19 أبريل,2024

أصحاب رسول الله (2)

اطبع المقالة اطبع المقالة

قال تعالى:- (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منعم مغفرة وأجراً عظيماً)[1].

تحدثنا فيما سبق حول الصفات التي ذكرتها الآية الشريفة لأصحاب رسول الله(ص)، وأشرنا إلى أنها خمس، تحدثنا عن اثنـتين منها، وبقي الحديث عن الصفات الأخرى.

ركعاً سجداً:

الصفة الثالثة التي تحدثت الآية الشريفة عن اتصاف أصحاب رسول الله(ص) بها، أنهم (ركعاً سجداً) وهي بهذا تشير إلى اتصاف هؤلاء الأفراد بصفة تميزهم عن الآخرين وهي صفة الصلاة، لأن الظاهر أن المراد من كونهم(ركعاً سجداً) إشارة إلى الصلاة التي تكون مشتملة على هذين الأمرين، الركوع والسجود.

ولا يخفى ما لهذه العبادة من أهمية في حياة الفرد المسلم، حيث أنه يقوم بأدائها في اليوم والليلة خمس مرات، وهي تمثل تمام التسليم والانقياد لله سبحانه وتعالى، واستبعاد حب الذات أو الشعور بالأنا، فضلاً عن الكبر والغرور وما شابه.

وقد أولى القرآن الكريم أهمية خاصة لهذه العبادة أعني الصلاة، دون بقية العبادات، فمع أنه نص الشارع المقدس على وجوب الصوم على المكلفين، وأنه مفروض عليهم كما كان مفروضاً على الأمم السابقة، وأنه طريق لتحصيل التقوى.

إلا أنه لم يتعدد الحديث عنه في القرآن الكريم، فضلاً عن تعدد أسلوب الطرح والبيان.

وكذا الحج مثلاً، والخمس وربما قلنا ذلك أيضاً بالنسبة للزكاة. وهذا بخلافه بالنسبة لهذه العبادة الدائمية التي تمثل خط الاستقامة والاستمرار على الطاعة الربانية، حيث نجد أنه تم الاعتناء بها من خلال عدة بيانات صدرت من الشارع المقدس، فتارة نراه سبحانه وتعالى يتعرض للحديث عن أصل التشريع والفرض، قوله تعالى:- ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)[2]. وأخرى يتعرض لبيان بعض الأحكام المتعلقة بها كالإشارة إلى وقتها، فيقول تعالى:- ( أقم الصلاة إلى دلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً)[3].

ويتعرض مرة ثالثة إلى بيان أحوال بعض المؤمنين فينص على أن إحدى صفاتهم كونهم من المصلين، يقول تعالى:- ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً)[4].

وأشار إلى أهمية الصلاة ولزوم الاعتناء بها والمحافظة على أدائها، فقال تعالى:- ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)[5].

كما تعرض إلى حكم الصلاة في السفر، وأن وظيفة المكلف حينئذٍ هي التقصير، فقال تعالى:- (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)[6]. وغير ذلك من الآيات القرآنية الشريفة التي يجدها القارئ للقرآن الكريم، ويلحظ ما أشرنا إليه في تعدد طريقة العرض والبيان لأهمية هذه العبادة، ومدى الاعتناء بها من الباري سبحانه وتعالى.

سؤال وجواب:

بعد هذا يتبادر إلى الذهن سؤال، مفاده: إن هذه العبادة مفروضة من الله سبحانه وتعالى على كافة الخلق مثلها مثل بقية التكاليف الإلهية من غير فرق بين الصغير والكبير، ولا بين المؤمن والكافر-بناءاً على تكليف الكفار بالفروع، كتكليفهم بالأصول-فلماذا خصها الباري سبحانه وتعالى لتكون صفة مميزة لأصحاب رسول الله(ص) مع أنها وظيفة عبادية يؤديها كل أحد من الخلق، ولا يسوغ لأحد منهم أن يفرط في أدائها، هل أن هذا يعني كون جميع المسلمين المؤدين لهذه الفريضة العبادية أصحاباً لرسول الله(ص)، إن هذا مما لا يمكن الالتـزام به، خصوصاً وأننا قد أشرنا في مطلع حديثنا عن الآية الشريفة أنها بصدد تقسيم المسلمين المعاصرين لرسول الله(ص) في ذلك الوقت إلى قسمين، تريد أن تميز بينهما من خلال وجود مجموعة من الصفات عند قسم منهم دون القسم الآخر، وهذا يمنع من كون المورد مثل ما قيل كما هو واضح.

