28 مارس,2024

تقيــــــيم الصحابة

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن* لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعفُ عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)[1].

دائماً ما يوجه للشيعة اتهام سب الصحابة، وقد يتعدى البعض ليلتـزم بشيء أعلى فيدعي أنهم يكفروهم، ويخصون تكفير أشخاص محددين بأسمائهم، فهل لهذه الدعوى مصداقية وواقعية أم لا؟.

ولا بأس قبل الحديث عن ذلك نعمد إلى ذكر شيء مما ورد في تفسير الآية التي افتتحنا بها المقام، كمقدمة لحديثنا إن شاء الله تعالى.
جاء في غير واحد من كتب التفسير لدى الفريقين، أن هاتين الآيتين نزلتا عند رجوع النبي الأكرم محمد(ص) من غزوة تبوك عند العقبة، وأنها نزلت في اثني عشر رجلاً  أو خمسة عشر رجلاً-على الخلاف فيهم-وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله(ص)،  فأرادوا أن يقطعوا أنساع راحلته، ثم ينخسوا به، فأخبر الله سبحانه عن طريق جبرئيل رسول الله(ص) بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم، وقد كان عمار هو المتولي لقيادة ناقة رسول الله(ص) والسائق لها هو حذيفة، وقد قال رسول الله(ص) لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم، فقال رسول الله(ص): إنه فلان وفلان، حتى عدّهم كلهم. فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟! فقال رسول الله(ص): أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

وقد روي قريب من هذا المعنى عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع)، إلا أنه تضمن توافقهم على أمر وهو أنه لو حصل وظفر بهم النبي(ص) فسوف يكذبون عليه، فيقولون: إنا كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن يقتلونه. وقد ذكر(ع) أنهم كانوا ثمانية من قريش، وأربعة من العرب[2].

ولما تضمنته سورة التوبة من شرح لأحوال المنافقين وحديث عنهم، فقد ورد عن ابن عباس ذكر عدة أسماء لها كلها تصب في فضح المنافقين وإزالة الستار عنهم، وتعريف المجتمع الإسلامي بهم، فمن تلك الأسماء، تسميتها بالفاضحة، لما تضمنته من فضح للمنافقين، حتى ظن المسلمون أنه لن يبقى أحد منهم إلا وسوف تبينه وتفضحه، كما أنها تسمى أيضاً المبعثرة، لما جاء فيها من بعثرة لأسرارهم، وتسمى أيضاً البحوث، لبحثها عن أسرار المنافقين، والمدمدمة أي المهلكة، والحافرة، لأنها حفرت قلوبهم، والمثيرة، لكونها قد أثارت مخازيهم وقبائحهم.

وواحدة من الصور التي عمدت سورة التوبة إلى فضيحة المنافقين فيها وإظهار خزيهم مؤامرتهم التي أرادوا فيها الفتك بالرسول الأكرم محمد(ص)، وتآمرهم على إزهاق نفسه الشريفة.

فوائد من سبب النـزول:

هذا وتوجد عدة فوائد تستجلى من سبب النـزول الذي أشير له في كلمات المفسرين:

منها: إن أول ما يستفاد من سبب النـزول المذكور للآيتين الشريفتين أن المتآمرين على رسول الله(ص) والعازمين على الفتك به كانوا جماعة من الصحابة، بل الظاهر أنهم كانوا من أقرب الصحابة له(ص)، ويشهد لكونهم كذلك الحوار الذي دار بين رسول الله(ص)، وبين حذيفة، فقد سمعت في ما تقدم، أن حذيفة طلب من رسول الله(ص) بعدما أخبره أن يقوم بقتلهم، وقد كان جواب رسول الله(ص) له: أكره أن تقول العرب لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم. فإن قوله(ص): بأصحابه، يشير إلى ما ذكرنا، فلاحظ.

