16 أبريل,2024

سيدة عش آل محمد(ع)(1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

سيدة عش آل محمد(ع)(1)

لم يختلف حال سيدة عش آل محمد(ع) السيدة الجليلة ولية النعمة فاطمة المعصومة(ع) عن بقية أفراد البيت العلوي(ع)، ومن ارتبط به من الشخصيات في ظلامة التأريخ لهم، بعدم توفر إلا النـزر اليسير من سيرتهم في ضمن صفحاته، بل يزداد الأمر صعوبة حال كون الشخصية المراد البحث عنها امرأة، وليس ذلك استنكافاً من المرأة أو تبعية لسيرة جاهلية، وإنما لما عرف عن البيت العلوي من زيادة المحافظة على المرأة ستراً وعفافاً وصوناً، وهذا يفسر لنا الخلاف الموجود عادة في معرفة عدد بنات المعصوم(ع)، وكذا معرفة اسمائهن، إذ جرت العادة أن لا تدخل القوابل عادة على الهاشميات حال الولادة، ولو دخلن فإنهن قوابل مخصوصة.

وبالجملة، إن الحديث عن سيدة عش آل محمد(ع)، ينطوي على محطات تستدعي الوقوف عندها، مثل: مدينة قم وفضلها، وما تضمنته النصوص حول ذلك، وهل أن فضلها ذاتي، أم أنه نشأ من خلال وجود قبرها الشريف فيها؟ ولماذا أصبحت مفزعاً يلجأ إليه حال انتشار الفتن، وأنها المقصد الذي ينبغي أن يسكن في آخر الزمان. وما هي المقامات الثابتة لهذه السيدة الجليلة التي تضمنتها النصوص الشريفة التي تحدثت عنها.

قم المقدسة في النصوص:

اشتملت النصوص الشريفة على الحديث عن بلدة قم، وأحاطتها بقدسية خاصة، وبينت أن لها فضلاً ومكانة مرموقة، وقد اتخذت النصوص التي تحدثت عنها ألسنة مختلفة، كما أن الموضوعات التي تضمنتها تلك النصوص لم تكن موضوعاً واحداً.

منشأ التسمية وسببها:

فمن الموضوعات التي تضمنتها النصوص المتحدثة عن فضل قم، وما لها من مكانة، النصوص التي بينت منشأ تسميتها بهذا الاسم، وهي على طوائف ثلاث:

الأولى: ما تضمنت أن منشأ تسميتها بذلك يعود، لكونها النقطة التي اقيمت عليها سفينة نوح(ع)، فقد ورد عن أبي مقاتل الديلمي، نقيب الري، قال: سمعت أبا الحسن علي بن محمد(ع) يقول: إنما سمي قم به، لأنه لما وصلت السفينة إليه في طوفان نوح(ع) قامت، وهو قطعة من بيت المقدس[1].

وقد تضمن النص المذكور أمران:

الأول: أن قماً  كانت موضعاً لقيام سفينة نوح فيه عندما وصلت إليه.

الثاني: أن قماً قطعة من بيت المقدس.

والظاهر أن المقصود من كون قم موضعاً لقيام سفينة نوح فيها أنها رست فيها في نهاية الطوفان، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:- (واستوت على الجودي وغيض الماء)[2]، لعدم تصور فضل إليها لو بني على أن المقصود بقيامها فيها هو مجرد مرورها عليها، لأنها قد مرت على العديد من الأماكن الأخرى قبل قيامها واستوائها، ولم يذكر لتلك الأماكن التي مرت عليها فضل كما ذكر لها، وهذا يساعد على أن المقصود من قيامها هو ما ذكرناه.

ويعارض هذا المضمون المستفاد من النص نصوص تضمنت أن الموضع الذي قامت عليه سفينة نوح واستوت فيه على الجودي ليس في قم، وإنما في الموصل، حيث قامت هناك على جبل عظيم، كما جاء ذلك في كتاب التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم بسند معتبر عن أبي عبد الله(ع) –في حديث- قال: واستوت السفينة على جبل الجودي هو بالموصل جبل عظيم، فبعث الله عز وجل جبرائيل فساق الماء إلى بحار حول الدنيا[3].

