29 مارس,2024

الجار حدوده وحقوقه

اطبع المقالة اطبع المقالة

جاءت الشريعة الإسلامية تحمل في طياتها مجموعة من المفاهيم والقيم التربوية والأخلاقية التي دعت إلى تطبيقها في الأوساط الاجتماعية، وطالبت الأفراد الالتزام بها وتحقيقها خارجاً، مثل: عيادة المرضى، وتشيـيع الجنائز، وإكرام الضيف، وحفظ حقوق الجار والأدب معه والقيام بواجبه وحرمة إيذائه والتعدي عليه، بل قيل أنها قد جعلت حقه من أعظم حقوق الإنسانية.
وكما أولت الشريعة السمحاء أهمية لحق الجوار، فقد عمدت إلى بيان ما له من حقوق وواجبات، فقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر(ع) أنه قال: ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى.

ويثير هذا التركيز من الشارع المقدس على هذه المفردات القيمية والأخلاقية تساؤلاً مهماً مفاده: ما هو الداعي للاعتناء بمسألة الترابط الاجتماعي، ولماذا يركز الإسلام على العلاقات الاجتماعية؟

الترابط الاجتماعي وأهميته:

ونحتاج قبل الإجابة على التساؤل المذكور، أن نحيط بالعوامل التي تؤثر في الترابط الاجتماعي، ويكون لها الأثر في بناء المجتمع، فإن المستفاد من كلمات المختصين في هذا المجال أنها ثلاثة:
الأول: العوامل الطبيعية: ويقصد بها الميل الطبيعي من الإنسان إلى الجنس الآخر، كميل الرجل للمرأة، وميل المرأة للرجل، الناجم من الغريزية الطبيعية الموجودة في كليهما، الموجبة لحصول التقارب بينهما، لتكوين أسرة خاصة بهما.

ومن الواضح أن هذه الغريزية الطبيعية تمهد لتكوين المجتمعات الصغيرة التي تأخذ بالاتساع تدريجياً، لتنتقل من عنوان الأسرة الخاصة، إلى القبيلة، ومن ثمّ العشيرة، وما شابه ذلك.

الثاني: العوامل العاطفية: وهي العلاقة التي تربط بين أفراد الأسرة، لتكون عاصماً وصائناً لهذا التجمع الأسري من التشتت والتفكيك. وهي نوعان:

أحدهما: العواطف التي تكون موجودة مع أفراد التجمع الأسري الخاص، كالعاطفة التي بين الوالد وولده، والزوج وزوجته، وهكذا.
ثانيهما: العاطفة التي تكون من أفراد المجتمع، وهو الدائرة الأوسع من الأسرة، ويتحكم فيها وجود مصلحة مادية أو معنوية بين الأفراد تحكم تلك العاطفة الحاصلة بينهم.
الثالث: العوامل العقلانية: ويقصد بها ما يتوصل إليه الإنسان نتيجة إعمال التفكر والنظر في عدم قدرته على تلبية احتياجاته منفرداً، وأنه لا يمكنه أن يستغني عن الآخرين، فيجد نفسه بحاجة إليهم حتى يصل إليها، فيجد نفسه محتاجاً للطبيب، والبناء، والبائع، وهكذا.

وبالجملة، يقصد بها حاجة الإنسان إلى الآخر لتلبية احتياجاته المادية والمعنوية، ولذا يأمر بإقامة علاقات مشتركة مع الآخرين من بني جنسه لتوفير متطلبات حياته.

وتعتبر هذه العوامل العنصر الأساس في بناء المجتمعات المدنية، لأن العقل يدعو إلى تأسيس المجتمع على أساس مصالح أعضائه، المادية منها والمعنوية. وعليه سوف تختلف العلاقات المتصورة بين أفراد المجتمع، لأنه قد تكون علاقات مادية بحتة، وقد تكون علاقات معنوية بحتة، وقد يجتمع النوعان فيها، فتكون علاقة ذات بعد مادي وبعد معنوي.

ومن خلال ما تقدم، يتضح منشأ اهتمام الإسلام والشريعة السمحاء بمسألة العلاقات الاجتماعية واعتنائه بالترابط الاجتماعي والتركيز عليه، ذلك أن الإسلام يهدف إلى وحدة بني الإنسان على أساس تحقيق مصالحهم المادية والمعنوية، بحيث يؤسسون مجتمعاً واحداً يكون محوره الدين الحق لأنه العامل لتحقيق المصالح المعنوية للإنسان، ولا يكتفي بتحقيق المصالح المادية.

