29 مارس,2024

المجرم والجريمة

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (وترى المجرمين يومئذٍ مقرنين في الأصفاد)[1].

مدخل:

تحدث القرآن الكريم في غير واحدة من آياته المباركة عن الإجرام والمجرمين، وقد كان حديثه عن المجرمين من خلال زوايا عديدة، فمرة كان الحديث حول السمات التي يعرف المجرمون من خلاها، ومرة كان الحديث حول العقاب الذي ينالهم، وثالثة كان الكلام عن رجالاتهم، وكذا تحدث عن أعمالهم، وحسراتهم، ومفارقاتهم، وصورهم، وغير ذلك.

ويستفاد من الآيات الشريفة أن المجرمين هم الذين ارتكبوا أعظم المعاصي من الكفر والفسق، أو الظلم والإثم، وليسوا خصوص مرتكبي صغائر الذنوب.

وعلى أي حال، فقد اشتملت الآيات الشريفة على الحديث حول مادة جرم من خلال التعبيرات التالية: الإجرام، أجرمنا، أجرموا، تجرمون، مجرمون، مجرميها.

لكنه لم يرد في أي آية من الآيات ذكر كلمة الجريمة، أعني اسم المصدر، لكن لا يـبعد اصطيادها من خلال الاشتقاقات التي وردت في المادة، وبالتالي البناء على دلالتها عليها.

وعلى أي حال، نحتاج أن نتعرف على مفهوم الجريمة حتى يتسنى لنا أن نعرف المجرم، وكذا ما هو المنشأ والأسباب الأساسية لحصول الجريمة.

تعريف الجريمة:

لن نتعرض لما ذكره اللغويون في بيان حقيقة الجريمة أثناء دراستهم لمادة(جرم)، ذلك لأنه يستدعي طولاً في البين، وإنما سوف نقصر البحث على خصوص بيان حقيقة الجريمة في القانون الوضعي، وبيان حقيقتها في القانون الشرعي.

أما في القانون الوضعي، فقد عرفت الجريمة: بأنها مخالفة بند من بنود القانون. والمخالف يسمى مجرماً.

ومعنى ذلك أن لكل مجتمع أو جماعة مجموعة من النظم والمقررات التي يتم التوافق عليها إما بالاختيار، أو بمقتضيات الحياة، فكل من خرج على هذه المقررات والنظم، يعدّ خارقاً للقانون، وخارجاً عنه، فيسمى مجرماً، ويسمى خروجه جريمة، مثلاً هناك جملة من المقررات التي وضعتها الدولة لحركة السير، وهي ما يصطلح عليه بقانون المرور، فالخروج على هذه المقررات يجعل الخارج مجرماً وفعله جريمة، وكذا القوانين التي تحفظ حق المواطن مثلاً، فإن الخروج عليها يعدّ خروجاً على القانون فالخارج عليها يكون مجرماً وفعله يسمى جريمة.

وفي القانون الشرعي، عرفت الجريمة: بأنها ارتكاب فعل منهي عنه، أو ترك فعل مأمور به.

فالسرقة منهي عنها، فلو أقدم شخص عليها يكون مجرماً مرتكباً لجريمة، لأنه قد ارتكب فعلاً منهياً عنه، والصلاة فعل مأمور به، فلو عمد الإنسان إلى تركها، يكون قد ترك فعلاً مأموراً فقد ارتكب جريمة، ويكون عندها مجرماً.

هذا ويلحظ القارئ مقدار ما بين التعريفين من التقاء، بل يمكن أن يجمعا في تعريف واحد، وهو: تعدي الحدود، إذ أن القانون الوضعي يعدّ حدوداً لا يسوغ تعديها، وكذا الأوامر والنواهي الشرعية تعدّ حدوداً لا يسوغ تعديها.

نعم إن التعريف الشرعي للجريمة أوسع دائرة من التعريف القانوني، ذلك لأن التعريف الشرعي للجريمة يشمل الأمور المعنوية، ولا ينحصر في خصوص الأمور المادية، وهذا بخلافه بالنسبة للقانون الوضعي، فإنه منحصر بالجانب المادي، ولكي يتضح هذا الأمر بصورة جلية، نعمد إلى ذكر بعض الفوارق بين الجريمة وفقاً للقانون الوضعي، والجريمة وفقاً للقانون الإسلامي.