وقد ورد هذا المعنى أيضاً عن الإمامين أبي الحسن الأول موسى(ع)، وأبي الحسن الرضا(ع)[4].

كما تضمنت بعض النصوص تحديد الموضع الذي قامت عليه سفينة نوح وهو الجودي، بالكوفة، فقد ورد عن الفضل بن عمر، عن أبي عبد الله(ع)-في حديث طويل- أنه قال: ثم ورد إلى باب الكوفة في وسط مسجدها، ففيها قال الله تعالى للأرض:- (ابلعي ماءك)فبلعت ماءها من مسجد الكوفة كما بدأ الماء منه، وتفرق الجمع الذي كان مع نوح(ع) في السفينة[5].

ولا يخفى أن المعارضة فرع الحجية، وهذا يقضي عدم صلوح الطائفة الأولى التي تضمنت أن موضع قيام سفينة نوح هي قم المقدسة، ولا الثالثة التي تضمنت أن موضع قيامها وتحديد الجودي بالكوفة، لعدم تمامية نصوص الطائفتين، وضعفها سنداً، بخلاف الطائفة الثانية التي تضمنت تحديد جبل الجودي بالموصل، وأنه الموضع الذي قامت عليه السفينة.

وعليه، لزم رفع اليد عن هذا المنشأ الأول لتسمية قم المقدسة بهذا الإسم، لما عرفت من عدم تمامية الخبر المذكور سنداً من جهة، ولمعارضته بغيره الدال على خلافه، الموجب لترجحه عليه، من جهة أخرى، فتأمل.

نعم لو بني كما هو ليس بعيداً، أن النصوص محل البحث التي تضمنت تحديد موضوع الجودي، وأين توقفت السفينة من النصوص التي لا يعتبر فيها احراز أصالة الصدور، وإنما يكتفى فيها عدم احراز وضعها وكذبها على المعصوم(ع)، فعندها لن ترفع اليد عن نصوص الطائفتين الأولى والثالثة، وبالتالي لابد من العمد لترجح أحد هذه الطوائف الثلاث على بعضها.

ولا ريب في تقدم الطائفة الثانية عليهما، لدلالتها على تحديد موضع الجودي بالنص، ودلالة الأخريـين على ذلك بالظاهر، ومن الطبيعي أن يكون النص مقدماً على الظاهر.

ومع البناء على ترجح أحد الطوائف الثلاث الدالة على تحديد موضع قيام السفينة ومكان الجودي، لا يمكن البناء على نصوص المقام لتحديد منشأ تسمية قم المقدسة بهذا الاسم، لأن المفروض سقوطها عن الحجية في خصوص ما هو مربوط بمحل البحث من تحديد نشأ التسمية.

الثانية: ما ورد من أن منشأ تسميتها يعود لما ورد على لسان النبي الأكرم محمد(ص) عندما جاء يطرد إبليس منها، فقد روى الصدوق(ره) بأسانيد متعددة، عن أبي عبد الله(ع) أن رجلاً دخل عليه فقال: يا ابن رسول الله إني أريد أن أسألك عن مسألة لم يسألك أحد قبلي ولا يسألك أحد بعدي، فقال: عساك تسألني عن الحشر والنشر؟ فقال الرجل: إي والذي بعث محمداً بالحق بشيراً ونذيراً ما أسألك إلا عنه. فقال: محشر الناس كلهم إلى بيت المقدس إلا بقعة بأرض الجبل يقال لها قم، فإنهم يحاسبون في حفرهم ويحشرون من حفرهم إلى الجنة. ثم قال: أهل قم مغفور لهم. قال: فوثب الرجل على رجليه وقال: يا ابن رسول الله هذا خاصة لأهل قم؟ قال: نعم ومن يقول بمقالتهم. ثم قال: أزيدك؟ قال: نعم، حدثني أبي عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله(ص): نظرت إلى بقعة بأرض جبل خضراء أحسن لوناً من الزعفران وأطيب رائحة من المسك، وإذا فيها شيخ بارك، على رأسه برنس، فقلت: حبيبي جبرئيل ما هذه البقعة؟ قال: فيها شيعة وصيك علي بن أبي طالب. قلت: فمن الشيخ البارك فيها؟ قال: ذلك إبليس اللعين-عليه اللعنة-قلت: فما يريد منهم؟ قال: يريد أن يصدهم عن ولاية وصيك علي ويدعوهم إلى الفسق والفجور. فقلت: يا جبرائيل أهو بنا إليه، فأهوى بنا إليه في أسرع من برق خاطف. فقلت له: قم يا ملعون فشارك المرجئة في نسائهم وأموالهم، لأن أهل قم شيعتي وشيعة وصيي علي بن أبي طالب[6].

