28 مارس,2024

الحروف المقطعة: معاني ودلالات

اطبع المقالة اطبع المقالة

الحروف المقطعة, معاني ودلالات

 

ربط بعض الباحثين(حفظه الله)[1] بين آيات سورة مريم، وبين الإمام الجواد(ع)، وقد استند في ذلك إلى أمرين:

 

الأول: الحروف المقطعة في مطلع السورة، بلحاظ تفسيرها وفق حساب الجمل.

الثاني: اشتمال السورة على قصة نبي الله يحيى(ع)، وهو مشابه كثيراً إلى الإمام الجواد(ع)، من جهات متعددة:

 

أحدها: أن نبي الله زكرياً(ع)، قد بلغ من العمر عتياً، ولم يرزق ولداً، وهو عين الأمر الذي حصل للإمام الرضا(ع)، فقد بلغ من العمر أربعين سنة، ولم يرزق ولداً، وقد كان هذا الأمر محزناً ومقلقاً للشيعة، وكانوا ينتظرون الإمام التاسع بفارغ الصبر، حتى أن بعضهم قد سأل الإمام الرضا(ع) أن يدعو الله تعالى أن يرزقه ولداً، وقد كان(ع) يجيبهم بأنه لابد وأن يرزق ولداً.

ثانيها: المشابهة بينهما في الاسم، فإن معنى يحيى في اللغة العبرية، هو السخي الكريم، وهذا مرادف إلى لقب الإمام الجواد(ع).

 

ثالثها: اشتراكهما في تولي منصب الخلافة الإلهية في سن صغيرة، فقد كان يحيى(ع) نبياً وهو صغير السن، وكذا كانت إمامة الإمام الجواد(ع) في سن مبكرة.

ومن خلال ما قدم عرضه، يمكن القول بأن السورة المباركة تتحدث عن الإمام الجواد(ع)، من خلال حديثها عن النبي يحيى(ع).

وقد استند في مختاره إلى ما تضمنته السورة المباركة من حروف مقطعة في بدايتها، وهو قوله تعالى:- (كهيعص)، فإن الحروف المذكورة يبلغ مقدارها وفقاً لحساب الجمل(195)، وهو يناسب تاريخ ولادة الإمام الجواد(ع).

 

كما أنه يمكن أن تكون السورة المباركة بصدد الحديث عن الإمام المنتظر المهدي(عج)، وذلك لتضمنها الحديث عن قصة نبي الله عيسى(ع)، وهو يشابه الإمام ولي النعمة(روحي لحافر جواده الفداء) من جهات متعددة، مثل كونهما قد قاما بمسؤولية الخلافة الإلهية في الأرض في سن مبكرة، كما أنهما قد تكلما في المهد، وأيضاً يشتركان في طول العمر، والبقاء على قيد الحياة مع طول المدة.

ويساعد على ما ذكر، ملاحظة الحروف المقطعة في مطلع السورة، وحسابها بحساب الجمل، مع ضم سنة نهضة الإمام الحسين(ع)، فإن سنة النهضة هو سنة 60 للهجرة، ومع ضم مقدار الحروف العددي وهو 195، يكون الناتج هو 255، وهذا يتناسب مع السنة التي ولد فيها الإمام صاحب العصر والزمان(عج).

 

وتقيـيم ما أفاده الباحث المذكور(حفظه الله)، تستدعي الوقوف على أن التفسير من خلال حساب الجمل، هل هو تفسير للقرآن الكريم، أم أنه من صغريات القول بالرأي، ومع البناء على كونه تفسيراً، فلأي منهج من المناهج التفسيرية ينتمي؟

التفسير والقول بالرأي:

لقد وردت نصوص متظافرة، بل لا يبعد تواترها عن المسلمين، تنهى عن تفسير القرآن الكريم بالرأي، فمن تلك النصوص، ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله(ع) أنه قال: من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ أبعد عن السماء[2].

 

وعن ابن عباس عن رسول الله(ص) قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار[3].

وقد شكلت هذه النصوص عقبة حالت دون التطور في مجال التفسير، بل ربما شكلت عقبة كؤود أما الحركة التفسيرية، لأن الكثير قد أحجم على الإقدام على التفسير حذراً من شمول النصوص المذكورة إليه.

 

ولعل منشأ ذلك عدم الإحاطة بالمقصود بمعنى القول بالرأي في التفسير، ويساعد على ذلك تعدد الأقوال الموجودة عند العلماء والباحثين في تحديد المقصود منه، فذكرت احتمالات:

 

منها: ما أحتمله بعض الأعاظم(ره)[4]، وغيره[5] من فقهاء المسلمين، من أن المقصود من القول بالرأي، هو استقلال المفسر في تفسيره للآيات القرآنية برأيه دون مراجعة إلى ما صدر عن المعصوم(ع) في ذلك، وهذا يعني أنه يعتمد على رأيه، وذلك إما لميل منه لذلك الرأي، أو لموافقته لهواه، أو لإصابته بمرض الغرور، والاعتقاد بالاستغناء عن الآخرين. ومن أمثلة ذلك التفسيرات الصادرة عن المتصوفة، أو عن بعض العرفاء.

