29 مارس,2024

محمد بن الحنفية بين رؤيتين(2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

 

 

موجبات الذم:

ثم إنه ينبغي قبل استعراض موجبات الذم من عرض ميزان للتعاطي مع النصوص من حيث القبول والعدم، بحيث يعرف كيف يكون التعاطي مع النص حتى يقبل ليدخل دائرة الحجية، ويستند إليه في مقام الاحتجاج، أو أنه ترفع اليد عنه، فلا يصلح أن يكون مورداً للاحتجاج والقبول به. فيقال:

إن القبول بأي نص من النصوص رهين توفر أمرين، وهما: سلامته سنداً ومتناً، ونقصد بسلامته فيهما أنه يعمد إلى نقده من حيث السند ومن حيث المتن، فإن تم سنداً ومتناً، أمكن الاستناد إليه حال عدم وجود ما يمنع من ذلك، بانتفاء المعارض له، وإلا أوجب ذلك ملاحظة كيفية علاج المعارضة الحاصلة بينهما، إما من خلال الجمع والتوفيق، أو بترجيح أحدهما على الآخر.

وبالجملة، إنه يلزم في كل رواية خضوعها لأمرين:

الأول: نقد السند: من خلال دراسة سلسلة السند التي كانت واسطة وصولها إلينا من المصدر الأول لها، وهو المحدث بها.

الثاني: نقد متنها: وذلك بعرضها على قاعدتين:

الأولى: القاعدة الشرعية، ونقصد بها عرضها على القرآن الكريم، بأن لا تكون مخالفة للقرآن الكريم، ولا مباينة له، وإلا ضُرب بها عرض الجدار، أو أرجئت لحين لقاء الإمام(عج).

الثانية: القاعدة العقلية، ونقصد بها عرضها على مجموعة من الأمور، يلزم أن لا تكون منافية ومخالفة لها، وإلا كان ذلك مانعاً من دخولها دائرة الحجية، ومن تلك الأمور:

أن تكون الرواية منافية لما هو المعلوم والمتيقن من الدين الإسلامي، وذلك: بمنافاتها لعقيدة التوحيد، كأن تثبت التجسيم للذات المقدسة سبحانه وتعالى، أو أنها تثبت شيئاً منافياً للاعتقاد بالنبوة، كالمعصية مثلاً، أو تتضمن ما يكون منافياً لما هو المعلوم ثبوته من التشريع، هكذا.

ومنها: اشتمال الرواية على ما يكون منافياً لما هو ثابت من التاريخ بالعلم واليقين.

ومنها: أن تكون الرواية منافية للحقائق الكونية والقوانين العلمية والبديهيات العقلية وغير ذلك.

ثم إنه بعد إحراز سلامة النص بعد نقده سنداً ومتناً، يأتي دور البحث عن المعارض، لأنه حتى يصح الاستناد إليه، لابد أن لا يكون في المقام ما يمنع منه ويعارضه، والنقد السندي والمتني، يعبر عنه بتحصيل المقتضي لحجية الخبر، وفقدان المعارض، يعبر عنه بعدم المانع، وعليه لابد للاستناد لكل خبر من توفر هذين العنصرين: المقتضي، وعدم المانع.

وعليه سوف تعرض النصوص المتصور ظهورها في الذم على النقد السندي والمتني، لتحصيل المقتضي، وبعد توفره، لابد من ملاحظتها بالإضافة إلى عدم المانع.

وصفه بعدم الصلاح والفسق:

وبعد وضوح الميزان الذي يتعاطى فيه مع النصوص لكي تصلح للاستناد وإثبات المدعى، يقع الحديث في أول موجبات الذم، وهو وصفه بعدم الصلاح والفسق، ولهذا شاهدان مختلفان عن بعضهما.

