20 أبريل,2024

قراءة في النصوص

اطبع المقالة اطبع المقالة

نص علماؤنا على أن المصدر الثاني هو السنة المباركة وهي تعني كل ما صدر عن المعصوم(ع) من قول أو فعل أو إقرار، والوصول إلى هذه الأمور يكون في زمن الحضور من خلال التواجد بين يدي المعصوم(ع)، بحيث يتسنى للمكلف سماع قول الإمام(ع) منه مباشرة لأنه كان موجوداً معه، أو أنه يكون حاضراً في مكان ما فيرى فعل الإمام(ع)، الكاشف عن التشريع، أو يراه يقرُّ عملاً من الأعمال الصادرة من فرد من الإفراد، مع عدم وجود مانع يمنعه من نهيه عما عمله. وقد يكون وصوله إلى ذلك من خلال الأخبار الحاكية لذلك، كما سنشير بعد قليل.

وأما في زمان الغيبة المظلمة، وعدم التمكن من الوصول للإمام المعصوم(ع)، فإن الطريق لإحراز السنة الشريفة يكون من خلال النصوص الحاكية لما صدر عنهم(ع) من أقوال، أو أفعال، أو إقرارات، وهذه النصوص إما أن تكون متواترة، أو محفوفة بقرائن توجب القطع بصدورها، أو أخبار آحاد ظنية.

ولا ريب في كون الأخبار المتواترة مفيدة للعلم، ومثلها الأخبار المحفوفة بقرائن توجب القطع بالصدور، فيستند إليهما في مقام الاستدلال دونما حاجة إلى ملاحظة أسنادهما، فضلاً عن دراستها ونقدها. إلا أن هذين النوعين من النصوص ليسا من الكثرة بمكان، ذلك لأن أكثر النصوص الموجودة بأيدينا هي أخبار آحاد ظنية، لا تفيد العلم، وعليه كيف يكون التعاطي والتعامل معها، فهل يمكن الاستناد إليها جميعها دونما تمحيص وتأمل، فيقبل كل خبر نسب إلى أحد المعصومين(ع)، ويلتـزم به، أو يعمد إلى رد النصوص الحاكية لما صدر عنهم(ع) بأكملها دونما فرق، لكونها من الظنون، وقد نص القرآن الكريم على أن الظن لا يغني من الحق شيئاً. أو يعمد إلى التفصيل فيما بينها، فيبنى على العمل ببعض النصوص، ويعمد إلى رد بعضها الآخر؟

ومن الطبيعي جداً أنه لو بني على اختيار المحتمل الثالث من المحتملات المذكورة، فلابد وأن يكون هناك موجب لهذا التميـيز ينتج عنه التفصيل المذكور، ولا يكون منشأه الترجيح بلا مرجح، فلا تغفل.

هذا ومما يلزم التنبيه عليه في المقام، التفريق بين أمرين في غاية الأهمية، وهما رد الخبر، وتكذيبه، فلا مجال لأن يتمسك بأن رد خبر من الأخبار لعدم إحراز صدوره عن المعصوم(ع) نتيجة عدم توفر ما يلزم توفره فيه للحكم بذلك بأنه مشمول للنصوص التي نهت عن تكذيبهم(ع)، إذ أن المنهي عنه في تلك النصوص هو تكذيبهم(ع)، وتكذيب الصادر عنهم(ع)، لا أنها تضمنت النهي عن رد الأخبار التي لا يحرز صدورها، وأين هذا من ذاك.

وبالجملة، إن ملاحظة النصوص والتأمل فيها كي ما يحرز صدورها، ليس من مصاديق تكذيبها، كما لا يخفى. وهذا يعني أنه لا وجه لجعل موجب المحتمل الأول من المحتملات المذكورة، النصوص التي تضمنت النهي عن رد رواياتهم(ع)، وتكذيبها، لما عرفت أن موضوع تلك النصوص هو التكذيب، وليس الملاحظة لإحراز الصدور، فتدبر.

