29 مارس,2024

بلوغ الذكر بالسن (3)

اطبع المقالة اطبع المقالة

أما القول الثاني: فيستدل له بعدة نصوص:

1-ما رواه أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر (ع) قال: قلت له: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة وأربع عشرة. قلت: فإن لم يحتلم فيها، قال: وإن كان لم يحتلم فإن الأحكام تجري عليه[1].

ودلالتها على المدعى واضحة، لأنه(ع) ركز على السن بما هو سن، وأنه تجري عليه الأحكام إذا أتم الثلاث عشر ودخل في الرابعة عشر.

2-معتبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: سأله أبي وأنا حاضر عن قول الله عزّ وجل:- (حتى إذا بلغ أشده)قال: الاحتلام. قال: فقال: يحتلم في ست عشرة وسبع عشرة سنة ونحوها؟ فقال: لا إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنان وكتبت عليه السيئات وجاز أمره إلا أن يكون سفيهاً أو ضعيفاً[2].

وتقريب دلالته على المدعى، أنه(ع) بصدد بيان الأمارات المحققة للبلوغ، وقد أشار السائل إلى أنه، ربما تأخر الاحتلام، بحيث يصل الشخص مرحلة من العمر ولم يحتلم. فقال(ع) بأنه إذا بلغ الثالثة عشر من عمره، فقد كلف وجرى عليه قلم التكليف حتى لو لم يحتلم بعد.

3-معتبرة عبد الله بن سنان الآخر عن أبي عبد الله(ع) قال: إذا بلغ أشده ثلاث عشرة سنة ودخل في الأربع عشرة، وجب عليه ما وجب على المحتلمين، احتلم أو لم يحتلم، وكتبت عليه السيئات، وكتبت له الحسنات وجاز له كل شيء إلا أن يكون ضعيفاً أو سفيهاً[3].

ودلالتها على المدعى واضحة، فلا تحتاج بياناً، وفي سندها الحسن بن بنت إلياس وهو الحسن بن علي بن زياد الوشاء الثقة.

4-خبر عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت عليه السيئة. وعوقب، وإذا بلغت الجارية تسع سنين كذلك، وذلك أنها تحيض لتسع سنين[4].

وقد يناقش في سندها لاشتماله على آدم بياع اللؤلؤ، وهو ممن لم يوثق.

وقد عالجه بعض الأساتذة من خلال البناء على وثاقته، لكونه آدم بن المتوكل، وقد نص النجاشي على وثاقته[5].

ولا يخفى أن كلامه(حفظه الله) ينحل إلى دعويـين:

الأولى: اتحاد آدم بياع اللؤلؤ، مع آدم بن المتوكل. ويشهد لهذا الاتحاد أن النجاشي لم يعنون أثنين، وإنما عنون شخصاً واحداً.

الثانية: لقد نص النجاشي على وثاقة آدم بن المتوكل، الذي عرفت أنه بياع اللؤلؤ، وقد يسمى باللؤلؤي أيضاً، فيثبت المطلوب حينئذٍ.

ولكن في كلا الدعويـين مجالاً للتأمل، أما الأولى: فقد نص الشيخ في الفهرست على أنهما اثنان، وعنون كل واحد منهما في الفهرست مستقلاً عن الآخر.

لكن هذا يمكن علاجه من خلال أن الشيخ نفسه في كتابه الرجال، لم يعنون إلا واحداً، وعليه يكون هذا نوع تراجع منه عما جاء في الفهرست. وأيضاً عرّض به النجاشي في فهرسته وهو متأخر تصنيفاً عن الشيخ في عدهما أثنين، ولذا اقتصر هو على أنهما واحد فقط.

وأما الثانية: فإن البناء على توثيقه بعد ثبوت اتحادهما يعتمد على ما جاء في ترجمة آدم بن المتوكل ، حيث عنونه النجاشي وقال عنه: أبو الحسين بياع اللؤلؤ، كوفي ثقة، روى عن أبي عبد الله(ع)…الخ….

وواضح من هذا الكلام نص النجاشي وهو صاحب القول المعتمد من الرجاليـين الخبير بهذا الفن وأهله، على وثاقته.

إلا أن الإشكال يكمن في كلام ابن داود، والعلامة(ره) فقد نص ابن داود(ره) على كونه مهملاً، وهو أحد الوسائط التي وصل كتاب النجاشي من خلالها إلينا. وكذا العلامة(قده) فإنه لم يعنونه في كتابه الخلاصة.