وهذا المعنى يخالف التفسير تماماً، فإن المقصود منه وفقاً لما جاء في كلمات أهل اللغة، أنه كشف المستور، وإزالة الغموض عنه وإبانته. ويقصد منه ملاحظة الظاهر من الآية الشريفة، وهذا ليس تفسيراً بالرأي، لأن اتباع الظهور قانون عقلائي، وهذا يعني أن ما يستظهر من اللفظ مما يتفق عليه العقلاء بحيث لو ألقي اللفظ إلى أحد منهم، لكان ما يستظهره من النص موافقاً لما استظهر في البداية.

 

وليس من صغريات القول بالرأي، العمل وفق حساب الجمل الأبجدي المعروف في تحديد المقصود من القرآن الكريم، وذلك لوجود نص يظهر منه مشروعية تفسير القرآن الكريم اعتماداً على ذلك، فقد روى أبو لبيد المخزومي، قال: قال أبو جعفر(ع): يا أبا لبيد إنه يملك من ولد العباس اثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم أربعة فتصيب أحدهم الذبحة فتذبحه، هم فئة قصيرة أعمارهم، قليلة مدتهم، خبيثة سيرتهم، منهم الفويسق الملقب بالهادي، والناطق، والغاوي.

 

يا أبا لبيد، إن في حروف القرآن الكريم المقطعة لعلماً جماً، إن الله تبارك وتعالى أنزل:- (ألم*  ذلك الكتاب)، فقام محمد(ص) حتى ظهر نوره، وثبتت كلمته وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مائة سنة وثلاث سنين، ثم قال: وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار وليس من الحروف المقطعة حرف ينقضي أياماً إلا وقام من بني هاشم عند انقضائه. ثم قال: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فذلك مائة وإحدى وستون. ثم كان بدو خروج الحسين بن علي(ع):- (ألم* الله)، فلما بلغت مدته، قام قائم ولد العباس عند:- (المص)، ويقوم قائمنا عند انقضائها بـ(ألم)، فافهم ذلك وعِهِ واكتمه[6].

 

وقد يجعل من ذلك أيضاً ما جاء في التفسير المنسوب لعلي بن إبراهيم القمي، عن الباقر(ع) قال: عسق، أعداد سني القائم، وقاف جبل محيط بالدنيا من زمردة خضراء، فخضرة السماء من ذلك الجبل، وعلمُ كل شيء في عسق[7].

 

المناهج التفسيرية:

وبعد وضوح أن استعمال حساب الجمل ليس من القول بالرأي في تحديد المقصود من القرآن الكريم، وإنما هو نحو من أنحاء التفسير، فيلزم معرفة انطوائه تحت أي منهج من المناهج التفسيرية المذكورة في كلمات الأعلام، ولا يذهب عليك أن ما يذكر في كلماتهم من استعراض للمناهج التفسيرية ليس مأخوذاً بنحو الحصر العقلي المانع من تصور وجود منهج آخر من مناهج التفسير غير ما ذكر، بل إن المذكور مستفاد من الاستقراء الخارجي، وهذا يعني إمكانية وجود مناهج تفسيرية أخرى لم يطلع عليها، بل يمكن أن توجد مناهج تفسيرية جديدة غير ما هو المذكور.

 

وعلى أي حال، إن المتتبع يجد أن المناهج التفسيرية المذكورة في كلمات أهل الفن، على أقسام:

الأول: المنهج الروائي:

 

وهو عبارة عن تفسير القرآن الكريم بالنصوص الصادرة عن المعصومين(ع)، لحصر السنة الشريفة في ما صدر عنهم، أما لو بني على أن السنة تشمل ما يصدر عن الصحابي، كما عليه الجمهور، فسوف تتسع دائرة النصوص التفسيرية كما لا يخفى.

ويعدّ هذا المنهج من أوائل المناهج المعروفة في الحركة التفسيرية للقرآن الكريم، إلا أنه محدود السعة، لأن النصوص الموجودة والتي تتضمن التفسير، لا تزيد على مقدار ثلث الآيات القرآنية، وهذا يعني بقاء ثلثي القرآن الكريم دونما تفسير.

ومن أبرز المصادر التفسيرية لهذا المنهج، تفسير أبي الجارود، وتفسير القمي، وتفسير فرات الكوفي، وتفسير العياشي من القدماء، وتفسير البرهان، وتفسير نور الثقلين من المتأخرين.

 

ولا يخفى أنه لابد من تحديد المعتبر في الرواية التفسيرية، وأنه يشترط فيها توفر أصالة الصدور، كما يعتبر ذلك في النص العقدي، والفقهي، أم أنه لا يشترط ذلك لتكون نظير ما ورد في الأخلاق، والأحراز والأطعمة وما شابه.

والصحيح أنه لا يختلف حال الرواية التفسيرية عن الرواية الفرعية الفقهية، فيلزم إحراز أصالة الصدور فيها، فلا يستند لخبر من الأخبار في مقام التفسير ما لم يحكم بصدوره، ولو من خلال القرائن الحافة به، والموجبة للوثوق والاطمئنان بصدوره، ولو بعمل المشهور بما جاء فيه.

وهذا يعني أنه يسقط الخبر الذي لا يتوفر فيه ذلك.