رواية الحد:

الشاهد الأول، وهو ما كان في عصر أمير المؤمنين(ع)، وهو ما رواه ميثم -في حديث طويل- حاصله أن امرأة قد عملت الفاحشة في عهد أمير المؤمنين(ع) وقد جاءت مقرة على نفسها بذلك دون أن يكون لها عذر في ما أقدمت عليه، وقد كان الإمام(ع) يرجعها موجداً لها عذراً في كل مرة ما دامت لم تثبت عليها الشهادات الموجبة لإقامة الحد عليها، حتى استجمعت شهادات أربع على نفسها من خلال إقرارها، فلزم إقامة الحدّ عليها. وعندها طلب الإمام(ع) من قنبر أن يدعو الناس للصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وغصّ بهم المسجد، أخبرهم أمير المؤمنين(ع) أنه خارج بالمرأة ليقيم عليها الحد، وطلب منهم أن يخرجوا متنكرين، ومعهم أحجارهم لا يتعرف منهم أحد إلى أحد حتى ينصرفوا إلى منازلهم. ولما كان الغد خرج بها علي(ع) ووضعها في حفرة، وخرج الناس، وقبل أن يقوم برجمها نادى في الناس بأعلى صوته: يا أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى عهد إلى نبيه(ص) عهداً عهده محمد(ص) إلي بأنه لا يقيم الحد من لله عليه حد، فمن كان لله عليه حد مثل ما له عليها، فلا يقيم عليها الحد.

قال: فانصرف الناس يومئذٍ كلهم ما خلا أمير المؤمنين(ع) والحسن والحسين(ع)، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذٍ، وما معهم غيرهم[1].

وتقريب دلالتها على المدعى من خلال قوله(ع) فمن كان لله عليه حد مثل ما له عليها فلا يقيم عليها الحد، فإن التعبير المذكور، وإن وجد فيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون المقصود مطلق الحد، وليس خصوص حد الزنا، فتكون جهة المشابهة في ثبوت حد عليه، وتعلقه بذمته.

ثانيهما: أن يكون المقصود بذلك خصوص حدّ الزنا.

وعلى كلا المحتملين، فإن رجوع محمد بن الحنفية في من رجع، كاشف عن أنه ممن لله تعالى عليه حد، وهذا ما دعاه للرجوع، وهذا ينفي عنه الصلاح ويثبت له خلاف ذلك.

ومصدر الرواية المذكورة كتابان:

1-الكافي لشيخنا الكليني(ره)، وهو هو من حيث الاعتبار والمقبولية.

2-التهذيب لشيخ الطائفة الطوسي[2].

ولا يبعد أن يكون مصدرهما واحداً، وهو كتاب الحسن بن محبوب.

إلا أن الحادثة المذكورة رويت في مصادر أخرى غيرهما، قبلهما وبعد الكافي، فقد وردت الرواية المذكورة في كتاب المحاسن للشيخ البرقي(ره)[3]، وهو سابق زماناً على الشيخ الكليني(قده)، كما أنها رويت في كتاب من لا يحضره الفقيه لشيخنا الصدوق(قده)[4]، وهو متأخر زماناً عنه.

وقد اختلفت المصادر التي نقلت الرواية في نقلها إياها، فقد اختلف ما جاء في كتابي المحاسن والفقيه، عما جاء في كتابي الكافي والتهذيب، إذ لم يرد الذيل الذي هو موضع الاستدلال والشاهد على المدعى فيهما. مع أن الرواية في الجميع واحدة، فإن الحادثة التي جاء ذكرها في الكافي والتهذيب، هي عينها الحادثة التي ذكرت في كتابي المحاسن والفقيه، وهذا يعني أن مصدر الجميع واحد.

ويوجد احتمالان في شأن هذا الخلاف بين المصادر:

الأول: أن يكون منشأ الاختلاف الحاصل في الرواية ناشئاً من اختلاف المصدر الذي قد نقل عنه، بوجود نسخ متعددة منه، بحيث أن نسخته التي كانت عند الشيخ البرقي(ره)، تختلف عن النسخة التي كانت منه عند الشيخ الكليني والشيخ الطوسي(ره)، وهكذا.

الثاني: أن لا يكون منشأ الاختلاف نسخ المصدر المنقول عنه، وإنما نشأ الاختلاف في المصادر المتأخرة عنه، بمعنى أن الاختلاف واقع في المحاسن والفقيه من جهة والكافي والتهذيب من جهة أخرى، فيكون المورد من صغريات الدوران بين أصالة عدم الغفلة في جانب الزيادة، وأصالة عدم الغفلة في جانب النقيصة. وعندها، هل يتمسك بجريان أصالة عدم الزيادة فيرجح الكافي والتهذيب، أو يبنى على عدم النقيصة ليكون الترجيح لكتابي المحاسن والفقيه.