ومنها: عدم تضمن شيء من النصوص التي تضمنت ذكر الواقعة المذكورة ذكر أسماء الأشخاص الذين قاموا بهذه المؤامرة الدنيئة ضده(ص)، بل الموجود في النصوص الحاكية لها التعبير بـــ(فلان، وفلان) وهذا يثير تساؤلاً مهماً، فإنهم لو لم يكونوا من أقرب الصحابة لرسول الله(ص)، لصُرح باسمهم كما هو ديدن النصوص في التعاطي مع المنافقين، إذ صرحت في غير مورد باسم عبد الله بن أبي سلول وصحبه، فلماذا لا نجد تصريحاً بأسماء أصحاب هذه المؤامرة، ولماذا يتحاشى من ذكر أسمائهم، ويتستر عليهم، وما هو السر الموجب لذلك؟!

ومنها: ما ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع)، من أن ثمانية من المتآمرين من قريش، وأربعة من العرب، ولم يعهد في كتب التأريخ النص على أن بين القرشيـين الذين أسلموا من عُرف بالنفاق، وصرح باسمه، مما يعني أن هؤلاء كانوا متخفين ومتسترين برداء الإسلام، وليسوا بمسلمين، فلاحظ[3].

هذا ويمكن للمتأمل في النصوص المتعرضة لحادثة العقبة، أن يستخرج أموراً أخرى غير ما ذكرنا، على أن قراءتها قراءة فاحصة مدعاة لإثارة جملة من التساؤلات، يأتي في مقدمتها، أين كان من عدّ أقرب الناس لرسول الله(ص)ـ وأحب إلى قلبه-بحسب دعوى أبناء العامة-عن مرافقة رسول الله(ص) في هكذا موقف، فأين صاحبه في الغار، وأين الفاروق، وأين خالد بن الوليد، وأين عبد الرحمن بن عوف، وأين أبو عبيدة، هل كانوا في أعلى الجبل ملثمين، أم كانوا في مكان آخر، إذ نجد التأريخ يتحدث عن رفقة سلمان له(ص) مع عمار وحذيفة، ويحدّث عن أبي ذر وكيف كان يسير راجلاً لا راحلة له، فيتأخر تارة عن الركب، ويلحق به أخرى، لكنه لا يقدم جواباً عمن ذكرنا، ولا يعطي بياناً عن مكان تواجدهم، ولا أقل بعضهم!.

وبالجملة، إن معرفة سبب نزول الآيتين الشريفتين يعطي تصوراً أولياً عن واقع الصحابة المعاصرين لرسول الله(ص)، وبالتالي يوجب أن يقدم المسلمون على تقيـيمهم، ولا ينبغي أن تكون النظرة إليهم جميعاً بصورة واحدة، وبميزان واحد، فإن الحادثة التي أشرنا إليها تكشف عن عدم صحة ذلك.
ولا يتصور أحد أن عملية التقيـيم للصحابة تعني سباً لهم، أو نسبة الكفر إليهم، فإن ذلك خطئ محض، لأن التقيـيم في حقيقته نحو من أنحاء النقد، ومن المعلوم أن النقد يعني دراسة حالة معينة، أو جانب خاص، أو كلي من سيرة شخص من الأشخاص بصورة موضوعية، فيتعرف على ما له من مآثر وكرامات وفضائل ومحاسن، كما يعرف ما أقدم عليه من مثالب، وما أقترفه من خطايا ومعاصي وذنوب، وبالتالي يقيّم ويُوضع في محله المناسب.

تقيــــــــــــــــــــــيم الصحابة وفقاً للمصدر الشرعي:

وما دام القرآن الكريم في غير واحدة من آياته، عمد إلى كشف جملة من الحقائق حول أصحاب رسول الله(ص) كما أن النصوص الصادرة عن النبي الأكرم(ص) تضمنت شرحاً لحال جملة منهم، وما سوف يقومون به بعد رحلته(ص) عن عالم الدنيا، فقد جاء في البخاري في كتاب الفتن عن أبي وائل قال: قال عبد الله: قال النبي(ص): أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن معي رجال منكم، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب! أصحابي؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك[4]. وفي رواية أخرى فيه أيضاً عن سهل بن سعد ذكر في ذيلها قوله(ص): سحقاً سحقاً[5]. فإن ذلك يستدعي العمد إلى تقيــــيمهم، خصوصاً وقد عرفنا أن هناك فرقاً واضحاً بيناً بين السب وبين التقيـيم، وأن الثاني منهما إيجابي وله آثار عملية كثيرة.