وعلى أي حال، يبدو أنه ليس من أحد يتبنى المحتمل الثاني من المحتملات المذكورة، فإنه حتى لو قيل بانسداد باب العلمي بعد انسداد باب العلم، إلا أن ذلك لا يعني رفع اليد عن النصوص الظنية، بل الظاهر أن القائل بالانسداد سوف يلجأ إلى تطبيق الوثوق الشخصي، وعليه، لا يبقى وجه للقول بالمحتمل الثاني، فضلاً عن عدم تصور وجود قائل به خارجاً، نعم الظاهر أن المتمسكين بمقولة حسبنا كتاب الله، يمكن عدّهم من القائلين بهذا المحتمل، فلاحظ.

وعليه، ووفقاً لما تقدم، سوف ينحصر الأمر في خصوص المحتملين الأول والثالث، فيلزم النظر فيما يمكن توجيههما، والاستدلال على كل منهما، حتى يتضح ما يمكن العمل على طبقه في التعاطي مع النصوص الشريفة.

هذا ولو ألتـزم بالمحتمل الثالث من هذه المحتملات، فلن نعرض إلى بيان الضابطة في تصحيح الخبر، بل سوف نقتصر على عرض موجبات هذا المنحى، ويكون التعرض لذلك في مجال آخر.

حجية النصوص مطلقاً:

أما المحتمل الأول، من المحتملات الثلاثة فقد عرفت أنه يقوم على البناء على حجية كافة الأخبار المنسوبة للمعصومين(ع)، والمتضمنة لحكاية السنة الشريفة عنهم، من دون حاجة إلى نقد أو تمحيص شيء منها، ومن الطبيعي أن القائلين بهذه المقالة، لن يعيروا المصادر الناقلة لهذه النصوص اهتماماً، ولا عناية.

ومع أنني لم أجد أحداً من أعلامنا قد ألتـزم بهذه المقالة حتى مشايخنا الإخباريـين(ره)، فإنهم لا يعتمدون على صحة كل منسوب للمعصومين(ع)، بل يحصرون ذلك في خصوص الكتب المعتبرة، وهذا يعني أنهم يقيّمون النصوص وفقاً لمصادرها، فلو لم يكن مصدر الخبر من الكتب المعتبرة، فلن يعول عليه، و يحكم بصدوره عن المعصوم(ع).

والحاصل، إن أخذ حيثية اعتبار المصدر، تكشف عن أنهم(ره)، لا يبنون على حجية النصوص مطلقاً، وإنما يقيدونها بما عرفت، وهذا يكشف عن أنهم في الحقيقة قائلون بالمحتمل الثالث، وليسوا قائلين بالمحتمل الأول، فتدبر.

ثم إنه ليتـنزل عن جميع ما ذكر، وليحكم بوجود قائلين بهذا الاحتمال، وليحاول إيجاد ما يتصور من دليل يستند إليه في هذه المقولة.

وما يمكن أن يتصور دليلاً لهذا القول التالي أمران:

الأول: تنقية المصادر الحديثية:

إن من المعلوم عندنا أن كتب أصحابنا قد تعرضت للتمحيص والتنقية والدراسة من قبل أعلام الطائفة، فقد صرفوا أوقاتهم، وأتعبوا أبدانهم، وسهروا الليالي في سبيل ذلك، ومن ثمّ قاموا بعرض ما صنعوه على المعصوم(ع)، وقد أمضيت من قبلهم.

ولا يخفى أن هذا الوجه يتركب من مقدمتين:

الأولى: تنقيح الكتب المشتملة على الأخبار.

الثانية: عرض ما نقح من الكتب على المعصومين(ع)، وإمضائها.

فيستكشف من ذلك رفع ما يتصور تدليسه، أو كذبه، من المصادر الحديثية، فيثبت المطلوب.

وما ذكر بمجرد النظر البدوي تام، إلا أن التدقيق مانع من قبوله، وذلك:

أولاً: إن الجزم بحصول التنقيح للكتب الحديثية، بإخراج سقيمها من سليمها، وحصر الموجود في خصوص السليم الذي لا سقم فيه، يكذبه شواهد عديدة:

منها: لقد بذل شيخنا الكليني(رض) من عمره الشريف عشرين عاماً في تأليف كتابه الكافي، وقد تلقت الطائفة الكتاب المذكورة بكل احترام وتجلة، إلا أننا نجد أن من جاء بعده، وهو شيخنا الصدوق(ره) مثلاً يكتب كتابه من لا يحضره الفقيه، والذي ذكر في ديباجته أنه: ولم أقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع مارووا[1]. فإن هذا التعبير صريح أنه لا يحكم باعتبار جميع ما جاء في الكافي، وإنما اشتماله على الصحيح وغيره.