ويستفاد هذا المعنى من آيات عديدة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:- (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)[1].

والحاصل، إن المستفاد من جميع الآيات القرآنية المباركة، أن الحالة المثالية في الرؤية الإسلامية أن يتحد جميع أفراد الإنسان حول محور الدين، وأن يسعوا في سبيله ويتخذوه محوراً للترابط والتضامن ويثيروا الاختلاف والتفرق[2].

الجار معناه وحدوده:

ثم إنه بعد وضوح الرؤية القرآنية للعلاقات الاجتماعية، لنركز على مفردة من مفرداتها، وهي مفردة الجوار، فمن هو الجار الذي عنت الشريعة السمحاء بالاهتمام به والتركيز على أداء حقوقه، وما هي حدوده المكانية، بمعنى كم من الجيران يلزم المكلف أن يقوم بمراعاة حقوقهم، وهل يحدّ ذلك بعدد معين، أم أنه من الموضوعات التي يترك تحديدها للعرف كي ما يقرر من يراعى ومن لا يلزم مراعاته.

للجار حقيقتان، أو مفهومان، أحدهما لغوي، والآخر عرفي. أما حقيقة الجار اللغوية: فإن المستفاد من كلمات أهل اللغة أن الجار يطلق على كل من جاورك في المسكن من الجهات الأربع، الذي يميل ظل بيته إلى بيتك من الجو.

ويتضح من البيان السابق، عدم وجود سعة في حقيقة الجار، بل هي تحدده بعدد معين يتأطر في ما يناله ظل بيته على بيتك.

وأما حقيقة الجار العرفية: فإن الجار يطلق عند العرف العام على كل ما في البلد والقرى الصغيرة من الدور. وكثيراً ما نجد إطلاقه على مقدار أربعين داراً من الجهات الأربع.
ولا كلام في سعة الحقيقة العرفية لمفهوم الجار عن الحقيقة اللغوية لمفهومه، كما لا يخفى.

ولا يظهر أن للشارع المقدس مصطلحاً خاصاً في حقيقة الجار وبيان مفهومه، بل إن المستفاد من النصوص، موافقته للحقيقة العرفية، وبنائه على تحديد حقيقته بها، فقد ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) أنه قال: حدّ الجوار أربعون داراً من كل جانب: من بين يديه ومن خلفه، وعن يمنيه، وعن شماله[3].

وقال رسول الله(ص): كل أربعين داراً جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله[4].
وقال أمير المؤمنين(ع): حريم المسجد أربعون ذراعاً، والجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها[5].

والمستفاد من النصوص الشريفة سعة حقيقة الجار شرعاً، وأنه يصل إلى أربعين داراً، ولذا قد يكون جميع سكنة بعض المحلات أو القرى الصغيرة داخلين في حريم الجوار، كما لا يخفى.

حد الجوار:

ووفقاً لما يظهر من النصوص السابقة والتي تضمنت تحديد حقيقة الجار بأربعين داراً، يفهم حدّ الجوار الذي يلزم مراعاته في الحقوق، وأدائها إليه، فقد عرفت تحديدها من الجوانب الأربع بأربعين داراً، من كل جهة جهة، فيكون لجميعهم الحقوق المفروضة للجار على جاره، ويستحقونها. فعن أبي عبد الله(ع)-في حديث-إن رسول الله(ص) أتاه رجل من الأنصار، فقال: إني اشتريت داراً من بني فلان، وإن أقرب جيراني مني جواراً من لا أرجو خيره ولا آمن شره، قال: فأمر رسول الله(ص) علياً وسلمان وأبا ذر، ونسيت آخر وأظنه المقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه، فنادوا بها ثلاثاً ثم أومأ بيده إلى كل أربعين داراً من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله[6]. وهذا النص مضافاً لتحديده الجوار بصورة صريحة بأربعين دار من كل جهة، فقد تعرض لشيء من الحقوق الثابتة للجار على جاره، وسيأتي شيء من ذلك إن شاء الله فأنتظر.

تقسيم الجار:

ويظهر من القرآن الكريم انقسام الجار إلى قسمين، اختلف المفسرون في بيانهما، فأتخذ كل فريق تقسيمه إليهما بصورة مغايرة عن الآخر، فنتج عنه وجود تقسيمين إليه:

الأول: تقسيمه إلى الجار النسبي، والجار الأجنبي، فيلتزم بوجود نوعين للجار:
أحدهما: من تربطك به علاقة نسبية، ويكون من الرحم من دون فرق بين كونه رحماً قريباً، أو من الرحم البعيد، والمناط على وجود علقة نسبية بينك وبينه.
وثانيهما: من لا يوجد بينك وبينه أي علاقة نسبية أبداً، بل هو شخص أجنبي عنك.