 

وكما يعمد إلى ملاحظة سند الخبر، لابد من النظر في متنه، فينقد من خلاله أيضاً، وهذا يدعو لرفع اليد عن النصوص المنقولة غالباً في مصادر الجمهور، والمشتملة على الكثير من المضامين الاسرائيلية، فإن هذا يعدّ أحد الموانع من الاستناد إليها بعد رفع اليد عن أصالة الصدور.

وقد اختلف في عدّ هذا المنهج من المناهج التفسيرية، فقد عده بعضهم شعبة من شعب علم الحديث، فهو نظير الروايات الفقهية، والعقدية، والأخلاقية، لأن مجرد نقل الرواية لا يصير الإنسان مفسراً، كما أن مجرد نقل الرواية الفقهية لا يوجب كون الإنسان فقيهاً، وكذا نقل الرواة العقدية، لا يجعله متكلماً، فالشيخ الكليني(رض)، وهو الذي ألف الموسوعة الحديثية المعروفة الكافي، والتي تضمنت النصوص العقدية، والأخلاقية، والفقهية، لم يكن فقيهاً لمجرد كونه قد نقل الروايات المتعرضة للبحث الفقهي في كتابه، بل كانت هناك عوامل أخرى أوجبت اتصافه بهذه الصفة. وهكذا أيضاً الناحية التفسيرية، فإن مجرد نقل فرات الكوفي، أو العياشي مثلاً للنصوص التي تتضمن تفسير الآيات القرآنية لا يصيره مفسراً ما لم يكن منطوياً على الشروط اللازم توفرها في المفسر.

والحاصل، إنه لو منع من كون التفسير الروائي منهجاً تفسيراً، ومنع من كونه تفسيراً، لم يكن في ذلك حزازة.

 

الثاني: المنهج العقلي الاجتهادي:

وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الأدلة والقواعد القرائن العقلية، أكثر من اعتماده على الأدلة النقلية، شرط أن تكون تلك الأدلة والقواعد والقرائن أموراً قطعية، حذراً من التفسير بالرأي، الذي عرفت المنع منه.

ولا يختلف حال هذا المنهج عن سابقه في كونه مختصاً ببعض الآيات القرآنية دون البقية، لأنه سوف ينحصر في خصوص الآيات التي يكون للعقل حكم بديهي في مضامينها، ولن يشمل الآيات المتعرضة للحديث عن موضوع الجنة والنار والبرزخ والصراط والميزان والكرسي والقلم والعرش والرح والملائكة ومنطق الطير، وغير ذلك.

 

ويعدّ هذا المنهج التفسيري خطيراً، وذلك لأنه قد يستغل من أجل حمل الآيات القرآنية على بعض الأغراض الخاصة فتفسر وفق متبنيات فكرية معينة، فيكون من صغريات القول بالرأي في القرآن الكريم.

 

الثالث: المنهج العلمي التجريبي:

وهو الذي يعتمد فيه المفسر على الحس والتجربة، من خلال الاستفادة من العلوم الجديدة الطبيعية والفلسفية والنجوم[8]، وهو شائع في العصر الحاضر، ومن أبرز أمثلته كتاب الجواهر في تفسير القرآن، للشيخ الطنطاوي.

ومن الملاحظات المذكورة على المنهج المذكور، اختصاصه ببعض الآيات الشريفة، وعدم استيعابه لجميع الآيات المباركة.

 

وقد توقف الكثيرون في عدّ هذا من التفسير، بل عدوه من التطبيق[9]، لأنه يتضمن تطبيق الآية الشريفة على قضية علمية معينة، فهو نظير ما يظهر كثيراً من الإسقاطات في النصوص الشريفة على جملة من الموضوعات والأحداث الخارجية، مثل تطبيق علامات الظهور على بعض الأحداث الواقعة في الواقع الخارجي، وحملها على التحقق، وقرب حلول الظهور المبارك.

 

وقد عانى القائلون بهذا المنهج من بطلان بعض النظريات العلمية التي حملت الآيات الشريفة عليها، وهذا أحد الموانع من القبول به، لأنه يجعل القرآن الكريم في معرض الاتهام بالخطأ والاشتباه.

 

الرابع: منهج تفسير القرآن بالقرآن:

وهو من أقدم المناهج التفسيرية، وأهمها، وقد كان معروفاً منذ القديم، وقد أحياه العلامة الطباطبائي(ره) من خلال تفسيره القيم الميزان عندما أتخذه منهجاً في التفسير، وقد وضع له أسساً وقواعد، بحيث لو عدّ السيد العلامة(ره) مبدعاً له لم يكن هناك ما يمنع من ذلك.

ومن أبرز نقاط اختلاف المنهج المذكور عن بقية المناهج السابقة، أنه أقرب للتفسير الموضوعي للآيات القرآنية، فهو يقوم على محاولة تفسير الآيات القرآنية كموضوع واحد يوضح بعضه بعضاً. دون بقية المناهج السابقة، فإنها أقرب للمنهج التجزئيي الذي يقوم على تفسير كل آية آية على حدة. ويمكن توضيح ذلك بالمثال التالي، وهو تحديد الليلة التي نزل فيها القرآن الكريم، من خلال ضم الآيات القرآنية بعضها مع بعض، وهو قوله تعالى:- (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)، فإن المستفاد منها نزول القرآن الكريم في شهر رمضان دن تحديد منه لليلة التي نزل فيها أو اليوم، وبضم قوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة مباركة)، يفيد أن نزوله كان في الليل وليس في النهار، وتحدد الليلة التي نزل فيها من خلال قوله تعالى:- (إنا أنزلناه في ليلة القدر)، فإنها تحدد أن النزول كان في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك، وهكذا.

