29 مارس,2024

أحكام عامة حول صلة الرحم

اطبع المقالة اطبع المقالة

أحكام عامة حول صلة الرحم

ثم إنه وفقاً لما تقدم، من ثبوت لزوم صلة الرحم، ترد جملة من المسائل ترتبط بالموضوع، نشير إلى أبرزها:

الأولى: إذا كان الرحم كافراً، أو كان من أهل البدع مثلاً، أو كان من المخالفين، أو كان فاسقاً، فهل يلتـزم بثبوت لزوم صلته، أم أن الوجوب يختص بما إذا كان الرحم من المؤمنين؟

ولا يخفى أن جملة من المصاديق المذكورة في المورد خارج عن دائرة ابتلائنا، لذا نحصر الحديث في خصوص ما نبتلى به، وهو ما إذا كان الرحم فاسقاً، فإن المتصور بدواً أنه يلزم الالتـزام بصلته، استناداً إلى أن ما دل على وجوب الصلة لم يتضمن تفريقاً بين ما إذا كان الرحم مؤمناً، وما إذا كان فاسقاً، وهذا يعني ثبوت إطلاق فيه، فيكون شاملاً له، كما هو واضح.

إلا أن الظاهر هو الالتـزام بالتفصيل، وذلك لأن الفاسق يمكن تقسيمه إلى قسمين:

الأول: الفاسق المعلن والمتجاهر بفسقه.

الثاني: الفاسق المتستر، وغير المعلن وليس متجاهراً بذلك.

أما الثاني، فالظاهر أن ما دل على وجوب الصلة شامل له بمقتضى إطلاقه، وهذا يعني وجوب صلته. نعم الكلام في الأول، فهل تجب صلته أيضاً كما تجب صلة الثاني، أم لا؟

إن المستفاد من النصوص الشريفة هو عدم جواز السلام عليه، فقد ورد في رواية مسعدة، عن جعفر بن محمد عن أبيه(ع) قال: لا تسلموا على اليهود ولا النصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثان، ولا على شراب الخمر، ولا على صاحب الشطرنج والنرد، ولا على المخنث، ولا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلي، وذلك أن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع، والرد فريضة، ولا على آكل الربا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلن بفسقه[1].

وعن محمد بن أحمد بن يحيى بإسناده رفعه إلى أمير المؤمنين(ع) قال: نهى رسول الله(ص)أن يسلم على أربعة: على السكران في سكره، وعلى من يعمل التماثيل، وعلى من يلعب النرد، وعلى من يلعب بالأربعة عشر، وأنا أزيدكم الخامسة أنهاكم أن تسلموا على أصحاب الشطرنج[2].

وعن الأصبغ بن نباتة عن علي(ع)-في حديث-قال: ستة لا ينبغي أن يسلم عليهم: اليهود والنصارى، وأصحاب النرد والشطرنج، وأصحاب الخمر والبربط والطنبور، والمتفكهون بسب الأمهات، والشعراء[3].

ولا يذهب عليك أن الخبرين الأخيرين وإن لم يتضمنا النص على المتجاهر بفسقه، إلا أن ما تضمناه من تعداد لجملة من المصاديق يمكن إدراجها جميعاً تحت هذا العنوان، وبكلمة، الظاهر أنه لا موضوعية لما ذكر من المصاديق في النصين، وإنما أشير إليهم على أنهم من أبرز ما يمثل عنوان المتجاهر بالفسق، فتأمل.

وكيف كان، فإن النص الأول صريح في النهي عن السلام على المتجاهر بفسقه، ووجود بعض الأمثلة التي لا يمكن البناء على حرمة السلام فيها، لتكون قرينة على الحمل على الكراهة يمكن التغلب عليها، كما لا يخفى.

ولا يخفى أنه وفقاً لما تضمنته النصوص السابقة، سوف يلتـزم بأن المتجاهر بالفسق لابد من صلته بدون السلام، وذلك من خلال السؤال عن أحواله مثلاً، والاستفسار عنها، أو بمشاركته في أفراحه وأحزانه، وما شابه ذلك.