فإن بني على الاحتمال الأول، فإن القاعدة تقضي في هكذا موارد بالاقتصار على القدر التيقن، وهذا يعني رفع اليد عن الذيل الوارد في كتابي الكافي والتهذيب، للشك في حصوله وصدوره.

وأما لو بني على الاحتمال الثاني، فقد يدعى أنه في مثل هكذا مواقف عند الدوران بين الأصالتين المذكورتين، يعمد العقلاء إلى عدم ترجيح أحد الأصلين على الآخر، والحكم بالتساقط وعدم ترجيح أحد الأصلين على الآخر.

وما ذكر وجيه، لو سلم بوجود هكذا أصلين عند العقلاء، وإلا فإنه يلزم للناظر في النصوص أن يعمل صناعته، فيقوم بترجيح أحد الأمرين على الآخر، وإلا حكم برفع اليد.

لا يقال: إنه في مورد المعارضة بين المصادر الحديثية يكون الترجيح لكتاب الكافي، وذلك لما له من مكانة متميزة عند الأعلام، وما عرف عن مؤلفه(ره) من الدقة وحسن الضبط، وللشيخ النجاشي(ره) فيه كلمة مشهورة، قال(قده): شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم، صنف الكتاب الكبير المعروف الذي يسمى الكافي في عشرين سنة[5].

فإنه يقال: لا إشكال ولا ريب في أن المتتبع لكتب الحديث يقف على ما لكتاب الكافي من مكانة مرموقة ومميزة عند الأعلام، إلا أن التدقيق يفيد أن ذلك له في الجملة، لا بالجملة، بمعنى أن هناك موارد قد تميزت فيها المصادر الحديثية الأخرى عليه ككتاب من لا يحضره الفقيه أو التهذيبين مثلاً، أو غيرهم من المصادر الحديثية، ولهذا لا يمكن أن يبنى على قاعدة كلية تفيد تقديم كتاب الكافي مطلقاً، بل يلزم في كل مورد مورد من التدقيق والنظر، كي ما يقرر أي المصادر الحديثية حين المعارضة والاختلاف يعمد إلى تقديمه.

واحتمال تعدد الواقعة، ليقال بأن المذكور في الكافي، واقعة أخرى عن المذكور في المحاسن والفقيه، بعيد، لاشتراك المصادر الثلاثة في نفس التفاصيل والمعطيات.

وقد تحصل مما تقدم، أنه لا مجال للاستدلال بالنص المذكور لما عرفت من وجود الاختلاف في صدور الذيل الذي يعد دليلاً لإثبات المدعى.

على أن مثل هكذا اختلاف يوجب عادة اضطراباً في المتن، وهذا الاضطراب يعدّ من الشواهد السلبية المانعة من الوثوق بالصدور، وبالتالي ترفع اليد عنه.

ومع ذلك، فلنعمد لدراسة الرواية محل البحث من حيث المقتضي، وعدم المانع:

أما المقتضي، فقد عرفت أن البحث ضمن جهتين:

الأولى: نقد السند                      الثانية: نقد المتن

أما الجهة الأولى: وهي نقد السند، فيلاحظ أن سند الرواية محل البحث يعاني مشاكل عديدة:

أحدها: وجود علي بن أبي حمزة البطائني، وهو أحد رؤوس الوقف والواقفة، الذين وقفوا على إمامة الإمام موسى بن جعفر، وامتنعوا عن القول بإمامة الإمام الرضا(ع)، مدعين عدم موت الإمام موسى(ع)، وأنه القائم الذي يظهر في آخر الزمان، وأنه قد غاب وسوف يعود.

وقد وقع الخلاف بين الرجاليـين في قبول مروايته، على أقوال، فبنى بعضهم على وثاقته، وأختار آخرون ضعفه، وألتـزم ثالث بالتفصيل بقبول رواياته قبل الوقف، وعدم قبولها بعده.

وبالجملة، إنه يلزم للقبول بمثل هذا الخبر أن يبنى على كونه ثقة حتى يصح الاستناد إلى مروياته، وأما مع البناء على تضعيفه، أو لا أقل التوقف فيه، فإن ذلك يمنع من القبول بأخباره.