الثاني: تقسيمه إلى الجار القريب وإلى الجار البعيد، ولا يلحظ في هذا التقسيم القرب والنسب، وإنما يلحظ المكان، فمن يكون أقرب إلى دارك، يعبر عنه بالجار القريب، ومن كانت داره أبعد من دارك، قيل له الجار البعيد.

ومنشأ هذا الاختلاف يعود لما فهمه كل فريق منهم من قوله تعالى:- (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب)[7]، حيث وقع الخلاف بينهم في تفسير قوله تعالى:- (والجار ذي القربى)، وقوله تعالى:- (والجار الجنب)، ففسر بعضهم العبارة الأولى بالقرابة معتمدين على استعمال القرآن الكريم في العديد من آياته هذا التعبير لمن يرتبط بالعلقة النسبية، ولم يعهد منه استخدامه في القرب المكاني، فيكون استعماله في العلاقة النسبية بمثابة الحقيقة، وحمله على إرادة القرب المكاني يكون من الاستعمال المجازي الذي يحتاج قرينة كما لا يخفى. وبناء عليه قالوا بأن الجار نوعان، جار نسبي، وجار أجنبي.

واعتمد القائلون بالتقسيم الثاني على نفس الآية المباركة فقد تضمنت استعراضاً لحقوق القرابة، ولا ريب أن منها حق الجوار، فأي معنى لأن تعمد إلى ذكره مرة ثانية بعدما أشارت إليه في البداية، فإن هذا سوف يكون من التكرار. وهذا بنفسه يشكل قرينة لو بني على أن القرآن الكريم لا يستعمل لفظة القرابة إلا في العلاقة النسبية ليكون موجباً لحمل هذا اللفظ على المعنى الآخر، وهو القرب المكاني.

وقد يدعى أن ذكر الآية لموضوع القرابة لا يمنع من تكرار ذكرها ثانية، لأن الغاية من ذلك التأكيد على وجود حقين ثابتين في بعض المواضع، وهما حق القرابة وحق الجوار، وأنه يلزم المكلف مراعاتهما.

وكأنه يشير سبحانه وتعالى إلى التأكيد على هذين الحقين وعدم تداخلهما.

واحتمل بعضهم تقسيماً ثالثاً، حاصله: أن الأول هو القريب منك بالإسلام، والثاني هو البعيد عنك في الدين، كما لو كان من ملة أخرى كالكافر أو المشرك، أو المخالف، ومنشأ هذا التقسيم ما جاء عنه(ص) أنه قال: الجيران ثلاثة: جار له ثلاثة حقوق، حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب[8].

ولعل ذكر الجار البعيد دفع توهم، لأن بعض الناس يعتقد ضيق مفهوم الجار، وأنه لا يتعدى من حوله، فأراد الشارع المقدس الإشارة إلى سعة هذا المفهوم، وأنه يحدّ بأربعين داراً.
وكيف ما كان، إن الحديث حول مدى دلالة الآية الشريفة، ومن ثمّ التعمق أكثر بالبحث حول تقسيم الجار، وما يتعلق بذلك وفقاً لما يستفاد من الآية المباركة، أو من النصوص المعصومية، يخرج بهذا البحث عن اختصاره، وإيجازه، ولذا يمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك في البحوث التخصصية، التفسيرية، والروائية.

واقعنا الاجتماعي:

ثم إنه بعد الإحاطة الإجمالية بأهمية العلاقات الاجتماعية، وأهمية مسألة الجار والجوار، لنقف على واقعنا الاجتماعي اليوم، وعلاقاتنا مع جيراننا، وهل أننا ممن يؤدي حقوق الجار أم لا؟
إن الإجابة على ذلك تتوقف على الإحاطة بحقوق الجار، وهذا يعني أننا بحاجة أن نتعرف في البداية على تلك الحقوق الثابتة إليه، والتي نصت عليها الشريعة السمحاء، حتى يتسنى لنا بعد ذلك أن نقرر أننا ممن يؤدي حقوقه أو أنه قد أهملها.