 

ومن أبرز الملاحظات على المنهج المذكور إغفاله لدور السنة الشريفة في العملية التفسيرية، فإنه لا يرى لها مدخلية أساسية في البين، بل هي أقرب للجانب التكميلي، وليس العنصر المحوري، وهذا يتجلى واضحاً في مدرسة السيد العلامة(ره) في تفسيره القيم الميزان، إذ لا نجد للبعد الروائي أثراً بارزاً فيه، وليس ذلك ضعفاً في السيد(ره)، وإنما للمنهج المتبع.

 

وهذا التفسير وإن بيّن المقصود من الآية الشريفة، لكنه لا يمكنه تحديد المراد منها دون الرجوع للسنة الشريفة، فإن هذا المنهج يمكنه بيان قوله تعالى:- (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة وهم راكعون)، فيشير إلى ثبوت الولاية لثلاثة عناصر، ثالثهم هو المصلي الذي تصدق حال ركوعه، لكن القرآن لن يحدد هذا المتصدق حال الركوع ليكون هو الخليفة بعد رسول الله(ص)، ولا يمكن ذلك دون الرجوع للسنة الشريفة، لنجد الرواية المنقولة في مصادر المسلمين على أنها نزلت في أمير المؤمنين(ع).

وهكذا يجري ذلك أيضاً في آية التطهير، كما أنه يجري في آيات سورة الإنسان، وغير ذلك.

 

المنهج المختار:

والظاهر أن أقرب المناهج التفسيرية للقبول، هو المنهج الذي يقرر محورية القرآن الكريم والسنة المباركة في العملية التفسيرية، فلا يستقل أحدهما دون الآخر في الوصول للهدف المنشود، وتوضيح ذلك أكثر أن يقال:

إن الرؤية حول دخالة السنة في العملية التفسيرية على ثلاثة أنواع:

1-عدم الاعتراف بالنصوص الشريفة، ومنع الاستفادة منها في عملية التفسير.

2-البناء على محورية السنة المباركة في العملية التفسيرية، وأنها الأساس الذي يستند إليه، ويعتمد عليه.

3-القول بأن المدار في العمل التفسيري على الأمرين معاً، فيقرر محورية القرآن الكريم والسنة الشريفة في التفسير، ولا يممكن الاقتصار على أحدهما دون الآخر.

 

وقد عرفت أن بعض الآيات الشريفة لا مجال للوصول للمقصود منها من خلال القرآن الكريم فقط، بل لابد من ضم السنة المباركة إليها، فلاحظ قوله تعالى:- (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)، فإنه لا يمكن تحديد المقصود بأهل البيت في الآية الشريفة من خلال القرآن الكريم فقط، ولو حدد فلن يكون هو المقصود فيها، فلابد من الرجوع للسنة المباركة، لنجد أن المقصود به هم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(ع).

 

منهج الباحث في مختاره:

وعند محاولة تحديد المنهج الذي اختاره الباحث للبناء على النتيجة التي توصل إليها في كون المقصود مما جاء في سورة مريم هو الإمام الجواد(ع)، أو الإمام صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، اعتماداً على حساب الجمل في تفسير الحروف المقطعة، نجد أن ذلك لن يخرج عن أحد منهجين، وهما المنهج العقلي الاجتهادي، أو المنهج العلمي التجريبي، لأنه قد يكون ناشئاً من إعمال القواعد العامة القطعية، أو الاستعانة بالقواعد العلمية.

ولا مجال لجعله من صغريات المنهج الأول، إذ أن مجرد وجود نص لا يكفي للبناء على كونه تفسيراً بالآثار، لأن النص موجود على خصوص الكبرى، وليس على الصغرى.

 

وقد عرفت في عرض المناهج ما في المنهجين من ملاحظة مانعة من البناء عليهما، ولا أقل من كونهما يختصان ببعض الآيات الشريفة. نعم في المورد الذي يمكن الاستفادة منهما وفق الموازين المقررة لا ضير في ذلك.

 

النظرية في الحروف المقطعة:

ثم إنه بعد وضوح المنهج التفسيري المتبع للباحث(وفقه الله)، يلزم الوقوف على الآراء التفسيرية الموجودة في الحروف المقطعة لملاحظة كلامه المذكور، خصوصاً وأنه لم ينحصر المعنى في خصوص ما ذكر، بل هناك أقوال متعددة في المقام.

وقد وردت الحروف المقطعة في تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم، سبع وعشرين منها سور مكية، وسورتين مدنية، فمن تلك السور: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة هود، وسورة يوسف، وسورة مريم، وسورة طه، غيرها.

ويعدّ هذا النوع من الاستعمال من مختصات القرآن الكريم، فلم يذكر مثله في سائر الكتب السماوية السابقة، كالتوراة والإنجيل.