ولم ينقل في هذا الكتاب إلا رواية واحدة عن كتاب شيخنا الكليني(قده)، وقد أوردها للمناقشة فيها، وليس للعمل على طبقها. بل أعجب من ذلك أن أحد أبرز المصادر التي اعتمدها الشيخ الصدوق(رض) في تأليف كتابه هو كتاب الرحمة لسعد بن عبد الله الأشعري(ره)، وقد كان الكتاب المذكور موجوداً بين يدي شيخنا الكليني(ره)، إلا أنه لم ينقل عنه إلا رواية واحدة في أصول كافيه، ولا ريب أن هذا يكشف عن عدم الجزم بحصول التنقية للمصادر الحديثية من السقيم، لأنه لو حصل ذلك لم تكن هناك حاجة لأن يؤلف الكافي ويبذل في ذلك المقدار الذي قد بذل، كما لا معنى لأن يؤلف الصدوق(ره) كتاباً آخر.

ولو قيل: إن غاية الصدوق(ره) تأليف كتاب على غرار من لا يحضره الطبيب فيعرض فيه خصوص ما يحتاج إليه المكلف، وهذا لا يمكن من خلال كتاب الكافي لتوسع الكليني(رض) في ذلك؟

قلنا: إن أمر ذلك ليس صعباً، إذ كان بإمكانه تلخيص ما ذكره شيخنا الكليني(ره)، ونقل شيء مما ذكره في كل باب، لا أن يكتب كتاباً لا يشتمل على شيء مما جاء في الكتاب الأول.

والحاصل، إن تغاير الكتابين، يكشف عن تغاير المصادر ولو في الجملة، وهذا يعني أنها لم تنقح ليحذف السقيم منها وإلا لم يختلف العلمان(ره)، فلاحظ.

ثانياً: إن الدليل المذكور أخص من المدعى، ذلك لأنه بعد التسليم بتحقق عملية التنقية المذكورة، فإن ذلك لا يثبت الصحة لكل النصوص الموجودة بأيدينا، بل سوف يكون منحصراً في خصوص الكتب التي أحرز تنقيها.

ثالثاً: بعد التسليم بكل ما تقدم، إلا أنه لا يوجد عندنا دليل معتبر يمكن الركون إليه ليثبت أن الكتب الحديثية عندنا قد تمت تنقيتها من النصوص السقيمة، ليقال بعدها باعتبار ما بقي من الأحاديث.

الثاني: مقتضى الحكمة الإلهية:

لا ريب في عدم انحصار الحاجة إلى الصادر عن المعصومين(ع) في خصوص من كان معاصراً لهم، كيف وفي زمان الغيبة المظلمة سوف يغيب الناس عن الإمام(عج)، ولن يتسنى لهم اللقاء به، فلابد وأن يكون لهم ما يرجعون إليه، ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية، وشفقة الرسول محمد(ص) وآله الأطهار(ع) وجود أصول معتمدة نقية من كل دس وتزوير، يحرز صدورها عنهم(ع) يعمل بها في زمان الغبية.

ولا يذهب عليك أن ما ذكر لا يصلح أن يكون دليلاً، بل هو للاستحسان أقرب، إذ أنه لا توجد أدنى منافاة بين الحكمة الإلهية، والشفقة المعصومية، وبين دراسة النصوص ونقدها ليحرز سقيمها من سليمها. على أن التقريب المذكور يعتمد اعتماداً كلياً على الدليل السابق، وكأنه بمثابة النتيجة له، فمع هدم الدليل السابق، ينهدم مباشرة الدليل المذكور، فلاحظ.

والمتحصل مما تقدم، أنه لا مجال للقبول بحجية كافة الأخبار، وإمكانية الاستناد إليها من دون تمحيص أو نقد لأسنادها، فلاحظ.