خصوصاً وأن المعروف بين الرجاليـين أن نسخة النجاشي وصلت صحيحة إلى ابن طاووس والعلامة وابن داود، ولذا ذكروا أنه ما لم يصدقوه، فلا عبرة به.

وهذا يعني عدم إمكانية القبول بوثاقته، وقد عرفت حال من هم العمدة في وصول النسخة الصحيحة لنا من كتاب النجاشي.

هذا وقد يؤيد ما ذكرنا بل يشهد له، ما أشار له بعض الأجلاء(قده) في كتابه من أنه ظفر بنسخة مصححة من كتاب الفهرست للنجاشي، وقد ضرب على كلمة ثقة الخط.

فالنـتيجة المحصلة من بعد هذا كله، أنه لا يمكننا البناء على وثاقته، خصوصاً على ما سلكناه في وجه حجية قول الرجالي، من أنه خبر الثقة في الموضوعات إذا أفاد وثوقاً واطمئناناً، وكيف يحصل للفقيه وثوق واطمئنان، بمثل هذا بعد كل هذا.

والحاصل، فعليه سوف تكون الرواية ضعيفة سنداً، لوجود آدم بن المتوكل اللؤلؤي، فإنه مهمل.

5-موثقة عمار الساباطي عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن الغلام متى تجب عليه الصلاة؟… قال: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإن احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم، والجارية مثل ذلك إن أتى لها ثلاث عشرة سنة أو حاضت قبل ذلك، فقد وجبت عليها الصلاة وجرى عليها القلم[6].

ودلالة الموثق على المدعى كسوابقه من النصوص، واشتماله على بلوغ الأنثى بالثلاث عشر، لو لم يقبل لا يضر بحجيته لإمكان التفكيك بين الفقرات فتأمل.

لكن أشكل على دلالته بعض الأعلام المعاصرين(حفظه الله): بأنه وارد في خصوص الصلاة، ويؤيد ذلك ذكر جريان القلم في الاحتلام دون السن، فلا دلالة له على البلوغ[7].

وفيه: إن الصلاة أحد التكاليف الإلزامية المجعولة على المكلف، وذكرها في السؤال، لا يستدعي خصوصية لها، خصوصاً بملاحظة منشأ السؤال، الذي هو عبارة عن الإلزام، وهذا يعني أن السؤال في حقيقته ولبه، إنما هو عن متى يلزم المكلف ليجب عليه الامتـثال، ومن الواضح أن هذا سؤال عن البلوغ كما لا يخفى.

وأما المؤيد المذكور فعجيب جداً، حيث أن ظاهر النص هو جريان القلم لتحقق الداعي لجريانه من خلال الاحتلام، لا أنه جرى فيه دون غيره.

فتحصل إلى هنا تمامية هذا القول بعد تمامية ما دل عليه من النصوص، وخلو المورد عن ما يصلح للمعارضة، ذلك أن المعارضة فرع الحجية، وقد عرفت أن ما تمسك به المشهور ضعيف سنداً فلا يصلح لمعارضة هذه النصوص.

هذا ومع التسليم بكون ما دل على قول المشهور معتبراً سنداً. فعندها تحصل المعارضة بينه وبين ما دل على قول ابن الجنيد، وقد ذكرت في المقام عدة جموع دلالية، كجمع عرفي لرفع التعارض:

منها: ما صنعه الشيخ الطوسي(ره) من حمل النصوص الدالة على بلوغه بالثلاث عشر كالحديث الذي رواه أبو حمزة الثمالي على غير السن من العلامات، كالإنبات أو الشعر، وتبقى النصوص الأخرى هي المتعرضة للسن الذي هو الخمسة عشر[8].

ويلاحظ عليه: بأن هذا خلاف الظاهر جداً، حيث أن مفاد ما رواه أبو حمزة هو تركيز الإمام(ع) على السن بما هو سن، دونما علاقة له بغيره من العلامات.

ومنها: ما ذكره الفقيه البحراني(قده) من التفصيل في النصوص بحمل ما دل على البلوغ بخمس عشرة سنة على الحدود والمعاملات كما هو مقتضى سياق رواية حمران الدالة على أن حد البلوغ هو الخمس عشرة سنة، وحمل ما دل على ما دون ذلك على العبادات[9].