 

ويمكن تقسيم السور التي افتتحت بالحروف المقطعة إلى خمسة أصناف بلحاظ عدد الحروف التي ابتدأت بها:

 

1-ما ابتدأ بحرف واحد، مثل سورة ق، وسورة ص، وسورة ن.

2-ما تضمن الابتداء بحرفين، مثل سورة طس، وسورة يس، وسورة طه، وسورة حم.

3-ما ابتدأ بثلاثة أحرف، مثل: ألم، والر، وطسم.

4-ما كان ابتداؤها بأربعة أحرف، مثل سورة المص، و المر.

5-ما ابتدأت بخمسة أحرف، مثل: كهيعص، وحم عسم.

 

ويمكن تصنيفها بلحاظ آخر إلى أربعة أصناف، من حيث تكرر الحروف وعدمه.

ومن الملفت أن بعض هذه الحروف لم يذكر إلا مرة واحدة ولم يتكرر، مثل: ن، ق. بينما قد تكرر بعضها مرتين، مثل: ص، فقد جاء مستقلاً في سورة ص، وجاء مرة ثانية جزءاً من قوله تعالى:- (المص).

وأما ما تكرر فقد ذكر بعضه ست مرات، مثل: الم، والبعض الآخر ذكر سبع مرات، مثل: حم.

 

وقد ذكر صاحب تفسير البرهان، أنه بعد حذف المكرر منها يكون الباقي أربعة عشر حرفاً، ويمكن صياغة جمل منه مثل: صراط علي حق نمسكه، أو: على صراط حق نمسكه، أو: علي حق نمسك صراطه.

وهو وإن كان حسناً، إلا أنه لا يمكن التعويل عليه في إثبات العقائد.

 

ومن الأمور التي تسترعي الانتباه، هو اشتراك السور التسع والعشرين في الحديث عن الوحي وعظمة القرآن، والرسالة، فهي تشترك إذاً في النبوة والرسالة الإلهية. نعم تشترك خمسة وعشرن منها في مجئ لفظة: الكتاب، أو القرآن، في مستهلها.

وعلى أي حال، فقد شغل أمر هذه الحروف المفسرين والمحققين، فانقسموا حيالها إلى قسمين:

 

فمنهم من قرر أنها سرٌّ بين الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(ص)، وعليه فلا تكون قابلة للتفسير.

ومنهم، وهو أكثر المفسرين وعلماء القرآن ذهبوا إلى أنه وإن لم يتيسر بلوغ معرفة حقيقتها وكنهها، إلا أنها مما يقبل التفسير، شأنها شأن بقية الآيات القرآنية الأخرى.

وبالجملة، يتفق علماء المسلمين على انها من آيات القرآن، وتبع طه حسين الكاتب المصري المعروف بعض المستشرقين، فأدعى عدم قرآنيتها، وأنها مجرد علامات تنبيهية كان يستخدمها النبي(ص) في مقابل ما كان يفعله كفار قريش عند قراءته للقرآن الكريم.

 

وكيف ما كان، فهناك رأيان أساسيان في هذه الحروف:

الأول: أنها من المتشابهات التي انفرد الله سبحانه وتعالى بعلمها، ليس لغيره إدراكها، فيكون تأويلها مختصاً به سبحانه وبالراسخين في العلم. ولعل إليه يشير ما صدر عن الناحية المقدسة(روحي له الفداء)، وقد سئل عن تأويلها، فقال(بأبي هو وأمي): هذه الحروف من أنباء الغيب اطلع الله عبده زكريا عليها، ثم قصها على محمد(ص)[10].

 

الثاني: أنها من المحكمات، شأنها شأن أكثر الآيات القرآنية، فتكون قابلة للتفسير.

 

وقد منع من البناء على الرأي الأول، عدم انطباق مفهوم المتشابه عليها، لأنه قد أخذ في حقيقته أن تكون للآية دلالة على معنى واضح، أو ما يمكن استظهار معنى منه، إلا أنه معنى باطل وهو في ظاهره حق، وفي اتباعه فتنة، والحال أن الحروف المقطعة ليست كذلك، لعدم وضوح معناها.

ثم إن القائلين بكونها من المحكمات اختلفوا في تحديد المقصود منها اختلافاً شديداً جداً، فذكرت في ذلك آراء كثيرة، نشير لبعضها:

 

منها: إن الحروف المقطعة في مطلع كل سورة وردت فيها، اسم لتلك السورة، فقد سميت بعض السور بالحروف التي ابتدأت بها، كسورة يس، وسورة طه، وسورة ص، نعم تسميت السور الأخرى التي تضمنت الابتداء بالحروف المقطعة كسورة البقرة، أو سورة آل عمران مثلاً وغيرهما بأسماء أخرى غير الحروف المقطعة، لا يعني عدم تسميتها بذلك، بل تسمى بالحروف المقطعة، وتسمى بالاسم الآخر، ما يعني أن لها أكثر من اسم. ولذا قد قيل أن هذه السور لها اسمان، مشهور، وهو ما عرفت به، ومستور، وهو الحروف المقطعة.

وقد اعتبر الشيخ(ره) هذا القول أفضل الآراء في تفسير الحروف المقطعة.