التفصيل في حجية النصوص:

ويبتني هذا الاحتمال على عدم رفع اليد عن أخبار الآحاد الظنية مطلقاً، ولا العمل بها على نحو الإطلاق، بل يلتـزم بالتفصيل فيعمل بشيء منها، وترفع اليد عن شيء آخر، ولا ريب في أن العمل بما سوف يعمل به، أو رفع اليد عما سوف ترفع اليد عنه لن يكون على نحو التشهي، وإنما سوف يكون وفق ميزان يقوم على دراسة النص المراد الاستناد إليه من ناحية السند والمتن، وأنه لابد وأن يكون مستجمعاً لما يعتبر توفره فيه حتى يصح الاستناد إليه، ولسنا الآن بصدد الحديث عن بيان ما هي الشروط التي لابد من توفرها كي ما يكون الخبر مورداً للاستناد والاعتماد، فإن لذلك مجالاً آخر، وإنما نود التعرض إلى بيان الداعي للالتـزام بهذا التفصيل، وهو عدم القبول بحجية كل خبر تضمن الحكاية للسنة الشريفة.

هذا وما يمكن أن يذكر مانعاً من القبول بالمحتمل الأول، أمران:

الأول: مشكلة الوضع:

ويقصد منه اختلاق شيء وإثبات صدوره عن المعصوم(ع)، سواء كان ذلك بادعاء قول منه، أو بادعاء صدور فعل عنه، أو أنه أقرّ شيئاً ما.

وتقريب مانعيته في البين من خلال مقدمتين:

الأولى: لا ريب في اشتمال النصوص التي بأيدينا على جملة من الأخبار الموضوعة، وفقاً لما يستفاد من النصوص المستفيضة التي وردت عنهم(ع) في وجود كذاب لكل واحد منهم.

ويمكن تصنيف النصوص التي تحدثت عن وجود الكذابة عليهم(ع) إلى صنفين:

الأول: النصوص التي تضمنت وجود كذابين سوف يكذبون عليهم(ع)، فقد جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: ستكثر بعدي القالة عليّ[2].

وقال أمير المؤمنين(ع): ولقد كُذب على رسول الله(ص) في عهده حتى قام خطيباً فقال: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار[3].

وجاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن لكل رجل منا رجلاً يكذب عليه[4]. وجاء عن(ع) أيضاً أنه قال: إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس[5].

وجاء عن أبي جعفر الثاني(ع) عن رسول الله(ص) أنه قال: قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار[6].

ولا يذهب عليك أن النصوص السابقة تكشف عن أن الوضع والكذب أبتدأ منذ عهد رسول الله(ص) بحيث كذب عليه(ص)، وهو بعدُ لم ينتقل إلى عالم الخلود، فتدبر.

الثاني: النصوص التي تضمنت ذكر جملة من أسماء الكذابين والوضاعين:

فمنها: ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال-في حديث-: فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدّث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا، وسنة نبينا(ص)[7].

ومنها: ما رواه يونس قال: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر(ع) ووجدت أصحاب أبي عبد الله(ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعدُ على أبي الحسن الرضا(ع) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله(ع)، وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله(ع)، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله(ع)، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن[8].

الثانية: إنه لا يمكن العمل بشيء من النصوص إلا بعد أن تتم عملية تميــيز الموضوع من غيره، لأن اللازم من العمل بكل خبر هو الالتـزام بعدم حجية بعض الأخبار، وذلك لأن بعض النصوص قد دلت على كذب بعض آخر منها، والعمل بها يقتضي عدم العمل بما دلت عليه، أعني الأخبار الكاذبة، مما يستوجب التناقض، فلاحظ.

مضافاً إلى أن بعض النصوص تتضمن المخالفة للقرآن الكريم، وقد امتازت هذه الطائفة المحقة على غيرها بأن المعيار الأساس عندها في قبول الخبر عدم مخالفته للقرآن الكريم، بعدما يعرض عليه. فإذا كانت النصوص متضمنة لمخالفة القرآن الكريم، فكيف يعمل بها، والنصوص تأمرنا بعدم العمل بما خالف كتاب الله سبحانه.