إذاً لابد من وجود نكتة داعية إلى الحديث عن هذه العبادة، ووسم أصحاب رسول الله(ص) بها، مما يعني أن المراد بها ليس مجرد العبادة التي يقوم المسلمون بأدائها في كل يوم وليلة خمس مرات، فما هي تلك العبادة التي تـتحدث الآية الشريفة عنها؟…

وعندما نجيب عن هذا السؤال، نكرر بأن الصفة التي ذكرتها الآية الشريفة، والتي نحن بصدد الحديث عنها ليست إلا خصوص الصلاة المفروضة من الله سبحانه وتعالى على المكلفين، وأن وظيفتهم الشرعية الإتيان بها في اليوم والليلة خمس مرات.

لكن ما ينبغي لفت الأنظار إليه بحيث يتضح المنشأ والداعي إلى وسم أصحاب رسول الله(ص) بها، وجعلها صفة تميزهم عن غيرهم، بحيث أنهم يعرفون بهذه الصفة، هو:

أن القرآن الكريم قد تحدث عن الناس أثناء أدائهم لهذه الصلاة، وقسمهم إلى قسمين، ابتداء من مدى امتثالهم لها، وقيامهم لأدائها، مروراً بكيفية أدائها، وانتهاء بالآثار التي تـتركها عليهم، فلاحظ قوله تعالى:- ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى)[7]. والمراد من الكسالى المتـثاقلين، وهذا يعني أنهم لا يقبلون على الصلاة بشوق ورغبة، بقدر ما يقبلون عليها أداء للواجب، ورغبة في إفراغ الذمة مما تعلق بها. فهم إنما يقومون بهذا العمل العبادي، كأي عمل يقوم المكره بأدائه، لأنه لا يخـتلف اثنان في أن المكره عند إقدامه على أي عمل من الأعمال ما دام مكرهاً عليه لن يكون مقبلاً عليه بشوق ورغبة، بل يكون أدائه إليه خوفاً وسعياً للحفاظ على نفسه أو ماله أو عرضه أو غير ذلك.

ومن هنا عدّ هؤلاء وأمثالهم من المرضى المصابين بالجفاف الروحي، بل ربما قيل أنهم مصابون بحالة الشللية الروحية.

وعندا تحدث عن القسم الثاني، بلحاظ القيام للصلاة قال سبحانه وتعالى:- ( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)[8]، إذ لا يخفى على أحد أن المؤمنين عندما يقومون لأداء الصلاة، ريب في أنهم سوف يقومون بأدائها مقبلين على الله سبحانه وتعالى، منصهرين تمام الانصهار في هذه العبادة الروحية، ومحلقين من خلالها في عالم الملكوت، فيعرجون بواسطتها من عالم إلى الملك إلى عالم الملكوت، ويعيشون حالة من الروح الملائكية التي تجعلهم في محيط التجرد عن الدنيا وملذاتها، فضلاً عن الانسلاخ عن الشهوات والأهواء والأنا، وجميع ما يتعلق بذلك.

ولاحظ قوله تعالى:- ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)[9].

وهؤلاء هم الذين يعيشون حالة من الصحوة الروحية، والعشق الإلهي المفعم بروح الارتباط بالسماء والقدسية.

وقد تحدث القرآن الكريم عن المؤدين لهذه العبادة الربانية من خلال كيفية الأداء من قبل المؤدين لها، فقال سبحانه وتعالى:- (الذين هم في صلاتهم خاشعون)[10]، أي حاضري القلب يرون الله سبحانه وتعالى في كل كلمة تصدر منهم، فيطلبون منه العفو والرحمة، فهم يرون أنفسهم واقفين بين يدي الجليل جلا وعلا، يخضعون له، ويخشعون، ويعيشون حالة من الخوف والرهبة، لكنه خوف من عظمة الله سبحانه، وليس خوفاً من رحمته وعفوه ومغفرته.

ومن الواضح أن هؤلاء هم الذين سوف يكون لهذه العبادة أثرها الفعال عليهم، بحيث أنها سوف تـترك ميزة تجعلهم يمتازون بها دون غيرهم، وسوف تجعلهم يحملون صفة يخـتلفون بها عن غيرهم، والظاهر أن هؤلاء هم المصداق الأجلى والأكمل لقوله تعالى:- ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)[11].

إذ أن مفاد هذه الآية أن للصلاة كعمل عبادي يرتبط المكلف من خلالها بالسماء مجموعة من الآثار الوضعية على المصلي، ومن أهم الآثار التي تـتركها هذه العبادة عليه، كونها سبباً ناهياً له عن الفحشاء والمنكر، ومن هنا قال بعض العلماء[12]، بل هو وارد عن إمامنا أبي عبد الله الصادق(ع): من أراد أن يعلم أن صلاته مقبولة أو لا، فلينظر إن كانت نهته عن فاحشة ومنكر، فإنها مقبولة، وإن لم تنهه عن ذلك، فإنها غير مقبولة.