الفرق بين الجريمة في القانونين:

سوف نقصر استعراض الفوارق على عرض ثلاثة منها:

الأول: إن القوانين الوضعية تحدد للجريمة عقوبات معينة ومحددة، سواء كانت بالسجن أم كانت بدفع غرامة مالية، وهذا بناءً على ظفر القانون بالمجرم، وإلا فليس من شيء يردعه، بينما الإسلام يجعل عقوبة المجرم الخزي في الدنيا والخسران في الآخر، فالسارق مثلاً لو ظفر به وهو يسرق فإنه سوف يعاقب بقطع يده، وإن لم يتم بعد قطع يده، سوف يكون له عقاب في الآخرة يوم القيامة. أما لو لم يظفر به في الدنيا فأفلت من عقاب الدنيا، لن يفلت من عقاب الآخرة.

الثاني: إن القانون الوضعي يضع العقوبات على الجرائم التي تسئ لمصالح المجتمع بشكل مباشر، كالسرقة والقتل، وعمل الفاحشة مثلاً، أما الأعمال التي لا تشتمل على إساءة بصورة مباشرة للمجتمع مثل الغيـبة والنميمة والكذب والبهتان مثلاً، فلا يعاقب عليها، ولذا لا يسمى الكذاب مجرماً. بينما القانون الإسلامي يرى أنه لا فرق في الأعمال المسيئة للمصالح المجتمع بين كونها مباشرة أو غير مباشرة، فكما أن القتل جريمة فالكذب جريمة، وكما أن السرقة جريمة، فالغيـبة أيضاً جريمة، وهكذا.

وبالجملة، إن الرذائل الأخلاقية التي يفعلها الإنسان لوحده، أو يضمرها جرائم يستحق عليها العقاب في القانون الإسلامي، لما يترتب عليها من حط لقيمة الإنسان وشرفه وكرامته، وما يترتب عليها من انهدام للمجتمع الإنساني بشكل مباشر أو غير مباشر.

الثالث: إن الغاية الأساسية التي تسعى من أجلها القوانين الوضعية هي عملية معاقبة المجرم، وأخذ الحق منه، دون أن تعمد إلى علاجه وتصحيح سلوكه وتقويمه، بينما القانون الإسلامي يسعى إلى استئصال روح الجريمة من نفسه وفكره وروحه، وتهذيب سلوكه وتقويمه. وإلى هذا المعنى يشير أمير المؤمنين(ع): من كثر فكره في المعاصي دعته إليها[2].

ومن الواضح أن هذا يكشف لنا عن أن العقوبة في الفقه الجنائي الإسلامي تهدف بالدرجة الأولى إلى تأهيل المجرم من خلال عودته للمجتمع فرداً صالحاً. ويـبين لنا حقيقة النظرية الإسلامية في العقوبة، وأن نظريته هي علاج وإصلاح له.

الجريمة في القرآن:

عند الرجوع للقرآن الكريم نجد أنه يتعرض إلى أن الجريمة تنقسم إلى قسمين، وهما:

الأول: الجريمة الفردية: وهي التي يكون الممارس للجريمة فرداً واحداً، فيكون الحديث منصباً على المجرم ذاته، والحديث القرآني عنه وقع على جنس المجرم أنى كان جرمه، سواء كان سارقاً، أم كان قاتلاً، أم كان فاعلاً أي فعل من الجرائم، قال تعالى:- (يبصرونهم يود المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذٍ ببنيه* وصاحبته وأخيه)[3]، وقال سبحانه:- (إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى)[4].

الثاني: الجريمة الجماعية: وهي يكون الممارس لها جماعة، أو فئة قل عددها أو كثر، قال تعالى:- (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)[5]، وقال سبحانه(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون)[6].