ثانيها: التردد في الراوي، وهل هو عمران بن ميثم، أو أنه صالح بن ميثم، فهنا احتمالان:

الأول: أن يكون الواقع في السند، هو عمران بن ميثم، وهذا لم يرد في حقه توثيق، فقد ذكره الشيخ(ره) في رجاله، واقتصر على عدّه ضمن أصحاب الإمام زين العابدين(ع)، من دون بيان لشرح حاله من حيث الوثاقة وعدمه، فهو مهمل. نعم قد يبنى على وثاقته اعتماداً على اتحاده مع عمران بن ميثم الأسدي، الذي نص النجاشي على وثاقته، فيلزم القول باتحادهما، كما أختار ذلك بعض الأعاظم(ره)[6].

والاحتمال المذكور متصور جداً خصوصاً بعد وجود الشواهد المساعدة عليه، وعدم وجود ما يوجب التعدد.

الثاني: أن يلتـزم أن الواقع في السند هو صالح بن ميثم، وهذا وإن لم ينص على وثاقته في كلمات أهل الرجال، إلا أنه قد يعمد إلى توثيقه استناداً إلى بعض التوثيقات العامة، مثل وقوعه في أسناد كامل الزيارات، ووقوعه في أسناد تفسير علي بن إبراهيم القمي، كما قد يستند إلى توثيقه لما ورد في حقه عن الإمام الباقر(ع) أنه قال له: إني أحبك وأحب أباك حباً شديداً.

وهذا كله بعد البناء على أن صالح بن ميثم الأسدي، هو نفسه صالح بن ميثم التمار، لا أنه شخص آخر، لأن التوثيق الوارد ناظر إلى الأسدي، وليس مصرحاً فيه بابن ميثم التمار.

والذي يظهر من بعض الأعاظم(ره)، البناء على عدم التعدد، وأن من ورد في حقه التوثيقات السابقة، وذكر في كلمات الرجاليـين هو ابن ميثم التمار[7]. وهو محتمل جداً لو لم يكن متعيناً بقرينة المروي عنه، فإن الظاهر أنه ميثم التمار. نعم لو قيل أن الواقع شخص آخر غير ميثم التمار، فسوف يستبعد الاحتمال المذكور.

والإنصاف، أنه لو لم يكن الواقع في السند هو التمار، فلا أقل من قرب احتمال ذلك.

ثالثها: الراوي المباشر للخبر، وهذا فيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون ميثم هذا هو أحد أصحاب أمير المؤمنين(ع)، بقرينة نقله للحادثة التي حصلت في عصره، فإن نقله إياها مشعر بكونه كان موجوداً فيها، ويساعد على ذلك إخباره في ذيلها برجوع الناس، المؤيد لكونه حاضراً.

ثانيهما: أن يكون شخصاً آخر غير صاحب أمير المؤمنين(ع)، ومجرد نقله للحادثة الحاصلة في عصره(ع) لا يثبت معاصرته إياها، بل هو ينقلها كما تنقل بقية الأخبار الأخر، وما جاء في ذيلها من الإخبار برجوع الناس، لا يعدّ شاهداً على كونه حاضراً فيها، بل أقصى ما يفيده هو إخباره بحصول هذا الأمر وهو رجوع الناس، وهذا كما يصدر ممن كان حاضراً يمكن نقله عن الحاضرين بواسطة.

وبالجملة، يبقى احتمال كونه شخصاً آخر ليس صاحب أمير المؤمنين(ع) محتملاً.

وقد يمنع الاحتمال الثاني، اعتماداً على خلو كلمات الرجاليـين من شخص آخر يسمى ميثماً، إذ لم تتضمن إلا ذكر شخص واحد بهذا الاسم، وهو ميثم التمار صاحب أمير المؤمنين(ع)، والذي لا ريب ولا إشكال في البناء على وثاقته فقد نص المفيد(ره) في كتابه الاختصاص على أنه من أصفياء أصحاب أمير المؤمنين(ع)، في شرطة الخميس.

والإنصاف، أن هذا لا يكفي لنفي الاحتمال المذكور، لأن أغلب كتب الرجال لم تعدّ لاستقصاء الرواة، فقد كُتب الفهرستان، فهرست الشيخ والنجاشي(ره) لاستقصاء المؤلفين من أصحابنا، وهذا يعني أن من لم يكن صاحب كتاب لم يتعرضا لذكره، فعدم وجود شخص في هذين الكتابين يعود لعدم كونه من المؤلفين، كما أن رجال الشيخ(ره) لم يخرج عن كونه مسودة كما قيل.