وقد ورد عن النبي(ص) قوله: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً.

وفي حديث آخر: لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينـتهي عن الفحشاء والمنكر.

فإذاً للصلاة أثر كبير جداً على المكلف، ينبغي على المكلف أثناء أدائه لهذه العبادة أن يسعى للحصول عليه، كي ما يستطيع إحراز إحدى الغايات الأساسية التي ربما كانت سبباً في تشريع هذه العبادة.

هذا وقد أتضح من خلال ما قدمنا ذكره من انقسام المصلين بحسب الآيات القرآنية إلى قسمين، الجواب عن السؤال المذكور، ضرورة أن القرآن الكريم عندما وصف أصحاب رسول الله(ص) بهذه الصفة التي أشرنا لها، لم يكن مراده مجرد أداء هذه العملية العبادية التي يقوم المكلف بأدائها، وإنما أراد العبادة التي تكون خالصة لوجه الله تعالى، من دون أن يكون المكلف فيها منشغلاً عنه بشيء قط. فقد ورد في الحديث أن رسول الله(ص): رأى رجلاً يصلي، وهو يعبث بلحيته، فقال: أما لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

إذاً، هذه العبادة إذا كانت ممتـثلة بكيفيتها التي أرادها الله سبحانه وتعالى، وهي الكيفية المتكاملة، فلا ريب في أنها سوف تكون صفة تميز صاحبها عن بقية الأفراد، وتجعله شخصية مميزة بين أقرانه ومن يعيشون حوله.

ويمكننا معرفة ذلك من خلال ملاحظة عدة نماذج واردة في سيرة أئمتنا(ع)، وبالأخص الإمام أمير المؤمنين(ع)، وما صدر منه في ليلة الهرير، وكيف أنهم لما أرادوا نزع السهم منه، سألوه أن يصلي لربه، وكذا سيرة الإمام زين العابدين(ع)، وهو الذي لم يعرّ أهل بيته خبراً وقد جاءوا يخبروه أن ولداً له وقع في البئر، فقال لهم: شغلني من وقفت بين يده عن كل شيء، وما كان تؤول له حال الإمام الحسن الزكي(ع) عندما يقوم للتوضوء للصلاة،وأمثال ذلك.

هذا ومما يؤكد هذا المعنى الذي استظهرناه، ما جاء في النصوص الواردة عن المعصومين(ع) في أهمية هذه العبادة، وأن للقائم بأدائها شيئاً يميزه عن الآخرين. فقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: تعاهدوا أمر الصلاة، وحافظوا عليها واستكثروا وتقربوا بها، فإنها كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً. وقد عرف حقها رجال من المؤمنين الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، ولا قرة عين من ولد ولا مال، يقول الله سبحانه:- ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة زإيتاء الزكاة…..

عبادة الأحرار:

والذي نخلص إليه من حديثنا عن هذه الصفة ومدى أهميتها، أن القائمين بأدائها مرتبطين بالله سبحانه إرتباطاً خاصاً، وهذا هو الارتباط الخاص ما تعرضت له بعض النصوص وسمته بعبادة الأحرار، فقد ورد عن أمير المؤمنين(ع) قوله: إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.

فإن أمير المؤمنين(ع) من خلال تقسيمه الناس إلى طوائف ثلاث يشير إلى أن هناك امتيازاً لأصحاب الطائفة الثالثة، بحيث تجعلهم في مورد يتغاير مع الطائفتين الأُخريـين، وأنهما لا تشتركان معها في هذه الخصيصة.

وقد أكد أمير المؤمنين(ع) على هذا المنحى في البعد العبادي، وأنه ينبغي أن يكون منهجاً عبادياً صادقاً ينطلق من العلاقة بين العبد والرب، وليس من الخوف من النار أو الطمع في الجنة، من خلال قوله(ع): إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.

بل إننا نجد في دعاء كميل أكثر من هذا: فلئن صيرتني للعقوبات مع أعدائك وجمعت بيني وبين أوليائك، فهبني يا إلهي، وسيدي ومولاي، وربي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك، وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك، فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، أم أسكن في النار ورجائي عفوك.