 

ولا يخفى أن التعويل على هذا المعنى يتوقف على وجود دليل يدل عليه، وهو مفقود في المقام، حيث لا يوجد في البين ما يدل على اثبات التسمية للسور المذكورة بذلك، وإن كان لا يوجد دليل أيضاً على النفي وعدم التسمية لها بذلك، وبالتالي لن يخرج ما ذكر عن كونه مجرد احتمال متصور في البين ليس إلا.

 

ومنها: أنها أسماء للقرآن الكريم، فكما أنه يسمى بالفرقان، وبالذكر، فإنه يسمى أيضاً بهذه الحروف أيضاً.

ولا يختلف الحال في هذا الرأي عن سابقه في كونه يتوقف على وجود دليل يسنده، وإلا فهو من حيث الإمكان متصور وليس مستحيلاً من الناحية العقلية. على أن هناك أمراً قد لا يلتزم به القائلون بهذا الرأي وهو جواز استبدال الحروف المذكورة بكلمة القرآن، كما يجوز ذلك في كلمتي الذكر والفرقان.

 

ومنها: إن هذه الحروف علامة اختصار وإشارة إلى اسم من أسماء الله تعالى الحسنى، وبعضها يرمز إلى اسم النبي الأكرم محمد(ص)، فكل واحد من أسماء الله تعالى مركب من بضعة أحرف، وقد اختير من كل اسم حرف ليقرأ بشكل منفصل في مستهل بعض السور.

ولم يتم اختيار الحرف على قاعدة أو اساس محدد، بل هناك تفاوت في الاختيار، فتارة يكون الاختيار من أول الاسم الإلهي، كالألف المأخوذ من اسم الله تعالى، والكاف المأخوذ من اسم الكافي. وأخرى يكون مأخوذاً من وسطه كالياء من العليم، والحكيم، والرحيم. وثالثة يختار الحرف الأخير من الاسم، كحرف الميم المأخوذ من اسم العليم الحكيم والرحيم[11].

 

وقد دلت جملة من النصوص على هذا المعنى، ففي المجمع عن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: إن صاد اسم من أسماء الله تعال أقسم به[12].

وعن الإمام الباقر(ع) أنه قال: إن لرسول الله(ص) عشرة أسماء، خمسة في القرآن، وخمسة ليست في القرآن، فأما التي في القرآن فمحمد(ص)، وأحمد، عبد الله، ويس، ون[13].

 

وعن سفيان الثوري، قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع): يا ابن رسول الله ما معنى قول الله: الم، والمص، والر، والمر، وكهيعص، وطه، وطس، وطسم، ويس، وص، وحم، وحم عسق، وق، ون؟ قال(ع): أما(الم) في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، وأما(الم) في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد، و(المص) فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق، و(كهيعص) معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد، فأما(طه) فاسم من أسماء النبي(ص)، ومعناه يا طالب الحق الهادي إليه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، بل لتسعد به، وأما(طس) فمعناه أنا الطالب السميع، وأما(طسم) فمعناه أنا الطالب السميع المبدئ المعيد، وأما(يس) فاسم من أسماء النبي(ص) ومعناه يا أيها السامع للوحي، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم، وأما(ص) فعين تنبع من تحت العرش، وهي التي توضأ منها النبي(ص) لما عرج به ويدخلها جبرئيل كل يوم دخلة، فيغتمس فيها، ثم يخرج منها، فينفض أجنحته، فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك وتعالى منها ملكاً يسبح الله ويقدسه، ويكبره ويحمده إلى يوم القيامة، وأما(حم) فمعناه الحميد المجيد، وأما(حم*عسق) فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر القوي، وأما(ق) فهو الجبل المحيط بالأرض، وخضرة السماء منه، وبه يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها، وأما(ن) فهو نهر في الجنة[14].

 

ومع وجود النصوص المذكورة والتي قد عرفت دلالتها على أن الحروف المقطعة أسماء لله سبحانه وتعالى، إلا أنه يصعب البناء عليها، وذلك لضعف أسنادها، إما للإرسال، أو لضعف دلالة بعضها.

 

ومنها: أن هذه الحروف المقطعة، هي أجزاء من اسم الله سبحانه وتعالى الأعظم، وهي إذا ما ركبت بدقة وبصيرة ظهر الاسم الأعظم، ويقصد من الاسم الأعظم هو الذي يمكن التصرف من خلاله في عالم الوجود، وليس للناس العاديـين سبيل إلى معرفته.

وجوابه، إنه ليس من المسلم اطلاق الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى على خصوص أسماءه تعالى اللفظية، بل يطلق أيضاً على أسمائه التكوينية، وهذا مانع من الجزم بما ذكر.

 

ومنها: إن الحروف المقطعة قد ذكرت من أجل تنبيه الكفار وإسكاتهم، فقد كانوا يتواصون أن لا يسمعوا القرآن الكريم من النبي(ص)، وأن يحولوا دون الاستماع إليه، بإثارة الجلبة والضوضاء، فكانوا يقومون بأعمال كالتصفير والتصفيق واللغط من أجل صرف النبي(ص) عن تلاوته، أو دفعه للوقوع في الخطأ.