أقول: لا يخفى أن هذا ليس جمعاً عرفياً، وإنما هو عمل بمقتضى النصين كما هو واضح وكيف كان، فيلاحظ عليه: بأن هذا الجمع المدعى لا يتم، حيث أن صحيح عبد الله بن سنان، وارد في المعاملات، لأن السائل سأل الإمام(ع) عن معنى بلوغ الأشد، وقد فسره(ع)، بالسن المذكورة، وقد وردت لفظة الأشد المسؤول عنها في باب الأموال، قال تعالى:- (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يـبلغ أشده)[10].

ومنها: ما ذكره المحقق البحراني(ره) أيضاً، من حمل الاختلاف الوارد في هذه النصوص على اختلاف الناس في الفهم والذكاء وقوة العقل وقوة البدن، ويشهد لهذا التعبير الوارد في خبر أبي حمزة مردداً بين ثلاث عشر وأربع عشر، ومثل ذلك ما جاء في صحيح معاوية بن وهب من الترديد بين خمس عشرة وأربع عشرة، وتراها أيضاً قد اختلفت في الاحتلام، فيظهر من موثقة عبد الله بن سنان أن الاحتلام في ست عشرة وسبع عشرة ونحوهما، بينما ظاهر رواية عيسى بن يزيد إنه يحتلم لأربع عشرة، وظاهر موثقة عمار إنه يحتلم قبل ثلاث عشرة[11].

نعم قال(قده) في نهاية كلامه، إنه لا يـبعد كون هذا مرده لما في غير مورد من التهافت الحاصل بين النصوص، واشتمال بعضها على بعض الغرائب كبلوغ الجارية بثلاث عشرة سنة، مع أن النصوص المستفيضة واتفاق العلماء على بلوغها بتسع سنين أو عشر.

ويلاحظ عليه: إن ما ذكره يصح لو كان الدليل على البلوغ هو الاحتلام، ونبات الشعر الخشن على منطقة العانة، إذ إنهما يخـتلفان حسب اختلاف الأمزجة.

إنما الكلام في انسجام ما ذكره(ره) مع القول بأن للبلوغ وراء الاحتلام والإنبات دليلاً آخر وهو السن، وقد اضطربت الروايات فيه، بين خمس عشرة سنة إلى ثلاث عشرة، فتفسير الاختلاف بينها بالاختلاف في الأمزجة، يوجب الفوضى في المجتمع، فنرى من يصلي ويصوم في ثلاث عشر، بدعوى أنه قوي البنية، ويطيق ذلك، ومن تارك للصلاة والصوم مدعياً ضعف بنيته وعدم طاقته على ذلك.

فتحصل إلى هنا أنه لم يوجد جمع عرفي يمكن من خلاله التوفيق بين النصوص المتعارضة، وعندها لا محيص عن اللجوء لإعمال مقتضى قواعد التعارض، وقد ذكر المحقق الفقيه البحراني(قده) إنه من المحتمل تخريج النصوص المعارضة لما عليه المشهور على التقية، وإن كان لم يحضرني مذهبهم في هذه المسألة[12].

أقول: لم يعرف عن أحد من العامة القول ببلوغ الذكر بإكماله ثلاث عشرة سنة، نعم قال الشافعي وجماعة بأن سن بلوغه هو الخمس عشرة سنة، فلو اعتبر هذا مدعاة للتقديم لقدمنا النص المخالف للمشهور فلاحظ.

وقد رجح بعض الأعلام المعاصرين (حفظه الله) النصوص الموافقة لقول المشهور، استناداً منه للترجيح بالشهرة التي هي أول المرجحات الواردة في المقبولة[13].

أقول: ذكرنا في تعارض الأدلة، إمكانية التميـيز بالشهرة، لكن ما ينبغي البحث عنه، إنه ما هي الشهرة التي تعدّ مميزة، هل هي الشهرة الفتوائية أم أنها الشهرة الروائية؟…

من الواضح أنه لو كان المراد هو الشهرة الروائية كما هو الصحيح، فإن النصوص الدالة على المشهور ليست مشهورة بهذا المقدار.

نعم لو كان مضمون المقبولة هو الشهرة الفتوائية لكان الترجيح لما دل على المشهور.