ومن أشمل النصوص التي تعرضت لذكر حقوق الجار، ما جاء في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع)، قال(ع): وحق جارك حفظه غائباً، وإكرامه شاهداً، ونصرته إذا كان مظلوماً، ولا تتبع له عورة، ولا تبحث له عن سوأة لتعرفها، فإن عرفتها منه من غير إرادة منك ولا تكلف كنت لما علمت حصناً حصيناً، فإن علمت عليه سوءاً سترته عليه، وإن علمت أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا نسلمه عند شدائده، وتقيل عثراته وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة، ولا تدخر حلمك عنه إذا جهل عليك، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة، وتبطل فيه كيد حامل النصيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد تضمن هذا العرض منه(ع) تقسيم حقوق الجار إلى قسمين:

الأول: ما جاء بنحو الأمر الإرشادي.
الثاني: ما جاء بنحو النهي الإرشادي.

وسوف نشير إلى بعض الموارد التي ذكرها(ع)، ونعقب عليها بصورة موجزة، دون تفصيل لأنها من الأمور البينة والواضحة التي لا تحتاج شرحاً.
فمن الأول، أمور:

منها: حفظه غائباً، وذلك بأن تحفظه في غيبته، ويتحقق حفظه في غيبته من خلال التالي:
1- حفظ عياله، فتحافظ عليهم كما تحافظ على عيالك، فيكون أبناؤه أبنائك وبناته بناتك.
2-حفظ بيته، فتصونه من أن يكون شرعة لكل من أرد أن يرده، كما تقوم بحفظ بيتك فلا تسمح لأي أحد أن يتسوره دون إذن منك.
3-حفظ ستره وشرفه، وسمعته، حال غيابه.

والحاصل، أن تنـزله منـزلة نفسك، فكل ما تعمد إلى تحقيقه لنفسك، وتحمي شخصك منه، تقوم به إليه، وتحميه منه.

ومنها: حفظ كرامته حال حضوره، ويمكن إبراز ذلك من خلال عدة ممارسات، كاحترامه عند لقياه، بأن تقف إليه متى دخل مجلساً من المجالس، أو تعانقه متى لقيته، وأن تعمد إلى تعظيمه، كما تقوم بذكر فضائله وجمال سيرته.

والحاصل، إن المطلوب من الجار أداء لحق جاره أن يقوم بعمل كل ما يحقق عنوان التعظيم والإكرام لجاره قولاً وفعلاً.

ومنها: أن القيام بنصرته ومعونته، سواء كان حاضراً واحتاج إلى نصرة ومعونة، أم كان غائباً، واستوجب الأمر أن ينصر حال غيبته.

وتكون نصرته سواء حال وجوده وحضوره، أم حال غيابه بالوقوف في وجه مبغضيه، وحاسديه، وشانئيه، سواء كان ذلك منهم في ما يرتبط بدينه، أم كان ذلك في ما يرتبط بدنياه.
ومن الثاني، أعني النهي الإرشادي، أمور أيضاً:

منها: عدم تتبع عورته، فلا يقوم باستماع ما يجري في بيته، بل ولا يعمد إلى السماع أيضاً، فضلاً عن أن يشاهد ما يجري فيه، كما عليه أن لا يرصد ما يصدر منه أو من عياله في ذلك البيت.

بل لا ينبغي أن يقوم بالتدخل في أي شأن من شؤونه بسؤال تطفلي طفيلي.
وبالجملة، إن المطلوب من الجار أن لا يلحظ أي خلل مما يعدّ موضعاً للطعن والضرب والقدح في جاره.

ومنها: عدم البحث عن سوءة، فلا يقوم بالتفحص خلفه، ولا يتجسس عليه لمعرفة سوأته متى اطلع عليها.
وبالجملة، إن المطلوب من الجار أن لا يبحث عن أي شيء يكون مكروهاً لجاره ويسعى للاطلاع عليه.

ومنها: عدم تصديق أقوال الآخرين فيه، فلا يصغي لما يقال عنه، بأنه قد فعل كذا، وأنه قد قام بكذا، وما شابه ذلك. بل لو حصل وسمع شيئاً حوله، فلا ينبغي أن يرتب على ذلك أثراً من قريب أو بعيد، خصوصاً إذا كان المنقول إليك شيئاً يرتبط بالمنقول إليه، بحيث جاء هؤلاء يخبروه أن فلاناً قال فيه كذا، وتحدث عنه بكذا وذكر في شأنه كذا، وجميع ما حكي على لسانه لم يصدر منه شيء فيه، فلا ينبغي ترتيب أثر على مثل هكذا كلمات.