وقد تحدث القرآن الكريم من خلال آياته المباركة عن عدة مصاديق لهذين القسمين، ومن أجلى مصاديق القسم الثاني، قوم صالح، فإن القرآن اعتبرهم جميعاً شركاء في عملية عقر الناقة، لا لشيء إلا لأنهم قد رضوا بفعل قدار الشنيع، وهذا يعني أن الجريمة الجماعية تكون في كل مجتمع رضى أصحابه بما يفعل فيه من إجرام، فيشترك الجميع منهم في الجريمة. ومثل ذلك جريمة قوم يونس، فإنها جريمة جماعية.

هذا وقد تركز حديث القرآن عن الإجرام وعن مصاديقه في ذكر مفردات عديدة، وهي: مفردة القتل، ومفردة السرقة، ومفردة الزنا، وكبائر المحرمات.

أسباب حصول الجريمة:

إن الحديث عن أسباب الجريمة وحصولها بحاجة إلى مزج علوم عديدة، كعلم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الإجرام، وعلم الطب، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الوراثة، وعلم القانون، وعلم النفس الجنائي.

وينبغي قبل استعراض الأسباب ملاحظة مقدمة مهمة:

أن توفر بعض الأسباب ليس سبباً داعياً لوجود الجريمة، بمعنى أن العلاقة ليست علاقة سببية بنحو العلة والمعلول الذي لا يقبل التخلف ابداً، مثلاً انهيار الأسرة لا يلزم بالضرورة أن يكون أفرادها مجرمين.

مضافاً إلى أن أسباب حصول الجريمة يمكن تقسيمها إلى أسباب أولية وأسباب ثانوية، فالانهيار الأسري يعد سبباً رئيسياً للجريمة، وفقدان المرشد التربوي سبب ثانوي لها.

بعد هذا نقول، هناك عدة نظريات في بيان منشأ وسبب حصول الجريمة:

النظرية الفسيولوجية، أو الجبلية:

وتقوم هذه النظرية على أساس أن الإنسان مجرم بذاته وفطرته، لأن النـزعات الإجرامية وراثية، موجودة عند المولود منذ ولادته، ولا يكتسبها من خلال التعليم، أو الاحتكاك والتفاعل مع البيئة المحيطة به.

وتنسب هذه النظرية للطبيب الايطالي سيزار لومبروزر، وقد كون نظريته هذه من خلال دراسته التي قام بها على السجناء في السجن العسكري الايطالي.

وقد كان يقول إن للمجرمين سمات يعرفون بها منذ الولادة، من كبر في الجبهة وفتحة العين، وطول الفك السفلي.

ولا يخفى بطلان هذه النظرية، لعدة جهات:

منها: إن اللازم مما ذكر الإيمان بمبدأ الجبر، وذلك لأن كون الإنسان مولود منذ الفطرة على الإجرام يعني أن تعريضه للعقوبة ظلم له، إذ هو مجبور على ما يفعل، فكيف يستحق العقاب.

ومنها: إن هذه النظرية تنافي ما جاء عن النبي الأكرم محمد(ص) من أن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.

ومنها: إن الإيمان بهذه النظرية يستلزم عدم الحاجة إلى بعث الأنبياء، أو يكون بعثهم عبثياً، لأن الذين سوف يتبعوهم هم الذين على طريق الصواب منذ البداية، لأن المفروض من هذه النظرية تقسيمها الناس إلى فريقين، صالح بفطرته، وغير صالح بفطرته، فالأول لا يحتاج إلى بعث النبي، والثاني كذلك، لأن الأول على طريق الصلاح، والثاني لن ينصلح حاله.

النظرية التربوية:

وهي التي تقوم على أساس أن فقدان التربية الصحيحة والسليمة هو السبب الرئيس والأساس في وجود عنصر الجريمة عند الأفراد.

وهذه النظرية تختلف عن النظرية السابقة في أن الجريمة ليست أمراً ذاتياً عند الإنسان يكون عند المجرم من حين ولادته، بل هي تقضي بأن الجريمة من الأمور التي يتعلمها المجرم ويكتسبها نتيجة الأجواء البيئية المحيطة به. وقد أشار لهذه الحقيقة باحث فرنسي يدعى جبرائيل تيراد، فذكر أن الجريمة تتعلم مثل أية مهنة أخرى، ويتم ذلك من خلال التقليد والارتباط مع الآخرين.