أسباب الوضع:

لم يترك المختصون بعلم الحديث مشكلة الوضع دونما تسليط للضوء عليها، بل عمدوا إلى دراستها من جوانب متعددة، وإحدى النواحي التي عمدوا إلى دراستها فيها، مناشئ المشكلة وأسبابها، وقد ذكروا عدة أسباب أدت إلى حصول مشكلة الوضع في الروايات، نشير إلى جملة منها:

الأول: البعد السياسي:

ويقصد من هذا البعد تقوية منهج سياسي على منهج آخر، بحيث تكون الغلبة للمنهج الذي يوضع الحديث من أجله، فمن أمثلة ذلك إدعاء وجود نص عن النبي(ص) يتضمن تنصيصه على كون أبي بكر هو الخيفة من بعده، فقد ذكر ابن الجوزي في كتابه الموضوعات نموذجاً ومثالاً، وهو ما نسب إلى النبي(ص) من قوله لعمه العباس: يا عم، إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه، فأطيعوه بعدي تهتدوا، واقتدوا به ترشدوا[9].

ولا ريب أن الغرض من هذا هو إدعاء عدم نص القرآن الكريم، والنبي(ص) على خلافة أمير المؤمنين(ع)، ووصيته له.

ومن أمثلة ذلك أيضاً ما ذكره ابن الجوزي كذلك في كتابه الموضوعات، من أن النبي محمد(ص) قد قال: الأمناء عند الله ثلاثة: جبرئيل، وأنا، ومعاوية[10].

وواضح جداً أن الغرض من ذكر هذا الرواية المكذوبة إيجاد هالة قدسية حول شخصية معاوية، وإخراجها بخلاف ما هي حقيقتها، فلا تغفل.

ومثل ذلك الحديث الذي أدعاه أبو بكر ليمنع مولاتنا الزهراء(ع) ميراثها، أو نحلتها من أبيها رسول الله(ص)، فقال على لسانه أنه قال(ص): نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.

الثاني: البعد المذهبي:

وهو لا يختلف عن البعد السابق إلا من خلال الغاية التي يرتجى تحصيلها، إذ أن هذا البعد يظهر جلياً عند أصحاب الفرق والمذاهب الذين يتبنون أفكاراً، فيضعون لها ما يوجب التصديق بها، ولهذا من كان يعيش حالة التعصب الفقهي، أو الكلامي لمنحى معين فإنه يضع له ما يكون موجباً للقبول به والتصديق به عند الآخرين. ومن أمثلة ذلك ما أدعاه أتباع مذهب أبي حنيفة من أن القياس قد صدرت حجيته من النبي محمد(ص)، وأنه قد قال بذلك. وكذا النصوص التي وضعوها لتحسين صورة أبي حنيفة، فقد أدعوا أن رسول الله(ص) قال: يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس، أضرّ على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة، هو سراج أمتي[11].

وقد تجلى هذا البعد في الخلافات الكلامية التي وقعت بين الفرق، والفتن التي صاحبت ذلك، كفتنة خلق القرآن، حيث لعب مبدأ الوضع في النصوص والكذب والتزوير دوراً كبيراً في الانتصار لكل مذهب والقائلين به، كما يلحظ ذلك كل من قرأ الوقائع التاريخية التي صاحبت تلك الظروف.

وقد ذكر الشهيد الثاني(قده) أن أبا الخطاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصائغ وأضرابهم وضعوا جملة من الحديث ليفسدوا به الاسلام وينصروا مذهبهم[12].

الثالث: الأغراض الشخصية:

وهو الذي لا يكون غاية الواضع للحديث إلا تحصيل المصلحة لنفسه، والاسترزاق به، لنيل شيء مما في أيد السلطات، ومن أجلى أمثلة ذلك ما حكيناه في ما تقدم عن الموضوعات ابن الجوزي في خبر الأمناء عند الله ثلاثة، إذ مضافاً لكون غاية واضعه تحسين الصورة التي عليها معاوية كما ذكرنا، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تكون للواضع غاية أخرى وهي الاسترزاق من معاوية، ومن لف لفه، وتحصيل المغنم منهم.