هذا وأول ما ينبغي الإشارة إليه هو نظرة المسلمين، لأصحاب رسول الله(ص)، إذ توجد رؤيتان في هذا المضمار.

الأولى: هي نظرية عدالة الصحابة مطلقاً، فلا حاجة إلى تقيــيمهم، فضلاً عن دراسة أحوالهم، وهذه نظرية أبناء العامة.
الثانية: نظرية مدرسة أهل البيت(ع)، وأتباعهم، والتي تقوم على أن العصمة مختصة بخصوص من عصمه الله سبحانه وتعالى، فكل من لم يكن معصوماً، فهو خاضع للتقيـيم والنقد ودراسة سلوكه وأحواله للتعرف على حسن سيرته وسريرته، من خبثها وسوءها.
وبالجملة، إن هذه الرؤية تقوم على أن الصحابة بشر كغيرهم، ليسوا بمعصومين، فيهم المسلم والمنافق والمؤلف قلبه، وفقاً لآيات القرآن الكريم، والنصوص الشريفة، والشواهد التاريخية.

تحليل النظرية الأولى:

هذا ولكي يتسنى لنا معرفة صحة النظرية الأولى من سقمها نحتاج إلى تحليلها، فهنا أمور:

الأول: تحديد المقصود من العدالة التي يوصف بها الصحابة:

أو بعضهم، إذ لذلك أكبر الأثر في انجلاء الحقيقة ووضوح المعنى، لأنه لو لم يعمد لتحديد المقصود من ذلك فسوف يبقى العنوان فضفاضاً عائماً، لا تعرف حدوده. وعلى أي حال، فإن المستفاد من كلمات غير واحد من الباحثين أن المقصود منها عندهم، معنى يساوق العصمة التي يقررها الشيعة الإمامية في أئمتهم(ع)، والصديقة الطاهرة فاطمة(ع)، ومن قبلهم النبي الأكرم محمد(ص)، وبقية الأنبياء والمرسلين، فهم يستعملونها بمعنى يمنع من إمكان صدور الخطأ أو المعصية منهم. مع أنهم يحددون دائرة عصمة الأنبياء(ع) في حدود تبليغ الدين والأحكام فقط، فلا عصمة لهم في الأمور والموضوعات الخارجية، فضلاً عن تطبيق الأحكام خارجاً. نعم خلت كلمات غير واحد من باحثيهم عن بيان حقيقة العدالة المقصودة للصحابة، لكن يقرأ من بين السطور عندهم ما أشرنا له، فلاحظ.

الثاني: تحديد الصحابة المراد إثبات عدالتهم:

ولا يقل هذا الأمر عن سابقه من حيث الأهمية، فهل المقصود من الصحابة في هذه الدعوى خصوص من اتفق على بيعة أبي بكر، وكان هواه ورأيه على ذلك، أم أن دائرة الصحابة شاملة حتى لمن كان مخالفاً لبيعته، ولم يبايعه إلى نهاية المطاف، ويكون المقصود كل من أدرك رسول الله(ص) وآمن، أو حدث عنه، أو نصره وآزره وبقي معه مدة طويلة، كما يذكر في تعريف الصحابي في كلماتهم؟ وبكلمة: هل دائرة البحث واقعة في الصحبة والصحابة فتتسع، أم أنها تدور في شرعية بيعة السقيفة، ليكون الحديث منصباً في خصوص الثلة التي أعدت لبيعة السقيفة، أو خصوص الثلاثة أو الأربعة من الخلفاء، فتكون ضيقة محصورة في أفراد خاصين؟

إن الذي يظهر من كلمات غير واحد، كون الدائرة تبدأ من خصوص الثلاثة، وما يكون من توسع بعد ذلك بنحو التبعية لهم، فالأصل هو ملاحظة الثلاثة، ليس إلا.