ولو قيل، أن في المقام تزاحماً بين ما دل على لزوم الصلة، وما دل على حرمة السلام عليه، فيقدم الأهم وهو الصلة، لم يكن في ذلك ضير، فتأمل.

اللهم إلا أن يدعى أن المنع عن السلام عليه، إشارة إلى أدنى مراتب الصلة، فتأمل جيداً.

الثانية: إذا كانت الصلة تستلزم المعصية:

لو كان يستلزم من صلة الرحم ارتكاب معصية، فهل يكون المقدم هو الصلة، وبالتالي يكون امتثال الواجب هو المقدم، أم يكون المقدم هو ترك المعصية، ليكون اجتناب الحرام وتركه هو المقدم، مثلاً: لو منع الزوج زوجته من زيارة أهلها، أو منعها من مراسلتهم، أو منعها من التحدث إليهم ولو هاتفياً أو بأية وسيلة من الوسائل الممكنة، سواء كان الداعي إلى منعها من ذلك يعود لأمر مزاجي خاص، أو لوجود مشكلة بينه وبينهم، وسواء كانت المشكلة لها مبررها الشرعي كتعديهم على كرامته مثلاً، أم لم يكن لها ذلك، فأيهما يكون المقدم والحال هذه، هل يكون المقدم هو صلتهم لأنها واجبة، وبالتالي مخالفة الزوج، والتي تعتبر معصية، أم يكون التقديم لترك مخالفته حذراً من ارتكاب المعصية، وترك صلة الرحم؟

إن هذا مما يعبر عنه في علم الأصول بالتزاحم بين الحكمين، وقد قرر هناك أنه في مثل هذه الحالات يلتـزم بتقديم الأهم منهما.

أما لو كانا من حيث الأهمية في مستوى واحد، كان المكلف عندها بالخيار في العمل بأي منهما شاء. هذا كله بحسب الكبرى، أما بحسب الصغرى، وهي تطبيق ذلك في مقامنا، فهل يمكن إحراز أي الموردين هو الأهم، ومن ثم العمد إلى تقديمه، أم أنهما في مستوى واحد، فيكون الخيار للمكلف في العمل بأي منهما؟

لا يخفى أن المقام من الموارد التي يمكن فيها احراز الأهم منهما، وبالتالي يكون التقديم له، والظاهر أن الأهم هنا هو صلة الرحم، وعليه يلتـزم بأنه تجوز مخالفة الزوج، بل قد تكون مخالفته واجبة إذا كانت طاعته موجبة لحصول قطيعة الرحم، فلاحظ.

الثالثة: إذا أوجبت الصلة ضرراً:

إذا كانت صلة الرحم تستوجب ضرراً على الواصل، فهل تبقى على الوجوب، أم يحكم بعدم وجوبها حينئذٍ؟

ولا يذهب عليك أن الضرر في الأحكام الشرعية على أقسام:

منها: أن لا يكون الضرر في نفس الحكم ولا في مقدماته بحسب نوعه وطبعه، بل يتفق وجوده في بعض مصاديقه، كالوضوء فهو بذاته ليس ضررياً، نعم يلزم منه أو من مقدماته في بعض المصاديق الضرر كالوضوء في البرد.

ومنها: ما لا يكون منفكاً عن الضرر مثل الخمس، والحج، والجهاد، والحدود والديات، وغيرها من الأحكام الضررية.

ومنها: ما يشتمل القسمين السابقين معاً، كصلة الرحم، فبعض مراتبه سواء كان واجباً أم مستحباً لا ينفك عن الضرر كالصلة بالمال في ما وجب أو في ما استحب، أو الصلة بغير المال مما لا تنفك مقدماته عن الضرر كالسفر لزيارة الرحم.

فأما ما كان نوعه ضررياً كالصلة بالمال، فلا إشكال في وجوب الصلة لو كانت في مورد الوجوب، واستحبابها لو كان المورد مورد استحباب.