ومن أمثلة ذلك ما ذكر أيضاً في عصر المهدي العباسي، وقد كان رجلاً مولعاً بالحمام، فقد دخل عليه غياث بن إبراهيم الكوفي، وقال له أن رسول الله(ص) قد قال: لا سبق إلا في نصل أو في خف، أو حافر، أو جناح، فأمر المهدي بإعطائه عشرة آلاف درهم، فلما قام قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله(ص)، ما قال رسول الله(ص): جناح، ولكنه أراد أن يتقرب إليّ[13].

الرابع: جهالة بعض المتدينين:

وهؤلاء من مصاديق من أراد الإحسان فأساء، إذ أن المذكور عنهم أنه لم تكن رغبتهم في وضع الأحاديث لا سياسية، ولا طائفية، ولا حتى شخصية، بل كانت غايتهم من ذلك الحفاظ على الدين، ومراعاة انتماء الناس إليه، ولهذا تجدهم يضعون أحاديث تشتمل الترغيب للدين، وعمل الخير، والصلاح، وما لفاعل ذلك من الأجر والثواب، أو الترهيب لمن تركه، أو فعل معصية، أو جاء بخطيئة أو ذنب. ومن أمثلة ذلك ما روي عن عبد الله بن المسوّر المعروف بأبي جعفر المدائني، أنه كان يضع الأحاديث على رسول الله(ص)، في خصوص ما كان متضمناً أدباً أو زهداً، ويبرر ذلك بأن فيه أجراً.

وكذلك ما وضعه أبو عصمة، حسبة، عندما سُأل من أين له في فضائل سور القرآن الكريم سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة ذلك، فقال بأنه لما رأى اشتغال الناس بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، وإعراضهم عن القرآن الكريم، وضع ذلك حسبة.

وقد أشار إلى هذا الشهيد الثاني(قده)، بعد ذكره لأصناف الواضعين للحديث فقال: وأعظمهم ضرراً من انتسب إلى الزهد والصلاح بغير علم، فاحتسب وضعه أي زعم أنه وضعه حسبة لله وتقرباً إليه، ليجذب بها قلوب الناس إلى الله تعالى بالترغيب والترهيب، فقبل الناس موضوعاتهم، ثقة منهم بهم، وركوناً إليهم، لظهور حالهم بالصلاح والزهد. ويظهر لك ذلك من أحوال الأخبار التي وضعها هؤلاء في المواعظ والزهد[14].

بقي أن نشير في ختام هذا المانع إلى أن هناك عاملاً رئيساً قد ساعد على هذا وهو منع تدوين الحديث، حيث أنه قد فسح المجال بصورة واسعة، لو لم يكن هو السبب الأساس، الذي ساعد على مثل هذا الأمر.

ولنختم المقام بما ذكر عن ابن أبي العوجاء، فقد نقل ابن الجوزي عن أبي أحمد ابن عدي الحافظ أنه قال: لما أخذ ابن أبي العوجاء أتي به محمد بن سليمان بن علي فأمر بضرب عنقه، فلما أيقن بالقتل قال: والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام، ولقد فطرتكم في يوم صومكم، وصومتكم في يوم فطركم[15].

وبما جاء عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله(ع) يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه-وكان أصحابه المتستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة-فكان يدس فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يثبتوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم[16].

الثاني: أخطاء الرواة:

يعتقد البعض أنه يكفي للعمل بخبر من الأخبار إحراز وثاقة الراوي، أو تحصيل عدالته، ويغفل أنه لا يكتفى في البناء على الحجية بمجرد كون الراوي ثقة، أو كونه عدلاً، ذلك لأن هناك أموراً أخرى قد تمنع من الاستناد للنص، وليس مجرد معرفة حال الراوي كافية للبناء على الحجية، فالراوي لا يخرج عن كونه بشراً يتصور فيه الخطأ والاشتباه، فليس هو من المعصومين المنصوص على عصمتهم، كما أنه قد يوهم في سماع ما سمع من الحديث، أو قد يفهم الحديث المعروض عليه بصورة خاطئة، أو غير ذلك، وبالجملة، إن هناك أخطاء قد وقع فيها الرواة، ومن المعلوم أن العلم بكون الرواة يخطئون يمنع من البناء على حجية كل خبر والعمل على طبقه، بل لابد وأن يعمد إلى تمحيص تلك النصوص، والنظر فيما هو صالح للحجية والاعتبار منها، وما لا يصلح لذلك.