حيث نجد في هذه العبارة الواردة في الدعاء، أن العلاقة المتبادلة بين الرب والمربوب، ليست علاقة المصلحة، لأنه لو كانت كذلك لانتهت تلك العلاقة بمجرد دخول العبد للنار، لأنه لن يـبقى في قلبه ذرة حب لمن أساء إليه بإيقاعه في مورد المشقة والمحنة. مع أن الدعاء يقرر أمراً آخر، فرغم أن العبد قد دخل النار، إلا أنه لا زال عاشقاً ومحباً لله سبحانه، ولا زال مرتبطاً به. بل ربما قلنا أن العبد يقول يا رب حتى لو أدخلتني النار، فلن أغيّر أمراً من محبتي لك وعشقي إياك.

تنهى عن الفحشاء والمنكر:

لقد أشرنا فيما تقدم أن الصلاة التي يمتاز من خلالها أصحاب رسول الله(ص) عن غيرهم، ليكونوا، هي التي تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر، بل قد عرفت فيما حكيناه عن بعض العلماء، أن إحدى أمارات القبول التي يمكن للمكلف أن يتوصل من خلالها إلى كون صلاته مقبولة أو لا، هي تحقق هذه الصفة.

وقد علل كون الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر بكونها مستجمعة لكافة المعالم الإلهية، حيث أنها تـتضمن التوحيد، كما أنها تحوي التصديق بالنبوة، وتحوي أيضاً الحديث عن الإمامة، وتنطوي على المعاد، فما دامت مستجمعة لأصول الدين من خلال إتيان المكلف بها، فلا ريب في أنها سوف تكون مؤدية إلى النهي عن الفحشاء والمنكر بلا ريب.

نعم هل أن الصلاة بقول مطلق تنهى عن الفحشاء والمنكر، أم أن الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، هو خصوص الصلاة التي تكون مستجمعة لكافة الشروط؟…

لما كان المنكر من الأمور المشككة بمعنى أن له مراتب متعددة، ومتفاوتة في الشدة والضعف، فلا ريب في أنه يمكننا الالتـزام بأن أي صلاة يؤديها الفرد سوف تكون تاركة لأثر عليه، وبالتالي سوف تكون ناهية له عن شيء أو مرتبة من مراتب المنكر، بحسب ما يؤدي من صلاته.

ويشهد لهذا المعنى ما ورد من أن شاباً من الأنصار أدى الصلاة معه، ولكنه كان ملوثاً بالذنوب القبيحة، فأخبروا النبي(ص) فقال: إن صلاته تنهاه يوماً.

نعم هذا لا يعني أن الإنسان سوف يكون بهذا العمل متصفاً بكونه من أصحاب رسول الله(ص) لكون مجرد نهي الصلاة له عن منكر وفاحشة لا يجعله كذلك، بل لابد من توفر ما سبقت منا الإشارة إليه فيما مضى، فلا حاجة للإعادة.

نعم بناءاً على أن الصلاة بمثابة التحصين الوقائي للإنسان، أو بمثابة المطهر له والمزيل للأردان التي أصابته، فإنها سوف تـترك أثرها على الإنسان متى قام بممارستها بما هو حقها، وأدائها بما يكون مستقيماً مع المراد منها. فعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: قال رسول الله(ص): لو كان على باب دار أحدكم نهر فاغتسل في كل يوم منه خمس مرات، أكان يـبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا، قال: فإن مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلما صلى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب[13].

هذا وقد ذكرت الكتب المتخصصة للأخلاق، وللحديث عن الصلاة وأهميتها العديد من الآثار للصلاة بحيث توضح كيف تكون الصلاة وسيلة للنهي عن الفحشاء والمنكر، يمكن للقارئ العزيز ملاحظتها.

حضور القلب:

بقي أن نشير في ختام حديثنا عن هذه الصفة، أنه كيف يمكن للإنسان أن يعرج بصلاته إلى عالم الملكوت، حتى يتسنى له أن يتصف بصفة أصحاب رسول الله(ص)، ويكون منهم؟…

لا ريب في أن أحد أبرز العوامل التي ينبغي تحصيلها لكي يكون الإنسان محصلاً للثمرة المرجوة، ومتصفاً بالصفة المذكورة من خلال صلاته، أن يكون حاضر القلب فيها، لأنه ما لم يكن مقبلاً على الله عز وجل، لن يقبل الله سبحانه عليه، وكيف يكون مقبلاً على الله، إنما يكون ذلك إذا كان حاضر القلب في عبادته، وارتباطه بربه. إذاً كيف يكون الإنسان حاضر القلب؟…هذا ما ينبغي لنا أن نجيب عنه.