ومقتضى النص المذكور أنها لم تكن تعرف بهذا الاسم من قبل، وإنما اكتسبته من قوله(ص) لإبليس: قم يا ملعون، فسميت بذلك من باب المناسبة، لأنها الموضع الذي قام منه إبليس. وعليه، لن يكون الاسم علماً وإنما كان فعل أمر، ثم أصبح علماً مع مرور الأيام.

الثالثة: ما ورد أن منشأ تسميتها يعود لكون أهلها يقومون مع ولي النعمة مولاي صاحب الناحية(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فعن عفان البصري، عن أبي عبد الله(ع)، قال: قال لي: أتدري لم سمي قم؟ قلت: الله ورسوله وأنت أعلم؟ قال: إنما سمي قم، لأن أهله يجتمعون مع قائم آل محمد صلوات الله عليه، ويقومون معه، ويستقيمون عليه وينصرونه[7].

ودلالته على أن منشأ التسمية بلحاظ ما يملكه أهل هذا البدل من استعداد وقابلية للقيام مع ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فهم في حالة من الترقب والانتظار الدائم لذلك. وهذا يجعلهم بمثابة الإنسان القائم والمتوثب لعملية القيام.

ومجهولية الراوي تمنع من الاستناد للخبر المذكور، إلا بناء على ما ذكرناه في الحديث عن الجودي، من أنه لا يعتبر في مثل هذه النصوص إحراز أصالة صدورها، وإنما يكفي عدم وضعها، والمقام من هذا القبيل، فيقرر أنه لا يعتبر ذلك أيضاً في النصوص المتعرضة للحديث عن البلدان وفضلها. وإنما يكفي عدم إحراز وضعها، وهو غير بعيد كما سمعت.

وعليه، سوف تقع المعارضة بين نصوص الطائفة الثانية ونصوص الطائفة الثالثة، فإن مدلول الطائفة الثانية، هو البناء على وجود التسمية من عصر النبي الأكرم محمد(ص)، وهو منشأها عندما أمر إبليس بالقيام، فعرفت بذلك، بينما تفيد الطائفة الثالثة أن التسمية أخذت بلحاظ الاستعداد الحاصل عند سكان هذه البلدة ليوم ظهور ولي النعمة(روحي فداه)، وهذا ينفي أن تكون التسمية معروفة منذ عصر النبي الأكرم(ص)، وإنما هي مستوحاة من حالة الترقب والانتظار الموجودة عندهم.

وقد يبنى على عدم وجود المنافاة بينهما، فيلتـزم بالطائفتين، على أساس أن الطائفة الثالثة لم تنف وجود التسمية في عصره(ص)، وإنما أشارت إلى وجود منشأ آخر لتسميتها بذلك، وهو بهذا بصدد مدح أهلها.

والإنصاف، بعد هذا المعنى، فإن قوله(ع): أتدري لم سمي قم…ألخ…، بصدد الإخبار بشيء لم يكن معروفاً ولا معهوداً، لمنشأ التسمية، وهذا ينفي أن يكون لها منشأ آخر غير هذا.