الثالث: موجب الحديث عن عدالة الصحابة:

ومن المعلوم أن الداعي للبحث عن عدالتهم، هو البناء على حجية ما يصدر عنهم من أفعال، لا من باب كاشفية ذلك عن قول النبي(ص)، أو فعله، أو إقراره، بل من باب حجية قول الصحابي وحجية فعله، وحجية إقراره، لكونه مصداقاً من مصاديق السنة، فيكون له الحق في الاجتهاد، فيخصص العموم القرآني، والعموم النبوي، وهكذا[6].

ويشهد لهذا المعنى ما رووه في كتبهم من تعليل حجية خصوص الشيخين بالحديث المنسوب للنبي(ص): اقتدوا باللذين من بعدي، أبي بكر وعمر[7]. وكذا: لو كان نبي بعدي لكان عمر. فإن هذا يؤكد ما ذكرنا من جعل الحجية لما يصدر منهم، ولو كان مقابل القرآن الكريم والسنة الشريفة، وأنهم مصدر من مصادر التشريع الإسلامي[8].

ولما كان الأمر كما ذكر واجه القوم مشكلة عدم قبول أمير المؤمنين(ع) بالعمل بسنة الشيخين يوم جاء عبد الرحمن بن عوف وطلب منه البيعة على أن يسير بسيرتهما، وقد خرجوا عن ذلك بدعوى أن علياً لم يكن رافضاً العمل وفق سيرة الشيخين، وإنما كان علي يريد تعليم الأمة أن المجتهد لا يجوز له أن يعمل برأي مجتهد آخر، فالشيخان لما كانا مجتهدين، وعلي أيضاً كذلك، فلكل واحد منهم اجتهاده يعمل على وفقه.

ولا يخفى أن النصوص المستدل بها لإثبات شرعية قول الصحابي وفعله، غير صالحة للدلالة على ما يرام الاستدلال له، إذ يكفي لصحة ما ندعيه عدم استدلال أصحاب السقيفة بها يوم السقيفة، فلو كانت هذه النصوص صادرة من النبي(ص)، وقد سمعها المسلمون عنه، ورووها لأحتج بها القوم في ذلك الموقف. كما كان ينبغي أن يحتج بها عبد الرحمن بن عوف على أمير المؤمنين(ع) عندما رفض السير بسيرة الشيخين، وهذا يؤكد وضعها، وكذبها على رسول الله(ص).
على أن هذه النصوص تنافي جملة وافرة من النصوص رووها عنه(ص)، كحديث العشرة المبشرين بالجنة، وكحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم، اهتديتم، وأضرابهما[9].

دراسة حال الصحابة:

والآن وقد اتضحت عندنا النظرية الأولى، ولا أقل أحطنا شيئاً ما بما تحويه وتنطوي عليه، فلنرى مدى واقعيتها ومصداقها خارجاً، فهل يصح القول بوصف الصحابة بمثل ما تضمنته هذه النظرية، ويلتـزم فيهم بما حوته وجاء فيها، أم لا؟
إن نظرة فاحصة في أروقة التأريخ والإطلاع على ما شجر بين الصحابة يعطي علماً يقينياً بعدم صحة النظرية المذكورة، بل يكشف أن الصحابة أنفسهم لا يعطون لأنفسهم، ما يعطيه أصحاب النظرية المذكورة لهم، وحتى يكون الأمر واضحاً نشير لبعض النماذج، ويمكن للقارئ العزيز الرجوع للمصادر التاريخية، فإنها ملئ بذلك.

نزاع الصحابة بعد رسول الله[10]:

وأول ما يلحظ في المقام هو النـزاع الذي وقع بين الصحابة بعد رحلة النبي الأكرم(ص)، إذ تنازع الصحابة في الخلافة بين قريش والأنصار، ثم بين قريش وبين أهل البيت(ع)، ووقع عندها الشتم والطعن، والهجاء، ونال كل طرف من الآخر، واتهمه. فهذا عمر يقول في شأن الصحابي سعد بن عبادة: قتل الله سعد بن عبادة[11]، أو اقتلوه قتله الله[12]. ويظهر حال ما وقع بين القرشيـين وبين البيت الهاشمي، من خلال خطبتي سيدتنا الزهراء(ع)، والأحاديث الصادرة من أمير المؤمنين(ع)، فأقرأ الخطبة الشقشقية، تجد ما ذكرنا.