ومن المعلوم أنه لو لم يمكن ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى، لم يكن محيص عن التساقط، وعندها سيكون المرجع استصحاب بقاء الصغر، وعدم حصول البلوغ.

هذا ولو قيل: إن هذه النصوص معرض عنها من قبل الأصحاب، وبناء على إن إعراض المشهور عن الرواية الصحيحة السند كاسر لها، فتسقط هذه النصوص عن الحجية.

قلنا: أما الكبرى عندنا فمسلمة، وإنما الحديث في الصغرى، فهل في البين إعراض أو لا؟…

وقبل بيان ذلك نشير إلى مقدمة تنفع للمطلوب:

إن إعراض المشهور لا يخلو أن يكون منشأه أحد أمور أربعة:

1-ضعف رواة الحديث في نظرهم فلا يعتمد عليه.

2-وجود معارض أقوى من الحديث الصحيح قد ظفروا به كسيرة قطعية متصلة بعصر المعصوم، ولم يردع عنها أو إجماع شرعي معتبر لا توجد فيه شائبة الخدشة من قريب أو بعيد أو غيرهما.

3-حصول علم لديهم بكون الحديث صادراً تقية، وهذا ممكن لقربهم من عصر الصدور، مضافاً إلى خبرتهم بالروايات وألسنـتها أو لتضمنه ما يخالف أصول المذهب وقواعده أو موافقتة للعامة، أو غير ذلك.

4-عدم تمامية الدلالة في نظرهم، كأن يكون الخبر محتفاً بقرائن عرفية تمنع من انعقاد ظهور له، ولما كان الظهور أمراً عقلائياً، فهذا يمنع العقلاء من الاعتماد عليه.

هذا وإذا كان الإعراض ناشئاً من السبب الرابع، فالمعروف إنه إعراض صناعي فلا يؤثر في حجية الخبر.

لكن الصحيح إنه من أقوى الموارد الموجبة لرفع اليد عن الخبر، بل لعله المتعين لما عرفت من أنه يرجع لأصالة الظهور التي هي من الأمور العقلائية، ومع الإعراض لا ينعقد ظهور عقلائي.

وأما لو كان منشأه السبب الثالث فلا قيمة حينها للخبر، لكن للإعراض، وإنما لاختلال أصالة الجهة فيه لكونه صادراً بنحو التقية.

وإذا كان منشأه هو السبب الثاني، فإن ظفرنا بالمعارض وكان بالفعل أقوى فهو، وإلاّ لم يوجب ذلك سقوط الخبر، أما لو لم نظفر بالمعارض الذي يفترض وجوده، فعندها يرجع للمختار في خبر الواحد وعليه يقرر السقوط من عدمه.

وإن كان هو السبب الأول، فلا قيمة للخبر، لا بسبب الإعراض، بل لأنه ضعيف سنداً.

ومع عدم إمكان تميـيز منشأ الإعراض فيرجع للمختار في حجية خبر الواحد.

وعند تطبيق المقام على ما تقدم ذكره، فسوف نجد أنه من مصاديق السبب الثاني للإعراض، وذلك لوجود المعارض، وقد عرفت أنه إذا ظفر بالمعارض فعندها لا قيمة لدعوى الإعراض كما لا يخفى.

وعليه، لن يكون في المقام ما يوجب رفع اليد عن القول الثاني، لتمامية ما دل عليه وعدم تمامية ما عليه المشهور، فتدبر.

وأما القول الثالث، فيعرف وجهه من خلال النصوص التي تقدمت في الاستدلال للقول الثاني، والتي تضمنت الثلاثة عشر، وقد عرفت الكلام فيها، فلا نعيد.

[1] المصدر السابق ب 45 من أحكام الوصايا ح 3.

[2] المصدر السابق ب 44 من أحكام الوصايا ح 8.

[3] الوسائل ب 44 من أحكام الوصايا ح 11.

[4] المصدر السابق ح 12.

[5] مجلة فقه أهل البيت العدد الثالث ص 82.

[6] الوسائل ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 12.

[7] فقه الصادق ج 20 ص 109.

[8] التهذيب ج ص

[9] الحدائق ج 13 ص 185.

[10] سورة الأنعام آية رقم 152.

[11] الحدائق ج 13 ص 184-185.

[12] المصدر السابق.

[13] فقه الصادق ج 20 ص 109.