ومثل ذلك يصعّب البناء على الاشتراك اللفظي للمفردة، فيكون لها أكثر من معنى، وبالتالي لابد من ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى.

وقد يكون تعدد أسناد الطائفة الثانية، واعتبارها، موجباً لترجحها على الطائفة الثالثة، وتحقيق ذلك يحتاج تتبعاً أكثر، وبحثاً مفصلاً لا يحتمله هذا المختصر.

فضل قم في النصوص:

قد سمعت أن النصوص قد أحاطت هذه المدينة المباركة بقدسية خاصة، وأولتها عناية مميزة، وذكرت لها فضلاً، فمن النصوص ما روي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن لعلى قم ملكاً رفرف عليها بجناحيه لا يريدها جبار بسوء إلا أذابه الله كذوب الملح في الماء. ثم أشار إلى عيسى بن عبد الله، فقال: سلام الله على أهل قم، يسقي الله بلادهم الغيث، وينـزل الله عليهم البركات، ويبدل الله سيئاتهم حسنات، هم أهل ركوع وسجود وقيام وقعود، هم الفقهاء العلماء الفهماء، هم أهل الدراية والروية وحسن العبادة[8].

وقد تضمن الحديث أمران:

الأول: حماية قم من كل من يريد بها سوءاً، وذلك لوجود ملك يرفرف عليها بجناحيه يقوم بحمايتها من ذلك.

نعم هل أن التعبير بالملك الوارد في النص، تعبير حقيقي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى وكل بها ملكاً يتولى عملية حمايتها، لتكون عملية الحماية من العناوين الجعلية، أم أن التعبير المذكور تعبير كنائي، استخدمه(ع) تقريباً للعقول، فيكون نظير جعله سبحانه وتعالى البيت الحرام مكاناً آمناً، وجعله عز وجل مكة بلداً آمناً؟ احتمالان، ومقتضى حمل اللفظ على ظاهره هو البناء على أولهما.

الثاني: ما يناله أهل قم من خير وبركة، وقد ذكر الخبر أموراً ثلاثة:

1-سقيهم الغيث.

2-نزول البركات.

3-تبديل سيئاتهم حسنات.

وهل أن ذلك يعود لقم، فيكون منشأ ذلك هو فضلها، أم أن ذلك يعود لسكانها؟ ربما بني على الثاني بقرينة ما جاء في ذيل الخبر من قوله(ع): هم أهل ركوع وسجود، وقيام وقعود، هم الفقهاء العلماء الفهماء، هم أهل الدراية والرواية وحسن العبادة. إلا أن الظاهر هو الأول، ذلك أن الخبر بصدد الحديث عن فضل قم، وذكر هذه الصفات لأهلها، لا يعني أنهم منشأ ما يكون فيها ولها من فضل، فتأمل.

ومنها: خبر إسحاق الناصح مولى جعفر، عن أبي الحسن الأول(ع) قال: قم عش آل محمد ومأوى شيعتهم، ولكن سيهلك جماعة من شبابهم بمعصية آبائهم والاستخفاف والسخرية بكبرائهم ومشائخهم ومع ذلك يدفع الله عنهم شر الأعادي وكل سوء[9]. فإن التوصيف بكونها عش آل محمد(ع) يشير إلى فضل خاص لها، كما أن قوله(ع) أنها مأوى شيعتهم يدل على ذلك أيضاً ويؤكده. كما أنه قد تضمن أمراً ثالثاً أشير إليه في الخبر السابق، وهو حمايتها من شر الأعداء، ومن كل سوء.