موقف الصحابة من عثمان بن عفان:

ولا يختلف اثنان في ما جرى بين عثمان بن عفان لما ولي الخلافة، وبين ثلة غير قليلة من الصحابة، حتى مات عثمان، فقد عرف تاريخياً أن من أشد الطاعنين فيه والمؤلبين عليه، طلحة والزبير وعائشة، بل ورد أن طلحة منع من دفنه ثلاثة أيام، ولما استنجد أبناء عمومته حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم بأمير المؤمنين(ع) لدفنه، أقعد لهم طلحة في الطريق ناساً يرمونهم بالحجارة[13]. كما أنه هو الداعي إلى دفنه في مقابر اليهود. وقد كان مستتراً عن أعين الناس، يوم قتل عثمان متقنعاً بثوب يرمي دار عثمان بالسهام، وهو من حمل الثوار إلى دار بعض الأنصار وأصعدهم سطحها فتسوروا دار عثمان وقتلوه، كما روي.
وقد نقل اليعقوبي وغيره ما كان بين عائشة وعثمان من نفرة، وهي التي كانت تقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، وكانت تنادي أن جلباب رسول الله(ص) لم يبل بعد، وأبلى عثمان سنته. وقد ألبت هي وحفصة الناس عليه.

وقد ورد أن عثمان شتم سعداً لما صدر منه إنكار عليه، وقد كان ذلك بباب المسجد بعد فراغه من الصلاة، وقد انسل سعد فخرج من المسجد، فتبعه عثمان وشتمه.
وقد شتم عثمان عماراً، فقال له: يا ابن المتكاء، وهي كلمة تعاب بها المرأة، وقال له مرة أخرى: كذبت يا ابن سمية. وقد أمر به فضرب حتى غشي عليه، وفاتته صلوات، أو ضربه برجليه وهما في الخفين على……فأصابه الفتق، وغشي عليه[14].

وهذا عبد الرحمن بن عوف، مات وهو لا يكلم عثمان حتى وقد جاءه عائداً إياه في مرضه، كما أوصى ألا يصلي عليه بعد وفاته[15].
ولما دعى عثمان الناس إلى طعامه بعدما بنى داره، قال له عبد الرحمن بن عوف: يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ الله من بيعتك. فغضب عثمان وقال: أخرجه عني يا غلام، فأخرجوه وأمر الناس ألا يجالسوه[16]. وقد كان عثمان يتهم عبد الرحمن بالنفاق، ويعده من المنافقين.
وقصة عثمان مع أبي ذر مشهورة جداً، حتى أدى موقف أبي ذر الصارم منه إلى نفيه إلى الربذة وموته فيها.

موقف الصحابة من أمير المؤمنين الخليفة:

ولا أظن أننا بحاجة إلى الحديث في هذا الجانب، إذ يكفي للقارئ أن يقرأ واقعتي الجمل وصفين، ليرى من كان المناوءون لعلي(ع)، ومن كان خصمه، أهل الروم، أم أهل الفرس، أم من كان يعدّ في أصحاب رسول الله(ص)، فهذا طلحة والزبير يقودان جمل عائشة لتنبحها كلاب الحوأب التي حذرها رسول الله(ص) منها، وقال لها ألا تكون هي التي تنبحها الكلاب المذكورة، لتقع الفتنة بين المسلمين، ثم ليقوم معاوية ومعه ابن الداهية عمرو بن العاص، ومن باع حظه من الدنيا، لقتال علي في وقعة صفين، فيقتل عمار أحد عساكر جيش علي من قبل الفئة الباغية ويكون آخر طعامه من الدنيا شيء من اللبن كما أخبره بذلك رسول الله(ص).