وهذه النظرية يمكن القبول بها في الجملة، لا بالجملة، إذ أن التربية قد تكون متحققة بالنسبة للولد، لكن تتدخل جملة من العوامل الأخرى كفيلة بتحويل هذا الولد المربى إلى مجرم خطير، وهذا يعني أن مجرد التربية بمفردها لا يوجب تحقق الحصانة التامة للولد من الانخراط في سلك المجرمين.

نظرية المجتمع:

وتقوم هذه النظرية على أن السبب المباشر والأساس في كون الإنسان مجرماً هو المجتمع، لأن للبيئة مدخلية تامة في توجيهه والتأثير عليه، ومن ثمّ صقل شخصيته المسالمة، أو المجرمة، خصوصاً بما عرفت قبل قليل من أن الجريمة من الأمور التي تتعلم مثلها مثل أية صنعة وحرفة.

والظاهر أن هذه النظرية هي التي تمثل الأطروحة الإسلامية، بمعنى أن الإسلام يرى أن المجتمع هو منشأ حصول الجريمة وسببها.

ولا يخفى أننا عندما نتحدث عن كون المجتمع منشأ الجريمة وسببها، فإننا نلحظ أن ذلك يعود لأربعة عناصر يقوم عليها، وهي:

الأول: ونعني به الأسرة، فالأب والأم يمارسان دور التعليم الأول بالنسبة للطفل، فيعلمانه إما القيم الصالحة، أو الخلقيات الفاسدة، فالطفل الذي ينشأ في أسرة لا تعرف للكذب طريقاً، وتتعامل دائماً بنقاوة ووضوح، وتتجنب الخداع والغش والمكر والحيل، لا ريب أن ذلك يترك أثره عليه ، بينما لو نشأ الأطفال في أسرة تعتمد الكذب أساسًاً من أسسها الحياتية، وترى الخداع عنصراً فعالاً في منهجها، فلا ريب أن لذلك أثراً آخر في تنشأتهم ، كل ذلك لأن الطفل في مبتدأ حياته يجعل والديه قدوة ومثلاً أعلى له.

الثاني: المدرسة وبالتحديد المعلم، ولا نقصر المدرسة والمعلم في خصوص المعلم الأكاديمي، بل نوسع دائرة البحث ليشمل حتى المعلم الديني، ويمثل المعلم عنصراً هاماً جداً في هذا المجال خصوصاً عندما نلحظ أن الولد مع مرور الأيام وتفتح مداركه الفكرية قد يصل إلى أن أباه لا يتناسب وطموحه ليكون قدوة له، كونه بسيط التفكير محدود الأفق، فيرى في معلمه الشخصية التي تشفي غليله ورغبته في الاقتداء، فيتخذه قدوة له، ويحمل له في نفسه إكباراً أكثر مما يحمله لوالديه، وعندها سيتأدب بآدابه ويقتدي بسلوكياته وأخلاقه.

وهذا يلقي على عاتق المعلم مسؤولية كبرى، إذ يكشف أن مسؤوليته ليست في ما يلقيه للطالب من مفاهيم ومعالم تعليمية، بل يتعدى الأمر ليكون مدرسة سلوكية متحركة يلحظها التلميد ويتعلم منها منهجه الحياتي وقيمه وأخلاقه.

ومن المعلوم أن هذا يستوجب وجود أهلية مميزة لدى المعلمين في الجانب السلوكي والأخلاقي، حتى يكونوا على قدر المسؤولية، كما هم أهل لها إن شاء الله تعالى.

وهذا يستدعي رفع المستوى القيمي والأخلاقي والسلوكي التربوي لدى المعلمين ليضاف لما لديهم من رصيد في هذا المجال، وليكن معيناً لهم في أداء وظيفتهم المناطة بهم على أكمل وجه.

وعلى العكس تماماً لو لم يكن المعلم على قدر المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقه، فإن ذلك سيخلق جيلاً منحرفاً، عناصر الجريمة قد تكونت لديه، وأوجدت له الأجواء المناسبة لإيجادها.

وهنا يبرز دور المسجد وفاعليته في هذا المجال، لما هو المعروف من أن الأطروحة الإسلامية كانت ولا زالت تنظر للمساجد على أنها جامعات فكرية وثقافية وتربوية لخلق أجيال صالحة.