لا يخفى على أحد أن الصلاة من دون حضور ليست الغاية التي ينشدها المكلف في علاقته مع الله سبحانه وتعالى، ذلك لأنها لو كانت طريقاً إلى نجاته من النار، إلا أنها لن تكون وسيلة له لبلوغ مدارج الكمال، خصوصاً بملاحظة الحديث النبوي: ليس لك من صلاتك إلا ما أحضرت فيه قلبك[14].

وعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: إن العبد ليرفع من صلاته نصفها أو ثلثها أو ربعها أو خمسها، فما يرفع إلا ما أقبل عليه منها بقلبه، وإنما أمرنا بالنافلة ليتم لهم بها ما نقصوا من الفريضة[15].

ولغواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(قده) كلام يعجبني نقله في المقام، قال(ره): حضور القلب في الصلاة يتبع حال الإنسان فكلما إزداد يقيناً ومعرفة، وأدرك عظمة المعبود، حسنت آداب عبادته وصدرت بنحو أكثر وأكمل، ويكون في مقام العبادة أخضع وأذل، كما في رواية جعفر بن أحمد القمي أنه كان النبي(ص) إذا قام إلى الصلاة يربد وجهه خوفاً من الله تعالى، وكان لصدره أو لجوفه أزيز كأزيز المرجل[16].

ولما كان لهذا الأمر-حضور القلب- هذا المقدار من الأهمية، فما هو السبيل لتحصيله بحيث يتسنى للإنسان أن يكون مصلياً مع حضور قلب.

وقد أجاب عن هذا السؤال الإمام الخميني(قده) من خلال بيان الأسباب الموجبة لعدم حضور القلب، فذكر أنها ترجع لسببين رئيسيـين:

الأول: إن طائر الخيار بنفسه فرار يتعلق دائماً، كطائر من غصن إلى غصن، وهذا لا ربط له بمسألة حب الدنيا، أو التوجه لأمر من أمورها، بل نفس الخيار بما هو كذلك، لأن هذا مرض يصاب به كل أحد حتى التاركين للدنيا، ولذا يحتاج هذا إلى علاج.

الثاني: حب الدنيا، وتعلق الخاطر بالحيثيات الدنيوية، التي هي رأس كل خطيئة، وأم الأمراض الباطنية، وهذا التعلق شوك طريق أهل السلوك، ومنبع المصيـبات[17].

إذاً لكي يستطيع الإنسان أن يملك حضور القلب في الصلاة يحتاج إلى القيام بعملية التخلية، وهذا يتسنى من خلال تخلية القلب من حب الدنيا والتعلق بها، والسيطرة على طائر الخيال، وإلا ما لم يتحقق ذلك، فلا مجال لحضور القلب في الصلاة.

حيث أن المطلوب من الإنسان عندما يقدم على إتيان العبادة أن يجرد نفسه من الدنيا وكل ما يرتبط بها، فعليه أن ينسى عياله وماله ومتجره، حتى يكون قد أخلى قلبه من كل هموم الدنيا ومتعلقاتها، وجرده عن حبها والفكر في ملذاتها.

يقول الإمام الراحل(قده): ولكن شقائنا في أننا نترك كل أفكارنا المتشتـتة، وأوهامنا المختلفة إلى وقت العبادة، وعندما نكبر تكبيرة إحرام الصلاة، فكأننا فتحنا باب المتجر، أو دفتر الحساب، أو كتاب الدرس، ونرسل قلبنا للانصراف إلى أمور أخرى، ونغفل كلياً عن العمل العبادي، وعندما ننـتبه للعبادة نجد أنفسنا في نهاية الصلاة[18].

——————————————————————————–

[1] سورة الفتح الآية رقم 29.

[2] سورة النساء الآية رقم 103.

[3] سورة الإسراء الآية رقم 78.

[4] سورة الفرقان الآيتان 63-64.

[5] سورة البقرة الآية رقم 238.

[6] سورة النساء الآية رقم 101.

[7] سورة النساء الآية رقم 142.

[8] سورة إبراهيم الآية رقم 31.

[9] سورة النور الآية رقم 37.

[10] سورة المؤمنون الآية رقم 2.

[11] سورة العنكبوت الآية رقم 45.

[12] الميرزا جواد الملكي التبريزي(قده) في كتابه أسرار الصلاة.

[13] وسائل الشيعة ب 2 من أبواب أعداد الفرائض ح 3.

[14] بحار الأنوار ج 84 ب 38 ح 22.

[15] وسائل الشيعة ب 17 ح 3.

[16] عين الحياة ج 1 ص 58.

[17] الآداب المعنوية للصلاة ص 90.

[18] الأربعون حديثاً ص 461.