ومنها: الوقوف إلى جانبه في الشدائد والملمات، ولا تنحصر عملية الوقوف إلى جانبه في خصوص مواساته، بل هذا أحد السبل والمسالك التي يمكن استعمالها، بل تقدم له يد العون والمساعدة، في الظروف البائسة، والشديدة عند المحن.

ومنها: عدم حسده على نعمة أنعم الله تعالى بها عليه، بأن تتمنى زوال ما أعطيه من نعم وعطايا منه تعالى. بل ينبغي أن تشاركه فرحته بتلك النعم وتستر لما حصل عليه، وكأن ذلك قد حصل إليك.
ومنها: إقالة عثراته، فلا تحاسبه على ما صدر منه غفلة أو صدفة من زلة وعثرة وهفوة، بل تقابل ذلك بالحلم والصفح.

ومنها: أن لا تذخر الحلم عنه، بأن تضبط نفسك وتحكم عقلك عندما يصدر منه ما لا يرضيك، فلا تعاجله بالإهانة والإساءة والشتيمة، بل تقابل ذلك بكل هدوء وأريحية.
ويفرق هذا الأمر عن سابقه، أن السابق قد يكون صدور ذلك منه من باب الصدفة والغفلة، فلا يتكرر منه أكثر من مرة، وهذا لا يجري في المورد، إذ الظاهر أنه يصدر منه مكرراً، ولذا كانت كلمته(ع) أن يقابل ذلك بالحلم والرفق واللين.

ومنها: أن ترد عنه كل شتيمة، فلا يرضى أن يسب ويشتم جاره أمامه، إلا ويقوم بالدفاع عنه، وبرد ما صدر من الشاتم إليه.
والآن، وقد أحطنا بشيء إجمالي بما للجار من حقوق، يمكننا أن نقف مع أنفسنا متسائلين: أين نحن اليوم من هذه الحقوق، وهل أننا ممن يؤدي هذه الحقوق لجيرانه، أم لا؟
إن الصحيح أننا أبعد ما نكون عن أداء حقوق الجوار والجار، وأننا لا نطبق أغلب هذه الحقوق التي تضمنتها كلمة الإمام زين العابدين(ع)، ولو تأملنا لوجدنا أن السبب الذي دعى أن تكون حالنا بهذه الكيفية، ما نعيشه اليوم من حياة مدنية حتى أصبح الواحد منا لا يعرف جاره الذي إلى جواره، ولا يطرق عليه باباً. بل لا يدري من يسكن إلى جنبه، بل قد يصل الأمر إلى أنه لا يعرف حتى اسمه، وكأنه أجنبي عنه وغريب بالنسبة إليه.

إن مما لا ينكر، تأثير الحياة المدنية في وسطنا الاجتماعي، وتغلغلها فيه بشكل كبير، أفقدته نسيجه الاجتماعي، وغيرّت الكثير من صورته التركيبية، وجعلته بنحو يختلف عما أريد إليه.

خاتمة:

ومن الجميل جداً، أن نختم هذه الكلمة، بما جاء عن الإمام الكاظم(ع)، في أداء حق الجوار، ومراعاة الجار، فقد جاء عنه(ع) أنه قال: ليس حسن الجوار كف الأذى، لكن حسن الجوار الصبر على الأذى.

يا لها من كلمة، قد أوجز بأبي وأمي القول، وأتى بكل ما يلزم من حقوق الجار على جاره، فقد عبر بأنه لا يعتقد أحدكم أنه لو قام بكف أذاه جاره، فقد أدى حقوقه، إن حق الجار أبعد من ذلك، فإنه يلزمه أن يصبر على أذى جاره، لا أن يقتصر على كفه أذاه عنه. فمن كان له جار يؤذيه، وصبر على أذى هذا الجار، كان ذلك مراعياً لحسن الجوار، وكأنه(ع) يريد أن يشير إلى المقدار الأكمل والأتم الذي يوجب تحقيق حق الجوار، ويؤدي إلى حصوله.

[1] سورة آل عمران الآية رقم 103.
[2] الأخلاق في القرآن الكريم ج 3 ص 91.
[3] وسائل الشيعة ج 12 ب 90 من أبواب أحكام العشرة ح 1 ص 132.
[4] المصدر السابق ح 2.
[5] المصدر السابق ح 4.
[6] المصدر السابق ب 86 من أبواب أحكام العشرة ح 1 ص 125.
[7] سورة النساء الآية رقم 36.
[8] تفسير القرطبي ج 5 ص 184.