحكام الشرعية، وتحصيل الفتيا منها فقط، بل هو أوسع من ذلك، كما يساعد عليه نص غير واحد من الفقهاء العظام، رحم الله الماضيـين وأطال في عمر الباقـين، في رسائلهم العملية على سعة دائرة التبعية والتقليد للمرجعية، بجعلهم التقليد جارياً في جميع الأفعال والأقوال والتروك، ليكون شاملاً لكافة شؤون الحياة وعدم اختصاصه كما قلنا، وهذا يعني لزوم وجود المرجعية في كافة الشؤون المرتبطة بالمجتمع ودخالتها في جميع جوانبه. إلا أن السؤال الذي يطرح، هو كيف يمكن للمرجعية التدخل في جميع ذلك؟

من الطبيعي جداً أن تحتاج المرجعية حتى تؤدي هذا الدور المناط بها أن تحيط بالوقائع بكافة حقائقها وحيثياتها، وهذا يستوجب أن تنقل الأمور للمرجعية بكل صدق وأمانة وشفافية، لأنه ما لم تكن الرؤية واضحة للمرجعية، لن يتسنى لها أن تقدم تشخيصاً دقيقاً للموضوع، وسوف تقدم رؤية وأطروحة غير دقيقة، بل ربما غير واضحة، أو غير صالحة، وهذا يعني أن ما ينقل للمرجعية من أمور له أكبر الأثر في مدى فعالية دور المرجعية في حياتنا، ومدى الاستفادة منها.

وهنا تكمن الخطورة، لأن ما ينقل للمرجعية يعدّ سلاحاً له حدان، لأن البعض قد يسعى من خلاله للحط والنيل من المرجعية، سواء كان قاصداً ذلك أم لم يكن قاصداً، لأنه قد يعمد إلى نقل وجهة نظره فقط، وليس من اللازم أن تكون وجهة النظر المذكورة سليمة، أو مقبولة عند الآخرين، نعم لا يحق للآخرين التعجل في محاكمة المرجعية لمجرد صدور شيء منها، مع التوجه إلى أن ما صدر يعتمد على وفق ما قدم إليها، ولعل هذا يبرر لنا توقف المرجعية اليوم في كثير من القضايا، بسبب وجود المتسلقين وأصحاب المصالح الخاصة الذين يسعون لتحقيق أغراضهم، وتحصيل مصالحهم، من خلال الصعود على ظهر المرجعية ليعطوا أفعالهم الصادرة منهم شرعية، وهي أبعد ما تكون عن ذلك.

ويوجد على أرض الواقع مجموعة من الأمثلة لو تأمل القارئ لوقف عليها، تمت الإساءة فيها للمرجعية نتيجة نقل صورة مشوهة إليها، ما جعل المرجعية في موقف لا تحسد عليه.

ولا وجه للإشكال على المرجعية، بأنه ينبغي عليها الحذر من مثل هولاء، فإن هذا مما يتفق عليه العقلاء، إلا أنه تبقى الروح الأبوية التي تعيشها المرجعية ومعايشتها لهموم الأمة، ما يجعلها تحسن الظن في الكثير من الأفراد، وتقبل ما ينقل إليها بناءً على صدق الحديث والأمانة فيا لناقل.
وعلى أي حال، إن مقتضى مدخلية المرجعية في كافة الشؤون المرتبطة بحياتنا يستوجب السعي إلى نقل صورة صحيحة متكاملة للمرجعية في أي موضوع من الموضوعات، وهنا تكمن أمانة الأفراد، فيلزم الوقوف أمام كل شخص يعمد إلى التدليس على المرجعية، بنقل صورة مشوهة، كما يلزم الحدّ من هؤلاء الذين يتسلقون على ظهر المرجعية للوصول إلى مآربهم وتحصيل أغراضهم الشخصية.

ومع نقل الصور كاملة واضحة الجوانب والحيثيات، سوف نجد فاعلية ودوراً عملية كبيراً جداً للمرجعية في حياتنا.

ثم إن معنى دخالة المرجعية في كافة الشؤون الحياتية لنا، لا يعني تعطيل الدور الفكري والمعرفي للأفراد، بحيث يشل عقل الإنسان، ليكون جامداً فلا يكون له وجود للتأمل والنظر، ليوقف فقط على ما تقوله المرجعية، إذ ليس المقصود من مدخليتها في كل شيء، ذلك كما هو واضح، بل المقصود أن يكون كل تصرف يصدر من المكلف مغلفاً بغلاف الشرعية الذي يكون مستمداً من المرجعية، وشتان بين الأمرين، فتدبر.

حفظ الله مراجعنا وقادتنا العظام، وصانهم عن كل سوء، وحمى الله تعالى حوزاتنا، ومقدساتنا، وأبعد عنهم كل يد غاشمة وظالمة.

[1] آراء في المرجعية الشيعية، مجموعة من الباحثين محاضرة الشيخ شمس الدين ص 576، المرجعية بين الواقع والطموح ص 46.
[2] المصدر السابق.
[3] من أجلى مصاديق ما نذكر، المرجع الأعلى للطائفة سيدي المرجع الإمام السيستاني(دامت أيام بركاته).
[4] لا يخفى أن الحديث عن هذه الوظائف لابد وأن ينسجم مع ما تقدم ذكره من النظريات في وظيفة المرجعية، وأن ثبوت شيء منها لابد وأن يتوافق مع مختار الفقيه لأي نظرية من تلك النظريات.
[5] آراء حول المرجعية الشيعية مجموعة من الباحثين، المرجعية بين الواقع والطموح ص 45-55.
[6] الإسلام يقود الحياة ص 169.
[7] المصدر السابق(بتصرف).