 

ومنها: أن يكون المقصود منها الإشارة إلى بعض المعاني المقصودة وفقاً لحساب الجمل، وهو الحساب الأبجدي. وقد اختلف القائلون بهذا القول إلى فريقين:

أحدهما: من جعل الحروف تدل وفقاً لحساب الجمل على الإشارة لبعض الأحداث المهمة، كفترة بقاء الأمم والأقوام، وآجالهم، كما أنها تشير لآلاء الله سبحانه وتعالى ولبلاياه، فقد جاء في بعض الأخبار أن المص ناظرة إلى انقراض الدولة الأموية.

وبالجملة، إنها تشير إلى جملة من الأحداث والتواريخ المهمة. وهذا ما أختاره الباحث(حفظه الله).

 

ثانيهما: ما أختاره الشهيد السيد مصطفى الخميني(ره)، من أنها تشير إلى عدد الآيات المكية في كل واحدة من السور المذكورة، وللسيد مصطفى(ره) منهج خاص في الحساب المذكور، لأنه تارة ينظر لسورة واحدة، ويعمد إلى تقرير حساب الجمل على ذلك، وأخرى يجعل المدار على ملاحظة الوحدة وهذا يتكون من سورتين أو أكثر. فمثلاً قد تعاطى مع سورة الأعراف من النحو الأول، فنظر إليها بلحاظ السورة الواحدة، ومن ثمّ قرر أن عدد الحساب الأبجدي للحروف التي وردت في مطلعها وهي: المص، يساوي مائة وواحد وستون، وعدد آياتها هو مائنتان وخمس آيات، يبلغ المكي منها مائة وواحد وستون، والباقي مدني.

 

واستخدم النحو الثاني في سورتي هود ويوسف، على أساس تتابعهما في النـزول، وقد ابتدأت السورتان بـ(الر)، وهو يساوي مائتان وواحد وثلاثون، في سورة هود مائة وعشرون مكية، ويوسف كلها مكية لو جمعنا المكي كان مساوياً لمائتين وواحد وثلاثين، وهو ما يساويه الرمز(الر).

ولم يتضمن كلامه(ره) إقامة الدليل على أن الآيات الأخرى الموجودة في أي سورة من السور التي افتتح بالحروف المقطعة، مدنية، نعم قد تضمن الدليل على كون بعض تلك الآيات كما في سورة الأعراف مثلاً أنها مدنية، لكنه لم يتضمن دليلاً يفيد مدنية بقية الآيات.

والحق أنه يصعب البناء على أي قول من الأقوال المذكورة في كلمات المفسرين، خصوصاً وأن الأقوال المذكورة تفتقر إلى الدليل، ما يجعلها مجرد دعوى. وعليه لابد وأن يرد ما يتعلق بالحروف المقطعة إلى أهله، فإنهم أعلم به وبحقيقته.

 

وقفة مع الباحث:

ثم إنه بعد الاطلاع على  الأقوال في الحروف المقطعة، ومنه البناء على تفسيرها وفقاً لحساب الجمل، وأنه لا يوجد ما يوجب ترجحه على بقية الأقوال الأخرى، خصوصاً وأن هذا القول لم يقم عليه دليل أصلاً. لأن النص المتصور دلالته على مشروعية هذا القول، ضعيف سنداً، هذا أولاً.

ثانياً: إن مجرد مشابهة قصة نبي من الأنبياء في جوانب معينة لسيرة أحد المعصومين(ع)، لا يستوجب أن تكون السورة المتضمنة لتلك القصة مشيرة للمعصوم(ع)، لأن هذا من تحميل الآيات القرآنية ما هو خلاف ظاهرها، وهذا نحو من أنحاء التطبيق، والذي أشرنا إليه قبل قليل، ونظرنا له بالإسقاطات لنصوص علامات الظهور على الأحداث التي تقع خارجاً بين فينة وأخرى، ومن الواضح أن هذا أقرب للمنهج العلمي، وقد عرفت في ما تقدم ما فيه.

 

على أنه لو رفعنا اليد، وبني على القبول بأن وجود مشابهة يستدعي كون ذكر قصة النبي في سورة ما ناظر لقصة المعصوم(ع)، فإن هذا يوجب أن تكون سورة مريم على سبيل هي سورة الإمام الحسين(ع)، وليست سورة الإمام الجواد(ع)، فإن هناك جهات مشابهة كثيرة جداً بين الإمام الحسين(ع)، وبين نبي الله يحيى(ع)، فما هو الموجب لحمل السورة على الإمام الجواد(ع)، دون الإمام الحسين.

 

إن قلت: إن الداعي لذلك هو ملاحظة حساب الجمل، فإن المقدار يتوافق وسنة ولادة الإمام الجواد(ع).

 

قلت: إنه يمكن معالجة هذا العدد بنحو من الأنحاء كما صنعه الكاتب المذكور، عندما أراد أن يجعل السورة نفسها منطبقة على سنة ولادة مولاي ولي النعمة صاحب الناحية(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، إذ أضاف للعدد المذكور سنة خروج الإمام الحسين(ع)، من دون ذكر السبب الموجب لذلك، وعليه يمكن أن يعمد بنحو ما إلى معالجة الحساب ليكون منسجماً والسيرة الحسينية.

 

وهكذا أيضاً ما ذكره بشأن المشابهة بين سيدي صاحب العصر والزمان(عج)، والمسيح عيسى(ع)، وكأنه يشير إلى امكانية جعل السورة سورة الإمام المهدي(ع).