وقد سنّ معاوية لعن أمير المؤمنين(ع) على المنابر، وكان يقنت في صلاته ومعه كثير من الصحابة بلعن علي(ع)، والحسنين(ع)، وابن عباس والأشتر(رض).
على أنه يمكن أن يجد القارئ نماذج أخرى تكشف عن واقع الصحابة كانت في حياة رسول الله(ص)، قد صدرت  من المعدودين في أصحابه، فتنفي ثبوت العدالة بالمعنى المقصود لهم، فعلى سبيل المثال للحصر، ليقرأ القارئ قصة الإفك وحديثها المشهور، وكيف نال الصحابة فيها من عرض رسول الله(ص)[17].
ومن لطيف ما يذكر في أعقاب هذه الحادثة أنه(ص) لما صعد المنبر، فقال: أيها الناس من يعذر ممن يؤذيني، فقام سعد بن معاذ في قصة مشهورة، وقعت على أثرها فتنة، واضطرب فيها الأوس والخزرج بالنعال والحجارة في مسجد رسول الله(ص) وتلاطموا.

ولما ذكرنا الحديث عن إيذاء رسول الله(ص) وهو حديث ذو شجون، إذ تعددت أساليبه، واختلفت صوره، وأتخذ وجوهاً عدة، فقد قال بعضهم: إنما مثل محمد كنخلة نبتت في كناس، ويقصد من الكناس الزبالة.
ويوم الحديــــبية لما صالح رسول الله(ص) قريشاً على أن يرجع إلى المدينة ويقضي عمرته في العام الثاني، قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذٍ[18].

وقد ورد أن سعد بن أبي وقاص حلف باللات والعزى بعد إسلامه، وأمره رسول الله(ص) أن يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم ينفث عن يساره ثلاثاً ويتعوذ ولا يعود[19].
وقصة لعن النبي(ص) المتخلفين عن جيش أسامة بن زيد معروفة مشهورة، بعدما تقاعس من تقاعس عن الخروج مع أمره(ص) لهم بذلك.
وآخر ما نذكره في بعض ما أوذي به(ص) يوم الرزية عندما حيل بين رسول الله(ص) وبين كتابة الكتاب، ووجه لرسول الله(ص) تهمة الهجر، فقال الرجل: إن النبي يهجر، قد غلب عليه الوجع[20].
ولنكتفي بهذا المقدار، مع أن المصادر التاريخية مليئة بأكثر مما ذكرنا ويمكن للقارئ العزيز الرجوع إليها[21].

تاريخية خلافة الرسول:

وما دمنا في صدد الحديث عن تقيـيم الصحابة، فمن الطبيعي أن ينجر الحديث لما شجر بينهم بعد رحلة رسول الله(ص) عن الدنيا، وتنازعهم  في أمر الخلافة بعده(ص)، وقد أشرنا لذلك في ما سبق، كما ينجر البحث إلى ما يقع بين المسلمين إلى اليوم من أنه(ص) هل استخلف أحداً بعده، وأقام هادياً للأمة وخليفة عليها بأمر من الله تعالى، وهو علي بن أبي طالب(ع) طبقاً لما صدر منه(ص) في غير موطن، كان آخرها يوم الغدير، بعد عودته من حجة الوداع، أم أنه ترك ذلك إلى الأمة هي التي تختار من تشاء، وتنصب لها من تريد؟

ونحن لسنا بصدد الحديث عن هذه المسألة، مع ما لها من أهمية بالغة جداً، فإن الحديث عنها يطول، ويحتاج بحثاً مستقلاً، ودراسة مستوفاة، إلا أن ما نود أن نشير إليه ما يتردد دائماً خصوصاً بين أبناء العامة عند الحديث عن مسألة الخلافة، من أن هذه قضية تاريخية قد أكل عليها الدهر وشرب، فلا حاجة للخوض فيها والبحث عنها، لما يوّرث ذلك من أحقاد وضغائن، تنافي الحاجة إلى وحدة الصف ووحدة الكلمة بين المسلمين.