وهذا الكلام كما ينطبق على الذكور، فهو بنفسه جارٍ أيضاً بالنسبة للبنات، فكل ما ذكرناه شامل لكليهما كما هو واضح.

الثالث: المجتمع، ونعني به الأجواء البيئية الخارجية التي يعيش فيها الولد، ذكراً كان أم أنثى، والمحيط الذي يعيش فيه وسوف يرتبط بعناصره ويختلط معهم، فيلعب معهم ويصادق جملة منهم، يزورنه ويزورهم يذهب معهم وهكذا.

ويعدّ هذا من أهم العناصر، لأنه قد يقضي في هذا الوسط أكثر مما يقضي في بيته، بل قد يقضي فيه أكثر مما يقضي في مدرسته، إذ أن أكثر الأوقات سوف تكون بين هذين العنصرين، الثاني والثالث، وربما يكون للثالث نصيب الأسد، فقد يحسن الأبوين التأديب والتربية، لكن إهمال المتابعة والمراقبة للوسط الاجتماعي والبيئي الذي يختلط به الولد يوجب فساد كل ما يفعلانه، ويمثل له السلوكيون بالتفاحة الفاسدة التي تقع وسط صندوق من التفاح كله سليم، فتأثر الفاسدة في البقية فتفسده، فيظهر لك مقدار التأثر والانفعال بمجال الانحراف في السلوك الاجتماعي وبسهولة.

وعلى أي حال، فوفقاً لمن يحيط بهذا الولد سوف يكون الأثر المترتب على ذلك، ولهذا يصنع المجرمون في هذه المرحلة، وربما ساعدت على ذلك المرحلة السابقة.

الرابع: الإعلام، بجميع أقسامه، المرئية والمقروءة والمسموعة، بل حتى ألعاب الأطفال الالكترونية، أصبحت اليوم وسيلة لتعليم الإجرام، وتفعيل دور الجريمة في نفوس الطفل ومنذ البداية، ونحن لو تأملنا الإعلام المعروض عندنا على سبيل المثال، فإننا نلحظ وبصورة جلية خلوه من المنهج التربوي، إذ نجده يركز وبصورة واضحة على عرض المشكلة، ويقدم صوراً عملية للخطط والتطبيق، وسبل التنفيذ وكيفية التخلص من العدالة، لكنه لا يقدم الحلول الإيجابية لعلاج هذه القضية، بل ربما يفتقر إلى عرض العقاب بصورة واضحة، فيظهر أصل الحدث بصورة لا يتناسب العلاج معها من حيث العرض.

ومن المعلوم أن الكثير من أبنائنا يقضون وقتاً غير قليل أمام الشاشات المرئية بنيناً وبناتاً، وهذا بالطبع سوف يترك أثراً عليهم من خلال ما يقدمه، ومع افتقاره كما عرفت للمنهج التربوي، سوف يكون الموجود هو المجرمون، وتفشي عنصر الجريمة.

عناصر أخرى:

هذا وقد قرر علماء النفس والاجتماع، وعلم الإجرام السلوكي أن هناك عناصر أخرى للجريمة، لكنها ليست على نحو الموجبة الكلية، بمعنى أنها تختص ببعض الحالات والموارد، مثل ما أسموه بالجريمة الاقتصادية، وهي التي يكون الهدف فيها إجرام اقتصادي من سرقة وما شابه، فأحالوا السبب إلى البطالة والفقر، وضيق ذات اليد والحاجة، وما شابه ذلك.

علاج الجريمة:

وفقاً لما قدمناه من نظريات، تفرعت أساليب العلاج الموجودة للجريمة، فبناءً على كل نظرية مما تقدم، يكون العلاج حينئذٍ متناسباً معها، ومن النظريات التي قدمت علاجاً للجريمة الأطروحة الإسلامية، فقد عرض الإسلام خطة علاجية للجريمة، يمكن حصرها في بعدين:

الأول: وهو البعد الوقائي، والذي يـبتني على السعي الحثيث للمنع من تلوث الطفل ومنذ البداية بمرض الجريمة وإصابته بهذا الفيروس.