وهذا يعني لابد من معرفة الأخطاء التي يقع الرواة فيها حتى يتسنى لنا تفادي ذلك في مقام البحث عن ما هو حجة، وقد ذكرت مجموعة من الأسباب نشير إلى جملة منها:

الأول: عروض الاشتباه عليه في سماع الحديث:

وقد نبه على ذلك في النصوص الصادرة عنهم(ع)، فقد جاء رجل إلى الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، وقال له: حديث يروى أن رجلاً قال لأمير المؤمنين(ع): إني أحبك، فقال: أعدّ للفقر جلباباً، فقال: ليس هكذا، إنما قال له: أعددت لفاقتك جلباباً، يعني يوم القيامة[17].

الثاني: عدم فهمه للحديث بالوجه الصحيح:

ومن الأمثلة على هذا المعنى ما رواه محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله(ع) إن عمار الساباطي روى عنك رواية، قال: وما هي؟ قلت: روى أن السنة فريضة، فقال: أين يذهب، أين يذهب؟! ليس هكذا حدثته، إنما قلت: من صلى فأقبل على صلاته، لم يحدّث نفسه فيها، أو لم يَسهُ فيها، أقبل الله عليه ما أقبل عليها، فربما رفع نصفها أو ربعها أو ثلثها أو خمسها، وإنما أمرنا بالسنة ليكمل بها ما ذهب من المكتوبة[18].

ومن الواضح أن هناك عواملاً توجب حصول عدم الفهم للحديث بوجهه الصحيح، قد يكون منها قلة ثقافة الراوي باللغة العربية كما هو في المثال السابق، وقد يكون ذلك بسبب تصرف الراوي في الحديث من خلال الشرح والإدراج، فقد روى عمار الساباطي عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح-إن أوصى به كله فهو جائز له[19]. فإن المقطع الأخير والذي زاده عمار اعتماداً على فهمه للنص ينافي مقام العصمة، لما ثبت عندنا من أن الإنسان ليس له حق إلا الإيصاء في خصوص ثلث ما ترك، فلاحظ.

وقد عُرف عمار الساباطي عند الأعلام كونه شخصاً مجتهداً في النقل بالمعنى، وأن كل ما في أخباره مما يخالف القواعد العامة، فهو من فهمه الناقص[20]. وقد نبه على هذا كثيراً صاحب الحدائق(ره) في موسوعته الفقهية.

على أن هناك عوامل أخرى يطول الحديث بشرحها، نترك الحديث عنها لمجالها، وبالخصوص لأهل الاختصاص في هذا الجانب.

الثالث: عروض النسيان للراوي:

فإنه بشر يعرض عليه ما يعرض عليهم إلا خصوص من عصم الله سبحانه وتعالى، وذكر أنه لا يصيبهم ذلك، وهم محمد وآله(ع). ومن أوضح الأمثلة على هذا الأمر الروية المشهورة والتي تذكر في باب الخمس، وراويها هو الثقة الجليل الثبت ابن أبي عمير، فقد جاء فيها أن الخمس يجب في خمسة أشياء، وقد ذكر أربعة، ثم قال الراوي: ونسي ابن أبي عمير الخامس.

الرابع: حصول الإدراج في متون الأخبار من قبل بعض الرواة:

وقد كانت الغاية عندهم هي الشرح والبيان لما جاء فيها، ومن الواضح أن هذا يوجب الخلط بين كلام المعصوم(ع)، وبين كلام غيره، وبالتالي قد ينسب الكلام للمعصوم(ع)ن مع أنه من شرح الراوي وقد لا يكون هذا الشرح مراداً للإمام(ع)، فمن ذلك ما رواه عبيد الله الحلبي قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن صلاة الكسوف نقضي إذا فاتتنا؟ قال: ليس فيها قضاء. وقد كان في أيدينا أنها تقضى[21]. فإن قوله: وقد كان في أيدينا أنها تقضى، ليس من مقول الإمام(ع)، فيحتمل أنه مقول للراوي نفسه، أو من جاء بعده.