وبالجملة، إن الاحتمال الثاني يبقى متصوراً في البين، وعدم اشتمال كلمات الرجاليـين على ذكر شخص بهذا الاسم لا يوجب رفع اليد عنه. بل قد يساعد على القبول به ما تضمنه ذيل الخبر كما سيأتي عند بيان المتن، من أمر لا يتصور في شخص كميثم التمار، الذي قد سمعت عده من خاصة أمير المؤمنين(ع).

وكيف ما كان، فإن بني على الاحتمال الثاني، فإنه سوف يبنى على عدم حجية الخبر، لأن ميثماً المذكور مجهول الحال، أما لو بني على أن الواقع فيه هو ميثم التمار، فلن تكون هناك مشكلة من هذه الناحية، نعم تبقى المشكلتان السابقتان.

وقد تحصل من خلال العرض المذكور، عدم صلاحية الرواية المذكور من حيث السند، لما عرفت فيها من المشاكل.

إن قلت: إن التدقيق السندي المذكور، إنما يعمد إليه في غير النصوص التاريخية، أما هي فيكفي في قبولها:

1-وجودها في أحد المصادر المعتمدة.

2-معروفية مؤلف ذلك المصدر.

3-عدم اشتمالها على ما لا يليق بالمناصب المقدسة، كمنصب النبوة والإمامة مثلاً.

ولا يعتبر فيها التدقيق على حال الرواة الواقعين في سندها، وإلا لزم رفع اليد عن أكثر الأخبار التاريخية لأنها قد نقلت عمن لا يحكم بوثاقته.

قلت: إن ما ذكر من عدم لزوم التدقيق السندي بالمقدار المعتبر في الأمور العقدية والتفسيرية ونصوص الأحكام الفرعية، في القضايا التاريخية صحيح، إلا أن ذلك سوف يجعل الخبر المذكور مجرد إخبار، وليس شهادة، وسوف يأتي عند دراسة المتن، ما يترتب على ذلك من آثار، فأنتظر.

وأما الجهة الثانية: وهي نقد المتن:

فإن أول ما يمنع من قبول الخبر المذكور، اشتماله على إقرار الراوي على نفسه بالجرم والذنب، وأنه ليس عدلاً، إذ لم يتضمن استثنائه ضمن الباقين، بل ظاهر الخبر كونه من الراجعين ضمن من رجع، وهذا يعني ثبوت الحد عليه، كثبوته على غيره.

لا يقال: إن من المحتمل جداً أن لا يكون الراوي حاضراً الواقعة، فلا يثبت جرمه وعدم عدالته، بل هو مجرد محدّثٍ بها، وناقلٍ إليها؟

فإنه يقال: إن الاحتمال المذكور وإن كان ممكناً، إلا أنه يلزم منه فقدان الواسطة التي ينقل الراوي عنها، لأنه ما دام لم يشهد الواقعة، يلزم أن يكون مخبراً بها عن شخص ما، ولم يذكر ذلك الشخص كي ما ينظر في حاله، وأنه ثقة أو لا.

إن قلت: إن الحادثة المذكورة كانت مشهورة بين المسلمين، لأنها قد تضمنت إقامة لحدٍّ على من خالف الأمر الإلهي، ومثلُ هذه الأمور يتناقلها الناس، ولا حاجة إلى معرفة الواسطة لعدم التشكيك في وقوعها؟

قلت: لابد من التفريق بين أصل الحادثة، وأنها كانت مشهورة ومتداولة بين الناس، وبين الجزئيات والملابسات التي تبعتها، كرجوع الناس، وأن من ضمن الراجعين فلاناً ووفلاناً، فإن المرتبط بمحل بحثنا هو الثاني، وليس الأول، وهذا يعني أنه يلزم إثبات أن رجوع محمد كان من الأمور المشهورة والواضحة والمتداولة عند الناس، حتى يبنى على ما ذكر، وليس الأمر كذلك.

وبالجملة، إن هذا الإقرار من الراوي على نفسه، يعدّ مانعاً من القبول بالرواية، لأنه مصدرها، وقد عرفت أنه يقتضي التشكيك في صلاحه وعدالته.