ثالثاً: إن اللازم من كلامه(زيد في علو مقامه)، إمكانية تطبيق كل واحدة من السور والتي افتتحت بالحروف المقطعة على سيرة المعصومين(ع)، وقد تنطبق السورة على أكثر من واحد بحسب الجهة الملحوظة، كما في قصة نبي الله يحيى، والإمام الجواد، والإمام الحسين(ع). فيمكن أن تجعل سورة يونس سورة الإمام الكاظم(ع)، لأن هناك جهة اشتراك ومشابهة بين قصة نبي الله يونس(ع)، وسيرة الإمام الكاظم(ع)، فكما أن بني الله يونس قد سجن ف بطن الحوت، فهذا الإمام موسى(ع)، قد سجن في سجن هارون، وكما أن نبيا لله ينس(ع) انقطع إلى الله تعالى عندما كان في سجنه، فكذلك كان الإمام موسى(ع)، يشكر الله تعالى أن فرغه لعبادته، ومع موافقة مفتتح السورة من حيث حساب الجمل بنحو ما لشيء يرتبط بسيرة الإمام موسى(ع)، فسوف تكون السورة سورته، وهكذا.

 

رابعاً: إنه لو رفعت اليد عن جميع ما تقدم من الملاحظات على القول المذكور ،يبقى أنك قد عرفت أن القول بتفسير الحروف المقطع بحساب الجمل الأبجدي له نحوان، فما هو المرجح لهذا النحو الذي اتخذه الكاتب المذكور، على النحو الآخر الذي اتخذه الشهيد السيد مصطفى الخميني(ره)، فإنه كما يمكن البناء على حقانية النحو المتخذ من قبل الباحث، يمكن البناء على حقانية النحو المتخذ من قبل الشهيد السيد مصطفى(ره).

 

وهذا ولنشر في الختام إلى أنه لا ينكر وجود مجموعة من الآيات القرآنية منطبقة على أهل بيت العصمة والطهارة(ع)، وهذا أمر لا مجال لإنكاره، ولو أنكره شخص فإن في قلبه مرض، إلا أن هذا الانطباق لابد وأن يكون ناشئاً من وجود الدليل الدال على ذلك، لا أنه من التحميل للشيء أكثر مما يتحمل لأجل الوصول لهذا كما يحصل اليوم عند كثير من الخطباء والباحثين، بدعوى أن هذا نحو من أنحاء الدفاع عن العقيدة والتأكيد على أهميته، ولذا نجد أن كثيرين يصرون على تفسير الكوثر في سورة الكوثر بالسيدة الزهراء(ع) صريحاً، بل ربما أدعى بعضهم أن هناك نصاً يدل على ذلك، مع أن الرجوع لأقوال المفسرين، ومتابعة النصوص المتصورة حول الآية المذكورة، وملاحظة ما جاء في فضائل الطاهرة(ع)، ينفي القبول بمثل هذا، ويوضح أن هذا من التحميل للشيء أكثر مما يتحمل، نعم الوارد أن أحد المعاني في الآية أن الكوثر هو الذرية، ومن المعروف أن ذريته(ص) منحصرة في السيدة الزهراء(ع)، فيمكن الحمل من هذا الباب، وهذا قد يحكم بعدم كونه تفسيراً، فتأمل.

 

 

[1] العلامة السيد سامي البدري(حفظه الله)

[2] وسائل الشيعة ج 27 ب 13 من أبواب صفات القاضي ح 66 ص 202.

[3] تفسير الطبري ج 1 ص 27.

[4] البيان في تفسير القرآن ص 287.

[5] لا يكاد يختلف ما ذكرناه نقلاً عن بعض الأعاظم(ره) مع ما ذكره السيد العلامة الطباطبائي(ره)، حي قال: إن التفسير بالرأي المنهي عنه هو الاستقلال بالرأي في تفسير القرآن، من غير استمداد من الغير، وذلك الغير هو الكتاب لا السنة، لمنافاته لما ورد من النصوص من الأمر بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه. تفسير الميزان ج 3 ص 76-77.

[6] تفسير العياشي ج 2 ص 3.

[7] تفسير القم ج 2 ص 268.

[8] وقد ذكر الشيخ معرفة(ره) في كتابه التفسير والمفسرون تعريفاً آخر أوسع مما ذكرنا لكنه يؤول له لباً. التفسير والمفسرون ج 2 ص 443.

[9] ممن ذكر ذلك السيد العلامة(ره) في تفسيره الميزان، فلاحظ الميزان ج 1 ص 7-8.

[10] كمال الدين وإتمام النعمة ج 2 ح 21 ص 461. ووفقاً لهذا النص، سوف يلتـزم بعدم اختصاص الحروف المذكورة بالقرآن الكريم، لأن مقتضاه علم نبيا لله زكريا(ع) بها، نعم لو كان المقصود عدم وجودها فيا لكتب السماوية، كان وجيهاً، فتأمل.

[11] البرهان في تفسير القرآن ج 1 ص 125.

[12] مجمع البيان ج 8 ص 465.

[13] الخصال ص 495.

[14] معاني الأخبار ص 23~، نقلها السيد العلامة الطباطبائي(ره) في الميزان ج 18 ص 13-14. وله عليها تعليق لطيف جداً.