هذا ويصعب على كل أحد التمكن من إحراز أن هذا من الإدراج والشرح، فإن ذلك يحتاج تتبعاً في النصوص، ودقة في ملاحظة مضامينها، كي ما يتمكن من الإحاطة مثلاً بأن بين الصدر والذيل تهافتاً يوجب التوقف، وبالتالي بمعونة نصوص أخرى قد يستكشف الإدراج، فتدبر.

وقد كثرت هذه الأمور في كتب شيخنا الصدوق(ره)، فإنه كثيراً ما أدرج بياناً للنصوص في ضمن متونها.

الرابع: التصرف من الراوي في متن الحديث من خلال قيامه بإصلاحه:

وهذا وإن لم أجد له مثالاً واضحاً في النصوص، إلا أن التتبع في الكتب الحديثية، بل الموسوعات الفقهية يجد له أمثلة كثيرة. فمنها على سبيل المثال موثقة ابن بكير الواردة في لباس المصلي قال: سأل زرارة أبا عبد الله(ع) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتاباً زعم أنه املاء رسول الله(ص): أن الصلاة في وبر كل شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شيء منه فاسد لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلى في غيره[22]. فإن المطمئن إليه كون الموثق مما عرض له التصحيح، والتصرف في مته لأجل ذلك، كما هو مفصل في محله.

والحاصل، إن مما يطمئن إليه أن الأعلام، بل حتى النساخ قد عمدوا إلى اصلاح كثير من المتون، وقد عمدوا إلى تعديلها وهذا الاصلاح قد يكون قياسياً، أعني بالقياس على نصوص أخرى، وقد يكون بغير ذلك.

الخامس: نقل النصوص بالمعنى:

فإن الراوي لا ينقل عين الألفاظ الصادرة عن الإمام(ع)، وإنما يقوم بنقل الخبر بألفاظ مرادفة لما صدر عن المعصوم(ع)، أو مقاربة لها في المؤدى. ولا ريب في أن هذا يستوجب وجود مؤهلات خاصة عند الراوي، من كونه يملك الثقافة الكاملة، باللغة العربية، وأساليب البيان وصنوف الدلالات، وأن يكون ضابطاً، ودقيقاً.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد من أن النبي محمد(ص) قال: إن الله خلق آدم على صورته. ومن الواضح أن الضمير يعود على الذات المقدسة، وهذا يعني أن آدم(ع) صورة حاكية للذات المقدسة، وهو يتنافى والقواعد العامة والعقائد التامة، لأن الذات المقدسة منـزهة عن التشبيه والتجسيم. وقد استنكر الإمام الرضا(ع) ذلك، فقد روى عنه الحسين بن خالد قال: قلت للرضا(ع): يا بن رسول الله(ص) إن الناس يروون أن رسول الله(ص) قال: إن الله خلق آدم على صورته! فقال: قاتلهم الله، لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول الله(ص) مرّ برجلين يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال(ص): يا عبد الله، لا تقل هذا لأخيك، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته[23].

[1] من لا يحضره الفقيه ج 1 المقدمة.

[2] المعتبر ج 1 ص 29.

[3] نهج البلاغة ص 325.

[4] المصدر السابق ج 1 ص 29.

[5] اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 593.

[6] بحار الأنوار ج 2 ح 2 ص 225.

[7] اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 489.

[8] اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 489.

[9] الموضوعات ج 1 ص 315-316.

[10] المصدر السابق ج 2 ص 17.

[11] تدريب الراوي ص 182.

[12] الدراية ص 58.

[13] تاريخ بغداد ج 12 ص 324.

[14] الدراية ص 56.

[15] الموضوعات ج 1 ص 37.

[16] اختيار معرفة الرجال رقم 549.

[17] بحار الأنوار ج 72 ح 40.

[18] فروع الكافي ج 3 ص 362-363.

[19] التهذيب ج 9 ح 753.

[20] روضة المتقين للمجلسي ج 14 ص 204.

[21] التهذيب ج 3 ح 338 ص 157.

[22] وسائل الشيعة ب 2 من أبواب لباس المصلي ح 1.

[23] التوحيد ح 11 ص 153.