وما ذكر من أن مسألة استخلاف أمير المؤمنين(ع) بعده(ص)، بل مسألة الخلافة قضية تاريخية، لا يمكننا إنكاره، إلا أن القول بحصر ذلك في هذه الناحية في غير محله، بل الصحيح أن مسألة الخلافة ذات بعدين، بعد تاريخي، وهو ما ذكر، وبعد عقدي ديني، فإن هناك آثاراً مهمة تترتب على مسألة الاستخلاف، إذ كلنا يعلم مدى حاجة الأمة إلى قيادة حكيمة تسوس أمرها، ومرجعية تلبي احتياجاتها في كافة المجالات، سواء في الجانب الديني، أم في غير ذلك، ومن الطبيعي أن القول بنصب علي بن أبي طالب(ع) خليفة بعده(ص) يعطي له المرجعية إلى يومنا هذا، فيرجع إليه في تفسير القرآن الكريم، وبيانه، كما يرجع إليه في كافة الأمور المستجدة التي لم يصدر فيها شيء عن رسول الله(ص)، ولم يرد فيها شيء في القرآن الكريم. ومنه يتضح أن المسألة أبعد من القضية التاريخية، بل والقضية السياسية المتمثلة في خلافة أمير المؤمنين(ع)، للأمة، بل اللحاظ هو لحاظ هداية الأمة والسير بها إلى بر الأمان لتصل إلى الجنة التي وعد الله بها المتقين من عباده، ولا ريب أن ذلك لن يكون إلا مع من عصمه الله تعالى، وورث علم رسول الله(ص)[22].

خاتمة:

ولنختم المطاف بسؤال يتردد دائماً، وهو: هل بايع أمير المؤمنين(ع) الأول أم لم يبايعه؟
ومع أن هذه قضية تاريخية، إلا أنا نجد أن أبناء العامة يستأسدون عند الحديث عن هذه المسألة ويقاتلون بشراسة من أجل إثبات وقوع البيعة منه(ع) للرجل الأول، مما يثير دهشة في داعيهم لذلك.

وترتفع هذه الدهشة عند الالتفات إلى الثمرة التي يرجونها من هذا البحث، فإنهم على يقين من إحاطة المسلمين كافة بما ورد في القرآن الكريم من فضائل أمير المؤمنين(ع)، وكذا ما صدر عن النبي الكريم(ص) في مواضع متعددة من بيان مناقب ومآثره(ع)، وهذا يعني أنه الميزان الفاصل بين الحق والباطل، وأن من خلاله يعرف الصواب، ويعرف الخطأ، فإذا ثبت عدم بيعة أمير المؤمنين(ع) للأول، كان ذلك موجباً لتساؤل خطير جداً: ما هو الداعي لامتناع علي بن أبي طالب، الذي هو مع الحق، والحق معه، يدور معه أينما دار، عن بيعته، لابد وأن يكون ذلك بسبب عدم شرعيتها، أو عدم موافقتها للشرع الشريف، أو مخالفتها لسنة رسول الله(ً)، وغير ذلك من الأسئلة التي تكثر في الأذهان حينئذٍ. فإذاً لابد من إثبات صدور البيعة من أمير المؤمنين(ع) له كي لا تأتي تلك الأسئلة في ذهن أحد أبداً.

وعلى أي حال، فلنعد للسؤال الذي جعلناه خاتمة مطافنا هذا، وهو عدم بيعة أمير المؤمنين للرجل الأول، أو وقوعها، فالذي عليه الشيعة الإمامية(أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم) نفي صدور البيعة التي تعني الطاعة والانقياد والامتثال للأوامر من أمير المؤمنين(ع) له، وأما ما جاء في كتب العامة، فإنها على قولين، إذ فيها من ينفي صدور البيعة منه(ع)، ومنهم من يثبت حصولها منه، مع أن المثبتين لحصولها يختلفون في وقتها، فمن قائل أنها كانت منه(ع) بعد وفاة رسول الله(ص) مباشرة، كما بايع بقية المسلمين، والأكثر منهم، بل المعروف بينهم أنه بايع بعد رحلة رسول الله(ص) عن الدنيا بستة أشهر، وبعد وفاة الصديقة الطاهرة فاطمة(ع)[23].

والحاصل، لا نجد اتفاقاً بينهم في حصول البيعة، فضلاً عن تحديدهم لوقت وقوعها على فرض صدورها، وهذا بنفسه يوجب تشكيكاً في ثبوتها، ومع ثبوتها، فإنه يستدعي تشكيكاً في شرعيتها بالمعنى المعهود والمعروف من البيعة.
وقد أوجب تأخر أمير المؤمنين(ع) عن البيعة الحاجة إلى تفسير ذلك، لأن هذا التأخير يتنافى وشرعيتها، لذا عمد غير واحد من علمائهم لتوجيه ذلك، بما لا يكون منافياً لشرعية البيعة، ومن ثمّ عدم القدح في أمير المؤمنين(ع).