وكذلك ما كان الضرر في مقدماته، كالسفر لزيارة الرحم، ويشهد له رواية جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله(ص): أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة أن يصل الرحم ولو كانت منه على مسيرة سنة فإن ذلك من الدين[4].

ولا يخفى عليك أن السفر نظير الحج، يتوقف على صرف المال، فلاحظ.

أما لو كان ما ليس بنوعه كما لو استلزم دفع أجرة باهضة للسفر إلى صلة الرحم، وهي لا تتحمل عادة، فلا إشكال في حكومة قاعدة لا ضرر على كل ما دل على لزوم صلة الرحم، حكومة تضيـيق، لتكون النتيجة أن وجوب الصلة مشروط بما إذا لم يكن يترتب على ذلك ضرر، فلاحظ.

الرابعة: إذا ظن المكلف حصول الضرر من الصلة:

لو حصل للمكلف ظن مفاده أنه لو قام بصلة رحمه فإنه سوف يصيبه ضرر جراء ذلك، كما لو كان في نزاع مع أخيه، وقد ظن أنه لو قصده إلى منـزله كي يقوم بصلته، فإنه سوف يعمد إلى إهانته وطرده من بيته، أو كان مختلفاً مع أبيه في أمر من الأمور، وأنه لو قام بزيارته لأداء صلة رحمه فإنه سوف يضربه مما يوجب له ضرراً جراء ذلك، وهكذا، فهل يكون الظن بترتب الضرر على الصلة مانعاً من لزوم الصلة ووجوبها، أم لا؟

لا يخفى أنه لابد من التفصيل بين ما إذا كان الظن المشار إليه حجة، بأن كانت ناتجاً من قيام البينة الشرعية عليه، أو نتج من وجود اطمئنان به، فلا إشكال في حكومة قاعدة لا ضرر على ما دل على لزوم الصلة ووجوبها، كما أشير لذلك في المسألة السابقة، فتدبر.

وهذا بخلاف ما لو لم يكن الظن المذكور حجة، وإنما هو لا يتعدى مجدر احتمال وتخمين، فلا مجال لترتيب الأثر عليه، لرفع اليد عن لزوم الصلة، بل يبقى وجوبها منجزاً في حقه، ولا يركن لمثل هذا الظن، فلاحظ.

الخامسة: توقف الصلة على بذل المال:

إذا كانت صلة الرحم متوقفة على بذل المال، بمعنى أنه لا تصدق في بعض الموارد إلا بذلك، بحيث لو لم يبذل المال لم يصدق على الواصل أنه قد وصل رحمه، كما لو كان له قريب لا يقدر على نفقة نفسه، ولم يكن هناك باذل يبذل له نفقته، واحتاج بشدة إلى الإعانة وانفاق المال عليه، وكان الذي يريد صلته متمكناً قادراً على رفع احتياجه، وسوء حاله، فهل يكتفى والحال هذه بأي وسيلة من وسائل الصلة كالسلام، أو الزيارة، أم يلتـزم بأنه لا تتحقق الصلة في مثل هكذا مورد إلا بمعونته ورفع حاجته، بالإنفاق عليه؟

قد يتصور عدم لزوم بذل المال في مثل المورد، والاكتفاء بحصول الصلة بأي نحو من الأنحاء الأخرى. إلا أن الظاهر أن الصلة لا تصدق في مثل المقام إلا بإنفاق المال عليه وبذل له، و لا تصدق الصلة بغير ذلك، وهذا يعني أنه سوف يكون من الفرائض المالية غير الزكاة والخمس، صلة القرابة.

ثم إنه لو منع مما ذكرنا، وبني على المحتمل الأول من صدق الصلة بأي وسيلة من الوسائل الأخرى، وعدم توقفها على بذل المال، فلا ريب في وجوب بذله المال لرحمه من باب الإحسان، فلاحظ.

[1] وسائل الشيعة ب 28 من أبواب أحكام العشرة ح 7.

[2] المصدر السابق ح 3.

[3] المصدر السابق ح 6.

[4] أصول الكافي ج 2 ص 151.