والظاهر عدم كفاية مجرد الوثاقة في المقام، فلا يقال إن الراوي وإن كان فاسداً غير صالح، إلا أنه ثقة لا يكذب، فيكفي إخباره لثبوت الغرض. لأن خطورة الأمر المتضمن إخباره عنه، تستدعي أكثر من الوثاقة، فتأمل جيداً.

على أنه لو قبل بذلك، فإنه يتم لو كان الراوي هو ميثم التمار صاحب مولاي أمير المؤمنين(ع)، وحسن حاله وصلاح شأنه وكونه خاصة الإمام(ع) كما سمعت عند دراسة السند تمنع من القبول بكونه مقراً على نفسه بهكذا جرم، إلا أن يؤول الأمر بما يكون مناسباً.

ثانيها: إن الوارد في النص، هو حديث قد صدر من الراوي بأن محمد بن الحنفية قد رجع في ضمن الراجعين، وهذا التعبير فيه احتمالان:

الاحتمال الأول: أن يكون الصادر من الراوي شهادة منه على محمد بن الحنفية بالفسق، وثبوت الحدّ عليه.

الاحتمال الثاني: أن يكون الصادر من الراوي مجرد إخبار منه عن حال محمد، وليس شهادة منه عليه بشيء. والفرق بين الإخبار والشهادة واضح.

فلو كان المقصود هو الاحتمال الأول، فلا مجال لقبوله، وترتيب الأثر عليه، وذلك لأنه يعتبر في الشاهد العدالة، وقد عرفت انتفائها عن الراوي وفقاً للمانع الأول في نقد المتن.

ولو كان المقصود هو الاحتمال الثاني، فإنه لن يخرج عن كونه مجرد خبر حدسي وليس خبراً حسياً، ومنشأ كونه كذلك، اشتمال الخبر على خروج الناس ملثمين، ما يعني أنه لن يعرف أحدهم الآخر معرفة حسية، وأقصى ما يحتمل هو حدس بعضهم في شأن بعض. ومن المعلوم أنه لا قيمة في الإخبارات للأمور الحدسية، بل يعتبر فيها الحس، كما هو مقرر في محله.

ثالثها: إن من المحتمل أن لا يكون المراد الجدي لما صدر عن الإمام(ع) بقوله: من كان لله عليه…ألخ…، الإشارة إلى وجود مخالفين عليهم حدود لله تعالى، بل يكون المقصود منه الإشارة إلى عصمته(ع) وعصمة الإمامين الهمامين الحسنين(ع) من حيث عدم صدور الذنب منهم، أما بقية الناس فيمكن صدور الذنب منهم، وعليه تكون الرواية بصدد بيان عصمتهم(ع)، وليست بصدد بيان صدور الذنب من محمد، أو غيره.

رابعها: إنه بعد التسليم بحصول الرجوع من محمد بن الحنفية، فإنه يمكن حمل صدور ذلك منه على تمام تقواه وورعه، وتحرزه في جنب الله تعالى، لكونه محتاطا، إذ ربما استغيب شخص أمامه، أو نم عليه، أو ذكر بعيب ولم يتسن له الدفع عنه، ولو من جهة تصوره أن هذا ليس مما يجب الدفع فيه والأمر بالمعروف، وكذا ربما رأى منكراً، فظن في نفسه أنه لن يؤثر في الفاعل له، مع أن الواقع خلافه مثلاً. والحاصل، إن موجب رجوعه ظنه ولا أقل من احتماله أن ذمته مشغولة لله سبحانه وتعالى بشيء فمن باب الاحتياط اجتنب الرجم، وعمد للعود، وليس ذلك لإقراره بصدور شيء منه منافياً للصلاح والعدالة.

وهذا المعنى ينسجم مع كون الحدّ المقصود في النص هو مطلق الحدّ الثابت لله سبحانه وتعالى، وليس خصوص حد الزنا، كما سمعت ذلك في أحد تفسيريه عند تقريب دلالة الرواية، فراجع.

[1] الكافي ج 14 كتاب الحدود باب آخر منه ح 1 ص 41-47.

[2] تهذيب الأحكام ج 10 ص 9 ح 23.

[3] المحاسن ج 2 ص 21ح 23 من كتاب العلل.

[4] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 28-3- ح 5018.

[5] رجال النجاشي ج 2 رقم 1027 ص 290.

[6] معجم رجال الحديث ج 14 ص 166.

[7] معجم رجال الحديث ج 10 ص 92.