وعلى أي حال، فإن المنقول في كيفية أخذ البيعة من أمير المؤمنين(ع) أنهم أخرجوه ملبباً وكادوا أن يقتلوه، فبلغ ذلك العباس بن عبد المطلب، فأقبل مسرعاً يهرول فسُمع يقول: أرفقوا بابن أخي ولكم عليّ أن يــــبايعكم، فأقبل العباس وأخذ بيد(ع)، فمسحها على يد أبي بكر، ثم خلوه مغضباً.
والمستفاد من هذا الخبر أنه لم يبايع(ع)، فإن التعبير بمسحها شاهد على ذلك، بل أخذت يده ومسحت، كما هو واضح.

[1] سورة التوبة الآيتان رقم 65-66.
[2] مجمع البيان ج 5 ص 70-78. الكشاف ج 2 ص 291.التفسير الكبير ج 16 ص 136-138. الدر المنثور ج 3 ص 259-260.
[3] مجلة تراثنا العدد 68 ص 55(بتصرف).
[4] صحيح البخاري ج 8 ص 214.
[5] المصدر السابق ص 216.
[6] هذا بحث تخصصي، ينبغي أن يكون الحديث عنه لأهل التخصص، لذا نكتفي بما ذكرنا، وليطلبه راغبوه من البحوث التخصصية.
[7] لاحظ سنن الترمذي، ومسند أحمد بن حنبل، وابن ماجة في المقدمة.
[8] مجلة تراثنا العدد 57 ص 50-51(بشيء من التصرف).
[9] المصدر السابق ص 59-64(بتصرف).
[10] ليس هذا هو أول ما وقع بينهم من نزاع، بل في التاريخ موارد كثيرة وقع فيها النزاع بينهم في حياة رسول الله(ص)، وأنه في غير مرة كادت أن تقع الفتنة ويرتد الناس، فيتدخل النبي(ص)، فيعالج الأمر، لكننا عمدنا إلى البدء من هذه المرحلة لبيان عدم عصمة الصحابة، وعدم العدالة المطلقة لهم، فلا حجية لما يصدر منهم بعد النبي(ص)، فلاحظ.
[11] صحيح البخاري باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت كتاب المحاربين من أهل الكفر ج 6 ص 2506.
[12] تاريخ الطبري ج 2 ص 244، ما جرى بن المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفة بني ساعدة.
[13] شرح نهج البلاغة ج 10 ص 6-7 في ذكر ما كان من أمر طلحة مع عثمان.
[14] أنساب الأشراف في أمر عمار بن ياسر العنسي(رض) ج 5 ص 48-49.
[15] المصدر السابق قول عبد الرحمن بن عوف في عثمان ص 57.
[16] شرح نهج البلاغة ج 1 ص 196.
[17] وشتان بين ما تذكره مصادر القوم، وبين ما جاء في مصادر مدرسة أهل البيت(ع)ن وكيف أن مصادرنا تنـزه رسول الله(ص) وعرضه من كل تهمة سوء، وكيف ينسب غيرنا له(ص) ولزوجه ما لا ينبغي، ولكن إلى الله المشتكى.
[18] صحيح البخاري باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط ج 2 ص 977. صحيح ابن حبان باب الموادعة والمهادنة ج 11 ص 224-225.
[19] صحيح مسلم ج 3 ص 1267. مسند أحمد ج 1 ص 183-186. سنن ابن ماجة ج 1 ص 678.
[20] صحيح مسلم كتاب الوصية: باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه ج 3 ص 1259.
[21] ونحيل القارئ إلى كتاب في رحاب العقيدة لآية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم(حفظه الله) ج 1 ص 40 وما بعدها، فقد نقل الكثير من ذلك.
[22] الإلهيات ج 2 ص 606.
[23] لأن المشهور عند القوم أنها(ع) عاشت بعد أبيها ستة أشهر.