ومنها: خبر محمد بن جعفر، عن أبيه الإمام الصادق(ع) قال: إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميـين، ومستراح المؤمنين وسيأتي زمان ينفر أولياؤنا ومحبونا عنا ويبعدون منا، وذلك مصلحة لهم لكيلا يعرفوا بولايتنا، ويحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم، وما أراد أحد بقم وأهله سوءاً إلا أذله الله وأبعده من رحمته[10]. وقد تضمن هذا الخبر مجموعة من الأمور:

أحدها: أن قم هي المفزع الذي يلتجأ له حال نزول بلية أو حصول عناء عند الناس، وذلك لأنها مأوى الفاطميـين، ومستراح المؤمنين. ولعله(ع) يشير بكونها مأوى الفاطميـين أنها المنطقة التي يجتمع فيها الفاطميون قبل قيام ولي النعمة(عج).

ثانيها: أنها مقصد أصحاب أهل البيت(ع)، ليحقن بذلك دماءهم وأموالهم.

ثالثها: دفع السوء والبلاء عنها، فإن من أرادها وأهلها بسوء، أذله الله سبحانه وتعالى، وأبعده من رحمته.

ومنها: خبر واسط بن سليمان، عن أبي الحسن الرضا(ع)، قال: إن للجنة ثمانية أبواب، ولأهل قم واحد منها، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، ثم طوبى لهم[11]. ودلالته على المدعى بناءاً على أن جعل باب لأهل قم لا لخصوصية فيهم، وإنما بلحاظ وصفهم بأنهم قميون، فيكون ذلك ناشئاً من انتسابهم وارتباطهم بقم نفسها.

ومنها: خبر محمد بن خالد، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله(ع) قال: كنا عنده جالسين إذ قال مبتدئاً: خراسان! خراسان! سجستان! سجستان!، كأني أنظر إلى أهلهما راكبين على الجمال مسرعين إلى قم[12].

ومنها: خبر أبي مسلم العبدي، عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: تربة قم مقدسة، وأهلها منا ونحن منهم لا يريدهم جبار بسوء إلا عجلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم! فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم جبابرة سوء! أما إنهم أنصار قائمنا ودعاة حقنا. ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم اعصمهم من كل فتنة ونجهم من كل هلكة[13].

ولم يختلف هذا الخبر عما تقدمه من أخبار، إلا بالنص على كون تربة قم تربة مقدسة.

فضل قم ذاتي:

ثم إن الفضل الذي تضمنته النصوص المتقدمة لقم، هل هو ذاتي لها من دون دخالة لشيء آخر، أم أن الفضل المذكور لها نشأ من كونها مرقداً طاهراً لولية النعمة الطاهرة السيدة الجليلة المعصومة(ع)؟

لا يخفى أن الفضل قد يكون للزمان وقد يكون للمكان، وهذا الفضل قد يكون ذاتياً من دون دخالة لشيء في ذلك، وقد يكون بلحاظ أمر ما[14]، فمن الفضل الذاتي للزمان، فضل ليلة القدر، فإن لهذه الليلة فضلاً من دون ملاحظة لكونها واقعة في شهر رمضان المبارك، وأن القرآن الكريم قد نزل فيها، ومن الفضل الذاتي للأماكن، كربلاء المقدسة، فإن المستفاد من النصوص أن فضلها لذاتها من دون مدخلية لوجود المرقد الشريف للإمام الحسين(ع) فيها.

والظاهر من النصوص الواردة في الحديث عن قم وفضلها، أن فضلها ذاتي، وليس لكونها مرقداً مقدساً للسيدة الجليلة فاطمة المعصومة(ع)، وهذا يتضح بملاحظة ألسنة النصوص المتقدمة. فإن قوله(ع): إن تربة قم مقدسة، ظاهر في أن الفضل لذات التربة حتى قبل أن تكون مرقداً. ومثل ذلك قوله(ع): عش آل محمد، وهكذا.

دار السكنى في آخر الزمان:

يظهر من جملة النصوص أن قم تعتبر دار السكنى التي ينبغي اتخاذها في آخر، ففي الخبر عن أبي الحسن الأول(ع) قال: قم عش آل محمد، ومأوى شيعتهم[15]. والتعبير المذكور وإن كان مطلقاً، إلا أنه بملاحظة بقية النصوص الأخرى قد يستظهر أن المقصود بكونها مأوى الشيعة في آخر الزمان عندما تنتشر الفتن، فتأمل.