الثاني: البعد العلاجي، بمعنى بعدما يصاب الإنسان بهذا الداء، فما هو السبيل لعلاجه مما أصابه.

البعد الوقائي:

ويمكن تلخيص نظرية الإسلام في هذا المجال في ثلاثة أمور أساسية، متى تحققت جميعها فإنها تكفل للمجتمع الذي توجد فيه انتفاء الجريمة في جنباته:

أولها: تربية الدوافع الذاتية للإنسان، من خلال تقوية الرادع الداخلي الموجب لصده عن فعل المعاصي وعمل الذنوب.

وطريق ذلك من خلال تقوية علاقته بالله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى محيط بكل ما يعمل ومطلع على كل ما يفعل، حتى ما يحدّث به نفسه، ويضمره في قلبه، وزرع مبدأ المعاد ويوم القيامة عنده. فإن الإنسان متى شعر أن هناك رقابة دائمية عليه، يوجب ذلك توقفه عن الجرائم وإيجادها خارجاً.

ثانيها: تهيئة الأجواء التربوية الصالحة له، بدءاً من المجتمع الصغير وهو الأسرة، مروراً بالمجتمع الأوسع وهو المدرسة، وانتهاءً بالمجتمع الأم وهو الوسط البيئي والمحيط.

ثالثها: توفر نظام سياسي إسلامي عادل، يوفر للإنسان الحياة الاقتصادية السعيدة، والعيش الرغيد والحياة الهنيئة، وبالتالي يساعد على قضاء حالة الفقر، والسيطرة على الشهوات المحرمة.

البعد العلاجي:

وعندما يصاب الإنسان بداء الجريمة، فإن الإسلام عمد إلى علاجه من خلال الأسس التالية:

الأول: العقاب الإلهي، وهو أن يعرّض المجرم في عالم الدنيا للعقاب نتيجة إقدامه على ما ارتكب من جرم، وعدم السماح له والصفح عنه، لأنه متى أحس المجرم أنه لن يطاله شيء من العقاب، بل إنه يفعل فعلته ويخرج منها من دون أن يصيـبه شيء فإن ذلك سوف يجعله يكرر الفعل مرة ثانية. ولذا في كل مجتمع لا يكون للقانون سلطة ورادعية واحترام، تتفشى الجريمة وبسهولة، لأن المجرم لا يجد الرادع الذي يردعه عن الإقدام على جرمه، بل هو على قناعة تامة أنه لن يناله شيء.

الثاني: العقاب الاجتماعي، من خلال الرقابة الصارمة من أبناء المجتمع، وهو مسؤولية عامة ملقاة على عاتق الجميع من دون استثناء يشترك فيه جميع شرائح المجتمع على حدّ سواء، لأنه أحد وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وتدخل هذه الرقابة في العناصر الثلاث الأساسية للمجتمع، الأسرة، والمدرسة، والمحيط، يقول إمامنا الحسن الزكي(ع): لا يحل لعين مؤمنة ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيره. بل قد يطور العقاب الاجتماعي من خلال خلق أجواء المقاطعة التامة للمجرمين في الأوساط الاجتماعية، كما فعل النبي(ص) مع المتخلفين عن غزوة تبوك، والقصة في هذا المجال مشهورة ومعروفة.

الثالث: التوبة، فإن الله سبحانه وتعالى فتح هذا الباب للمجرمين، كي ما يعودوا إلى حظيرة القدس الإلهية، ويأبوا إلى الإسلام وسعة الرحمة الإلهية[7].

——————————————————————————–

[1] سورة إبراهيم الآية رقم 49.

[2] غرر الحكم ص 664.

[3] سورة المعارج الآيتان رقم 11-12.

[4] سورة طه الآية رقم 74.

[5] سورة الأنعام الآية رقم 124.

[6] سورة المطففين الآية رقم 29.

[7] من المصادر: المعجم في فقه لغة القرآن وسر بلاغته، نظرات معاصرة في القرآن الكريم، مبحث الجريمة دراسة في تفسير الجريمة والوقاية منه، التوبة والتائبون، عقاب الذنوب.