ومنها: ما روي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميـين، ومستراح المؤمنين، وسيأتي زمان ينفر أولياؤنا ومحبونا عنا ويبعدون منا، وذلك مصلحة لهم لكيلا يعرفوا بولايتنا، ويحقنوا بذلك دماءهم وأموالهم، وما أراد أحد بقم وأهله سوءاً إلا أذله الله وأبعده من رحمته[16]. ودلالته واضحة في كونه المكان الذي يلجأ إليه عند حلول المحن والمصائب، والمكان الذي يقصد حال وقوع البليات والنوائب، نعم يكون ذلك كما هو واضح من الذيل في زمان من الأزمنة، وهو بهذا يشير إلى الزمان الذي تنتشر فيه الفتن، ويكون فيه القابض عليه دينه كالقابض على الجمر.

ومنها: ما روي عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا(ع) أنه قال: إذا عمت البلدان الفتن، فعليكم بقم وحواليها، فإن البلاء مرفوع عنها[17]. وهو أوضح النصوص دلالة في المطلوب، لكونه نصاً في المطلوب.

ولم يتضح السبب في كونها دار سكنى في آخر الزمان عند انتشار الفتن، لعدم تضمن النصوص شيئاً حول ذلك، فإنها خالية من الإشارة لذلك كما سمعت. نعم يحتمل في المقام أمران:

الأول: أن تكون النصوص مشيرة إلى قضية تكوينية، وهذا يظهر من بعض النصوص المذكورة، بحيث يحكم بأن الوضع الجغرافي مثلاً يساعد على أن تكون ملجأ يقصد من قبل المؤمنين حتى يتسنى لهم الاحتماء بها، والاختفاء فيها من الأعداء الذين سوف يلاحقن الشيعة ليقضوا عليهم. كما يحتمل أن ذلك يعود لكونها تمثل معقلاً لمحبي أهل البيت(ع)، فيلوذ بعضهم ببعض، ليقووا ببعضهم على أعداءهم، ويحتموا بهم.

الثاني: أن تكون النصوص مشيرة إلى قضية تشريعية، وهذا نظير ما ورد في جعل البيت الحرام زاده الله عزة وشرفاً آمناً، وأماناً لكل من دخله، وهذا الاحتمال يظهر من جملة من النصوص، فلاحظ مثلاً ما ورد عنهم(ع): لولا القميون لضاع الدين.

والجزم بأحد المحتملين دون الآخر فيه صعوبة، وإن كان البناء على الثاني أوضح منه على الأول، ولعل أغلب النصوص تساعد عليه، فتأمل جيداً.

[1] بحار الأنوار ج 57 كتاب السماء والعالم باب الممدوح من البلدان والمذموم منها وغرائبها ح 24 ص 213.

[2] سورة هود الآية رقم 144.

[3] تفسير نور الثقلين ج 3 تفسير سورة هود الآية رقم 44 ح 118 ص 283-284.

[4] المصدر السابق ح 124-123.

[5] المصدر السابق ح 119.

[6] المصدر السابق ح 48 ص 218.

[7] المصدر السابق ح 38 ص 216.

[8] المصدر السابق ح 46 ص 217.

[9] المصدر السابق ح 31 ص 214.

[10] المصدر السابق ح 32 ص 214-215.

[11] المصدر السابق ح  33 ص 215.

[12] المصدر السابق ح 34 ص 215.

[13] المصدر السابق ح 49 ص 218.

[14] قد تعرضت لهذا المطلب بصورة مفصلة في شرح الخطبة النبوية في استقبال شهر رمضان المبارك.

[15] بحار الأنوار ج 57 كتاب السماء والعالم ح 31 ص 214.

[16] المصدر السابق ح 32 ص 214-215.

[17] المصدر السابق ح 44 ص 217.